ولما نهى الله المؤمنين عن توليهم ، أخبر أن ممن يدعي الإيمان طائفةً تواليهم ، فقال : { فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ ْ } أي : شك ونفاق ، وضعف إيمان ، يقولون : إن تولينا إياهم للحاجة ، فإننا { نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ ْ } أي : تكون الدائرة لليهود والنصارى ، فإذا كانت الدائرة لهم ، فإذا لنا معهم يد يكافؤننا عنها ، وهذا سوء ظن منهم بالإسلام ، قال تعالى -رادا لظنهم السيئ- : { فَعَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ ْ } الذي يعز الله به الإسلام على اليهود والنصارى ، ويقهرهم المسلمون { أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِندِهِ ْ } ييأس به المنافقون من ظفر الكافرين من اليهود وغيرهم { فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا ْ } أي : أضمروا { فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ ْ } على ما كان منهم وضرهم بلا نفع حصل لهم ، فحصل الفتح الذي نصر الله به الإسلام والمسلمين ، وأذل به الكفر والكافرين ، فندموا وحصل لهم من الغم ما الله به عليم .
وبعد هذا النهي الشديد عن موالاة أعداء الله ، صور القرآن حالة من حالات المنافقين بين فيها كيفية توليهم لأعداء الله ، وأشعر بسببه فقال : { فَتَرَى الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نخشى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ } .
والدائرة : من الصفات الغالبة التي لا يذكر معها موصوفها . وأصلها داورة . لأنها من دار يدور . ومعناها لغة : ما أحاط بالشيء . والمراد بها هنا : المصيبة من مصائب الدهر التي تحيط بالناس كما تحيط الدائرة بما في داخلها .
والمعنى : فترى - يا محمد أولئك المنافقين الذين ضعف إيمانهم ، وذهب يقينهم ، يسارعون في مناصرة أعداء الإِسلام مسارعة في الداخل في الشيء ، قائلين في أنفسهم أو للناصحين لهم بالثبات على الحق : اتركونا وشأننا فإننا نخشى أن تنزل بنا مصيبة من المصائب التي تدور بها الزمان كأن تمسنا أزمة مالية ، أو ضائقة اقتصادية ، أو أن يكون النصر في النهاية لهؤلاء الذين نواليهم فنحن نصادقهم ونصافيهم لنتقي شرهم ، ولننال عونهم عند الملمات والضوائق .
قال الجمل : والفاء في قوله { فَتَرَى } إما للسببية المحضة : أي : بسبب أن الله لا يهدي القوم الظالمين المتصفين بما ذكر { فَتَرَى الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ } وإما للعطف على قوله : { إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين } من حيث المعنى .
والرؤية في قوله ( ترى ) بصرية ، فتكون جملة يسارعون حال . وقيل علمية فتكون جملة يسارعون مفعولا ثانيا . والأول أنسب بظهور نفاقهم .
وقوله : { يَقُولُونَ نخشى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ } حال من ضمير يسارعون .
والتعبير بقوله : { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } تعبير قوي رائع ، وصف القرآن به المنافقين وأشباههم في الكفر والضلال في مواطن كثيرة ، لأنه لما كانت قوة القلب تضرب مثلا للثبات والتماسك .
كان ضعف القلب الذي عبر عنه بالمرض يضرب مثلا للخور ، والتردد والتزلزل ، وانهيار النفس .
وهذه طبيعة المنافقين ومن على شاكلتهم في كل زمان ومكان . إنهم لا يمكن أن يكونوا صرحاء في انحيازهم إلى ناحية معينة . وإنما هم يترددون بين الناحيتين ، ويلتمسون الحظوة في الجانبين - فهم كما يقال : يصلون خلف على ويأكلون على مائدة معاوية - وأبلغ من كل ذلك وصف الله لهم بقوله : { مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلك لاَ إلى هؤلاء } والتعبير بقوله - سبحانه - ترى . . تصوير للحال الواقعة منهم بأنها كالمرئية المكشوفة التي لا تخفى على العقلاء البصراء .
وفي ذلك تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وتحذير له ولأصحابه من مكر أولئك الذين في قلوبهم مرض .
والتعبير بقوله : { يُسَارِعُونَ فِيهِمْ } يشير إلى أنهم لا يدخلون ابتداء في صفوف الأعداء " وإنما هم منغمرون فيهم دائما " ولا يخرجون عن دائرتهم بل ينتقلون في صفوفهم بسرعة ونشاط من دركة إلى دركة ، ومن إثم إلى آثام .
وقوله - تعالى - حكاية عنهم : { يَقُولُونَ نخشى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ } بيان لما اعتذروا به من معاذير كاذبة تدل على سقوط همتهم ، وقلة ثقتهم بما وعد الله به المؤمنين من حسن العاقبة .
ولذا فقد رد الله عليهم بما يكتبهم ، وبما يزيدالمؤمنين إيمانا على إيمانهم فقال تعالى : { فَعَسَى الله أَن يَأْتِيَ بالفتح أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ على مَآ أَسَرُّواْ في أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ } .
وعسى : لفظ يدل على الرجاء والطمع في الحصول على المأمول ، وإذا صدر من الله - تعالى - كان متحقق الوقوع لأنه صادر من أكرم الأكرمين الذي لا يخلف وعده ، ولا يخيب من رجاه .
والفتح يطلق بمعنى التوسعة بعد الضيق كما في قوله : { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى آمَنُواْ واتقوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السمآء } ويطلق بمعنى الفصل بين الحق والباطل . ومن ذلك قوله - تعالى - : { رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق } ويطلق بمعنى الظفر والنصر كما في قوله - تعالى - { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } ولفظ الفتح هنا يشمل هذه الأمور الثلاثة فهو سبعة بعد ضيق ، وفصل بين حق وباطل ، ونصر بعد جهاد طويل .
والمعنى : لا تهتموا أيها المؤمنون بمسارعة هؤلاء الذين في قلوبهم مرض إلى صفوف أعدائكم وارتمائهم في أحضانهم خشية أن تصيبهم دائرة ، فلعل الله - عز وجل - بفضله وصدق وعده أن يأتي بالخير العميم والنصر المؤزر الذي يظهر دينه . ويجعل كلمته هي العليا . . أو يأتي بأمر من عنده لا أثر لكم فيه فيزلزل قلوب أعدائكم ، وينصركم عليهم ، ويجعل الهزيمة والندم للموالين لأعدائكم ، وبسبب شكهم في أن تكون العاقبة للإِسلام والمسلمين .
ولقد صدق الله وعده ، ففضح المنافقين وأذلهم ، وأنزل الهزيمة باليهود ، وأورث المؤمنين أرضهم وديارهم وأموالهم .
وقد جاء التعبير في قوله - تعالى - : { فَعَسَى الله أَن يَأْتِيَ بالفتح } بصيغة الرجاء ، لتعليم المؤمنين عدم اليأس من رحمة الله ، ومن مجيء نصره ، ولتعويدهم على أن يتوجهوا إليه - سبحانه - في مطالبهم بالرجاء الصادق ، والأمل الخالص .
قال الفخر الرازي : فإن قيل : شرط صحة التقسيم أن يكون ذلك بين قسمين متنافيين .
وقوله : { فَعَسَى الله أَن يَأْتِيَ بالفتح أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ } ليس كذلك ، لأن الإِتيان بالفتح داخل في قوله : { أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ } .
قلنا : قوله : { أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ } معناه : أو أمر من عنده لا يكون للناس فيه فعل ألبتة ، كبني النضير الذين طرح الله في قلوبهم الرعب فأعطوا بأيديهم من غير محاربة ولا عسكر .
والضمير في قوله : { فَيُصْبِحُواْ } يعود على أولئك المنافقين الذين في قلوبهم مرض والجملة معطوفة على { أَن يَأْتِيَ } داخل معه في حيز خبر عسى .
وعبر - سبحانه - عن ندمهم بالوصف { نَادِمِينَ } لا بالفعل ، للإيذان بأنه ندم دائم تصحبه الحسرات والآلام المستمرة ، بسبب ما وقعوا فيه من ظن فاسد ، وأمل خائب .
ويصور السياق القرآني تلك الحالة التي كانت واقعة ؛ والتي ينزل القرآن من أجلها بهذا التحذير :
( فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم ، يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة ) . .
روى ابن جرير ، قال : حدثنا أبو كريب ، حدثنا إدريس ، قال : سمعت أبي ، عن عطية بن سعد . قال : جاء عبادة بن الصامت من بني الحارث بن الخزرج إلى رسول الله [ ص ] فقال :
يا رسول الله . إن لي موالي من يهود كثير عددهم ؛ وإني أبرأ إلى الله ورسوله من ولاية يهود ، وأتولى الله ورسوله . فقال عبد الله بن أبي [ رأس النفاق ] : إني رجل أخاف الدوائر . لا أبرأ من ولاية موالي . فقال رسول الله [ ص ] لعبد الله بن أبي : " يا أبا الحباب . ما بخلت به من ولاية يهود على عبادة ابن الصامت فهو لك دونه " ! قال : قد قبلت ! فأنزل الله عز وجل : ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء )
وقال ابن جرير . " حدثنا هناد ، حدثنا يونس بن بكير ، حدثنا عثمان بن عبد الرحمن عن الزهري ، قال : لما انهزم أهل بدر قال المسلمون لأوليائهم من اليهود : أسلموا قبل أن يصيبكم الله بيوم مثل يوم بدر . فقال مالك بن الصيف : أغركم أن أصبتم رهطا من قريش ، لا علم لهم بالقتال ؟ أما لو أصررنا العزيمة أن نستجمع عليكم لم يكن لكم يد أن تقاتلونا . فقال عبادة بن الصامت : يا رسول الله إن أوليائي من اليهود كانت شديدة أنفسهم ، كثيرا سلاحهم ، شديدة شوكتهم . وإني أبرأ إلى الله ورسوله من ولاية يهود ، ولا مولى لي إلا الله ورسوله . فقال عبد الله بن أبي : لكني لا أبرأ من ولاية يهود . إني رجل لا بد لي منهم . فقال رسول الله [ ص ] : " يا أبا الحباب أرأيت الذي نفست به من ولاية يهود على عبادة ابن الصامت ؟ فهو لك دونه ! " فقال : إذن أقبل . .
قال محمد بن إسحق : فكانت أول قبيلة من اليهود نقضت ما بينها وبين رسول الله [ ص ] بنو قينقاع . فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة . قال : فحاصرهم رسول الله [ ص ] حتى نزلوا على حكمه . فقام إليه عبدالله بن أبي بن سلول - حين أمكنة الله منهم - فقال : يا محمد أحسن في موالي - وكانوا حلفاء الخزرج - قال : فأبطأ عليه رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - فقال : يا محمد أحسن في موالي . قال : فأعرض عنه . قال : فأدخل يده في جيب درع رسول الله [ ص ] فقال له رسول الله [ ص ] : " أرسلني " وغضب رسول الله [ ص ] حتى رأوا لوجهه ظللا . ثم قال : " ويحك ! أرسلني " . قال : لا والله لا أرسلك حتى تحسن في موالي . أربعمائة حاسر ، وثلاثمائه دارع ، قد منعوني من الأحمر والأسود ، تحصدهم في غداة واحدة ؟ إني امرؤ أخشى الدوائر . قال . فقال رسول الله [ ص ] : " هم لك " . .
قال محمد بن إسحق : فحدثني أبي إسحق بن يسار ، عن عبادة ، عن الوليد بن عبادة بن الصامت ، قال : لما حاربت بنو قينقاع رسول الله [ ص ] تشبث بأمرهم عبدالله بن أبى وقام دونهم ؛ ومشى عبادة بن الصامت إلى رسول الله [ ص ] وكان أحد بني عوف بن الخزرج . له من حلفهم مثل الذي لعبد الله بن أبي فجعلهم إلى رسول الله [ ص ] وتبرأ إلى الله ورسوله من حلفهم ، وقال : يا رسول الله أبرأ إلى الله ورسوله من حلفهم ، وأتولى الله ورسوله والمؤمنين ، وأبرأ من حلف الكفار وولايتهم . ففيه وفي عبدالله بن أبي نزلت الآية في المائدة : ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء ، بعضهم أولياء بعض ) إلى قوله : ( ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون )
وقال الإمام أحمد : حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا يحيى بن زكريا بن أبى زيادة ، عن محمد بن إسحاق ، عن الزهري ، عن عودة ، عن أسامة بن زيد ، قال : " دخلت مع رسول الله [ ص ] على عبدالله بن أبى نعوده ، فقال له النبي [ ص ] " قد كنت أنهاك عن حب يهود " فقال عبدالله : فقد أبغضهم أسعد بن زرارة فمات . . [ وأخرجه أبو داود من حديث محمد بن إسحق ]
فهذه الأخبار في مجموعها تشير إلى تلك الحالة التي كانت واقعة في المجتمع المسلم ؛ والمتخلفة عن الأوضاع التي كانت قائمة في المدينة قبل الإسلام ؛ وكذلك عن التصورات التي لم تكن قد حسمت في قضية العلاقات التي يمكن أن تقوم بين الجماعة المسلمة واليهود والتي لا يمكن أن تقوم . . غير أن الذي يلفت النظر أنها كلها تتحدث عن اليهود ، ولم يجى ء ذكر في الوقائع للنصارى . . ولكن النص يجمل اليهود والنصارى . . ذلك أنهبصدد إقامة تصور دائم وعلاقة دائمة وأوضاع دائمة بين الجماعة المسلمة وسائر الجماعات الأخرى ، سواء من أهل الكتاب أو من المشركين [ كما سيجيء في سياق هذا الدرس ] . . ومع اختلاف مواقف اليهود من المسلمين عن مواقف النصارى في جملتها في العهد النبوي ، ومع إشارة القرآن الكريم في موضع آخر من السورة إلى هذا الاختلاف في قوله تعالى : لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ، ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا : إنا نصارى . . . الخ . . مع هذا الاختلاف الذي كان يومذاك ، فإن النص هنا يسوي بين اليهود والنصارى - كما يسوي النص القادم بينهم جميعا وبين الكفار . . فيما يختص بقضية المحالفة والولاء . ذلك أن هذه القضية ترتكز على قاعدة أخرى ثابتة . هي : أن ليس للمسلم ولاء ولا حلف إلا مع المسلم ؛ وليس للمسلم ولاء إلا لله ولرسوله وللجماعة المسلمة . . ويستوي بعد ذلك كل الفرق في هذا الأمر . . مهما اختلفت مواقفهم من المسلمين في بعض الظروف . .
على أن الله - سبحانه - وهو يضع للجماعة المسلمة هذه القاعدة العامة الحازمة الصارمة ، كان علمه يتناول الزمان كله ، لا تلك الفترة الخاصة من حياة رسول الله [ ص ] وملابساتها الموقوتة . . وقد أظهر التاريخ الواقع فيما بعد أن عداء النصارى لهذا الدين وللجماعة المسلمة في معظم بقاع الأرض لم يكن أقل من عداء اليهود . . وإذا نحن استثنينا موقف نصارى العرب ونصارى مصر في حسن استقبال الإسلام ، فإننا نجد الرقعة النصرانية في الغرب ، قد حملت للإسلام في تاريخها كله منذ أن احتكت به من العداوة والضغن ، وشنت عليه من الحرب والكيد ، ما لا يفترق عن حرب اليهود وكيدهم في أي زمان ! حتى الحبشة التي أحسن عاهلها استقبال المهاجرين المسلمين واستقبال الإسلام ، عادت فإذا هي أشد حربا على الإسلام والمسلمين من كل أحد ؛ لا يجاريها في هذا إلا اليهود . .
وكان الله - سبحانه - يعلم الأمر كله . فوضع للمسلم هذه القاعدة العامة . بغض النظر عن واقع الفترة التي كان هذا القرآن يتنزل فيها وملابساتها الموقوتة ! وبغض النظر عما يقع مثلها في بعض الأحيان هنا وهناك إلى آخر الزمان .
وما يزال الإسلام والذين يتصفون به - ولو أنهم ليسوا من الإسلام في شيء - يلقون من عنت الحرب المشبوبة عليهم وعلى عقيدتهم من اليهود والنصارى في كل مكان على سطح الأرض ، ما يصدق قول الله تعالى :
( بعضهم أولياء بعض ) . . وما يحتم أن يتدرع المسلمون الواعون بنصيحة ربهم لهم . بل بأمره الجازم ، ونهيه القاطع ؛ وقضائه الحاسم في المفاصلة الكاملة بين أولياء الله ورسوله ، وكل معسكر آخر لا يرفع راية الله ورسوله . .
إن الإسلام يكلف المسلم أن يقيم علاقاته بالناس جميعا على أساس العقيدة . فالولاء والعداء لا يكونان في تصور المسلم وفي حركته على السواء إلا في العقيدة . . ومن ثم لا يمكن أن يقوم الولاء - وهو التناصر - بين المسلم وغير المسلم ؛ إذ أنهما لا يمكن أن يتناصرا في مجال العقيدة . . ولا حتى أمام الإلحاد مثلا - كما يتصور بعض السذج منا وبعض من لا يقرأون القرآن ! - وكيف يتناصران وليس بينهما أساس مشترك يتناصران عليه ؟
إن بعض من لا يقرأون القرآن ، ولا يعرفون حقيقة الإسلام ؛ وبعض المخدوعين أيضا . . يتصورون أن الدين كله دين ! كما أن الإلحاد كله إلحاد ! وأنه يمكن إذن أن يقف " التدين " بجملته في وجه الإلحاد . لأن الإلحاد ينكر الدين كله ، ويحارب التدين على الإطلاق . .
ولكن الأمر ليس كذلك في التصور الإسلامي ؛ ولا في حس المسلم الذي يتذوق الإسلام . ولا يتذوقالإسلام إلا من يأخذه عقيدة ، وحركة بهذه العقيدة ، لإقامة النظام الإسلامي .
إن الأمر في التصور الإسلامي وفي حس المسلم واضح محدد . . الدين هو الإسلام . . وليس هناك دين غيره يعترف به الإسلام . . لأن الله - سبحانه - يقول هذا . يقول : ( إن الدين عند الله الإسلام ) . . ويقول : ( ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه ) . . وبعد رسالة محمد [ ص ] لم يعد هناك دين يرضاه الله ويقبله من أحد إلا هذا " الإسلام " . . في صورته التي جاء بها محمد [ ص ] وما كان يقبل قبل بعثة محمد من النصارى لم يعد الآن يقبل . كما أن ما كان يقبل من اليهود قبل بعثة عيسى عليه السلام ، لم يعد يقبل منهم بعد بعثته . .
ووجود يهود ونصارى - من أهل الكتاب - بعد بعثه محمد [ ص ] - ليس معناه أن الله يقبل منهم ما هم عليه ؛ أو يعترف لهم بأنهم على دين إلهي . . لقد كان ذلك قبل بعثة الرسول الأخير . . أما بعد بعثته فلا دين - في التصور الإسلامي وفي حس المسلم - إلا الإسلام . . وهذا ما ينص عليه القرآن نصا غير قابل للتأويل . .
إن الإسلام لا يكرههم على ترك معتقداتهم واعتناق الإسلام . . لأنه ( لا إكراه في الدين ) ولكن هذا ليس معناه أنه يعترف بما هم عليه " ديناً ويراهم على دين " . .
ومن ثم فليس هناك جبهه تدين يقف معها الإسلام في وجه الإلحاد ! هناك " دين " هو الإسلام . . وهناك " لا دين " هو غير الإسلام . . ثم يكون هذا اللادين . . عقيدة أصلها سماوي ولكنها محرفه ، أو عقيده أصلها وثني باقيه على وثنيتها . أو إلحاداً ينكر الأديان . . تختلف فيما بينها كلها . . ولكنها تختلف كلها مع الإسلام . ولا حلف بينها وبين الإسلام ولا ولاء . .
والمسلم يتعامل مع أهل الكتاب هؤلاء ؛ وهو مطالب بإحسان معاملتهم - كما سبق - ما لم يؤذوه في الدين ؛ ويباح له أن يتزوج المحصنات منهن - على خلاف فقهي فيمن تعتقد بألوهية المسيح أو بنوته ، وفيمن تعتقد التثليث أهي كتابيه تحل أم مشركة تحرم - وحتى مع الأخذ بمبدأ تحليل النكاح عامه . . فإن حسن المعامله وجواز النكاح ، ليس معناها الولاء والتناصر في الدين ؛ وليس معناها اعتراف المسلم بأن دين أهل الكتاب - بعد بعثة محمد [ ص ] هو دين يقبله الله ؛ ويستطيع الإسلام أن يقف معه في جبهه واحدة لمقاومة الإلحاد !
إن الإسلام قد جاء ليصحح اعتقادات أهل الكتاب ؛ كما جاء ليصحح اعتقادات المشركين والوثنيين سواء .
ودعاهم إلى الإسلام جميعاً ، لأن هذا هو " الدين " الذي لا يقبل الله غيره من الناس جميعاً . ولما فهم اليهود أنهم غير مدعوين إلى الإسلام ، وكبر عليهم أن يدعوا إليه ، جابههم القرآن الكريم بأن الله يدعوهم إلى الإسلام ، فإن تولوا عنه فهم كافرون !
والمسلم مكلف أن يدعوا أهل الكتاب إلى الإسلام ، كما يدعو الملحدين والوثنيين سواء . وهو غير مأذون في أن يكره أحداً من هؤلاء ولا هؤلاء على الإسلام . لأن العقائد لا تنشأ في الضمائر بالإكراه . فالإكراه في الدين فوق أنه منهي عنه ، هو كذلك لا ثمره له .
ولا يستقيم أن يعترف المسلم بأن ما عليه أهل الكتاب - بعد بعثة محمد [ ص ] هو دين يقبله الله . . ثم يدعوهم مع ذلك إلى الإسلام ! . . إنه لا يكون مكلفاً بدعوتهم إلى الإسلام إلا على أساس واحد ؛ هو أنه لا يعترف بأن ما هم عليه دين . وأنه يدعوهم إلى الدين .
وإذا تقررت هذه البديهيه ، فإنه لا يكون منطقياً مع عقيدته إذا دخل في ولاء أو تناصر للتمكين للدين في الأرض ، مع من لا يدين بالإسلام .
إن هذه القضيه في الإسلام قضيه اعتقاديه إيمانيه . كما أنها قضيه تنظيميه حركيه !
من ناحيه أنها قضيه إيمانيه اعتقاديه نحسب أن الأمر قد صار واضحاً بهذا البيان اذي أسلفناه ، وبالرجوع إلى النصوص القرآنيه القاطعه بعدم قيام ولاء بين المسلمين وأهل الكتاب .
ومن ناحية أنها قضية تنظيمية حركية الأمر واضح كذلك . . فإذا كان سعي المؤمن كله ينبغي أن يتجه إلى إقامة منهج الله في الحياة - وهو المنهج الذي ينص عليه الإسلام كما جاء به محمد [ ص ] بكل تفصيلات وجوانب هذا المنهج ، وهي تشمل كل نشاط الإنسان في الحياة . . فكيف يمكن إذن أن يتعاون المسلم في هذا السعي مع من لا يؤمن بالإسلام دينا ومنهجا ونظاما وشريعة ؛ ومن يتجه في سعيه إلى أهداف أخرى - إن لم تكن معادية للإسلام وأهدافه فهي على الأقل ليست أهداف الإسلام - إذ الإسلام لا يعترف بهدف ولا عمل لا يقوم على أساس العقيدة مهما بدا في ذاته صالحا - ( والذين كفروا أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف ) . .
والإسلام يكلف المسلم أن يخلص سعيه كله للإسلام . . ولا يتصور إمكان انفصال أية جزئية في السعي اليومي في حياة المسلم عن الإسلام . . لا يتصور إمكان هذا إلا من لا يعرف طبيعة الإسلام وطبيعة المنهج الإسلامي . . ولا يتصور أن هناك جوانب في الحياة خارجة عن هذا المنهج يمكن التعاون فيها مع من يعادي الإسلام ، أو لا يرضى من المسلم إلا أن يترك إسلامه ، كما نص الله في كتابه على ما يطلبه اليهود والنصارى من المسلم ليرضوا عنه ! . . إن هناك استحالة اعتقادية كما أن هناك استحالة عملية على السواء . .
ولقد كان اعتذار عبدالله بن أبي بن سلول ، وهو من الذين في قلوبهم مرض ، عن مسارعته واجتهاده في الولاء ليهود ، والاستمساك بحلفه معها ، هي قوله : إنني رجل أخشى الدوائر ! إني أخشى أن تدور علينا الدوائر وأن تصيبنا الشدة ، وأن تنزل بنا الضائقة . . وهذه الحجة هي علامة مرض القلب وضعف الإيمان . . فالولي هو الله ؛ والناصر هو الله ؛ والاستنصار بغيره ضلالة ، كما أنه عبث لا ثمرة له . . ولكن حجة ابن سلول ، هي حجة كل بن سلول على مدار الزمان ؛ وتصوره هو تصور كل منافق مريض القلب ، لا يدرك حقيقة الإيمان . . وكذلك نفر قلب عبادة بن الصامت من ولاء يهود بعد ما بدا منهم ما بدا . لأنه قلب مؤمن فخلع ولاء اليهود وقذف به ، حيث تلقاه وضم عليه صدره وعض عليه بالنواجذ عبدالله بن أبى بن سلول !
إنهما نهجان مختلفان ، ناشئان عن تصورين مختلفين ، وعن شعورين متباينين ، ومثل هذا الاختلاف قائم على مدار الزمان بين قلب مؤمن وقلب لا يعرف الإيمان !
ويهدد القرآن المستنصرين بأعداء دينهم ، المتألبين عليهم ، المنافقين الذين لا يخلصون لله اعتقادهم ولا ولاءهم ولا اعتمادهم . . يهددهم برجاء الفتح أو أمر الله الذي يفصل في الموقف ؛ أو يكشف المستور من النفاق .
( فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده ، فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين )
وعندئذ - عند الفتح - سواء كان هو فتح مكة أو كان الفتح بمعنى الفصل أو عند مجيء أمر الله - يندم أولئك الذين في قلوبهم مرض ، على المسارعة والاجتهاد في ولاء اليهود والنصارى وعلى النفاق الذي انكشف أمره ، وعندئذ يعجب الذين آمنوا من حال المنافقين ، ويستنكرون ما كانوا فيه من النفاق وما صاروا إليه من الخسران !
{ فترى الذين في قلوبهم مرض } يعني ابن أبي وأضرابه . { يسارعون فيهم } أي في موالاتهم ومعاونتهم . { يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة } يعتذرون بأنهم يخافون أن تصيبهم دائرة من دوائر الزمان بأن ينقلب الأمر وتكون الدولة للكفار . روي ( أن عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن لي موالي من اليهود كثيرا عددهم ، وإني أبرأ إلى الله وإلى رسوله من ولايتهم وأوالي الله ورسوله ، فقال ابن أبي : إني رجل أخاف الدوائر ولا أبرأ من ولاية موالي ) فنزلت . { فعسى الله أن يأتي بالفتح } لرسول الله صلى الله عليه وسلم على أعدائه وإظهار المسلمين . { أو أمر من عنده } يقطع شأفة اليهود من القتل والإجلاء ، أو الأمر بإظهار أسرار المنافقين وقتلهم . { فيصبحوا } أي هؤلاء المنافقون . { على ما أسروا في أنفسهم نادمين } على ما استبطنوه من الكفر والشك في أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ، فضلا عما أظهروه مما أشعر على نفاقهم .
قوله : { فترى الّذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم } تفريع لحالة من موالاتهم أريد وصفها للنّبيء صلى الله عليه وسلم لأنّها وقعت في حضرته . والمرض هنا أطلق على النفاق كما تقدّم في قوله تعالى : { في قلوبهم مرض } في سورة البقرة ( 10 ) . أطلق عليه مرض لأنّه كفر مفسد للإيمان . والمسارعة تقدّم شرحها في قوله تعالى : { لا يحْزنك الّذين يسارعون في الكفر } [ المائدة : 41 ] . وفي المجرور مضاف محذوف دلّت عليه القرينة ، لأنّ المسارعة لا تكون في الذوات ، فالمعنى : يسارعون في شأنهم من موالاتهم أو في نصرتهم .
والقولُ الواقع في { يقولون نَخشى } قولُ لسان لأنّ عبد الله بن أبيّ بنَ سلول قال ذلك ، حسبما رُوي عن عطيّة الحوفي والزهري وعاصم بن عمر بن قتادة أنّ الآية نزلت بعد وقعة بدر أوبعد وقعة أحُد وأنّها نزلت حين عزم رسول الله على قتال بني قينقاع . وكان بنو قينقاع أحلافاً لعبد الله بن أبي بن سلول ولعُبادة بن الصامت ، فلمّا رأى عبادة منزع رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء فقال : يا رسول الله إنّي أبرأ إلى الله من حِلف يهود وولائهم ولا أوالي إلاّ الله ورسولَه ، وكان عبد الله بن أبيّ حاضراً فقال : أمَّا أنا فلا أبرأ من حلفهم فإنّي لا بدّ لي منهم إنّي رجل أخاف الدّوائر .
ويحتمل أن يكون قولهم : { نخشى أن تصيبنا دائرة } ، قولاً نفسياً ، أي يقولون في أنفسهم . فالدّائرة المخشيّة هي خشية انتقاض المسلمين على المنافقين ، فيكون هذا القول من المرض الّذي في قلوبهم ، وعن السديّ : أنّه لمّا وقع انهزام يوم أحُد فزع المسلمون وقال بعضهم : نأخذ من اليهود حلفاً ليُعاضدونا إن ألمّت بنا قاصمة من قريش . وقال رجل : إنّي ذاهب إلى اليهود فلان فآوي إليه وأتهوّدُ معه . وقال آخر : إنّي ذاهب إلى فلان النّصراني بالشّام فآوي إليه وأتنصّر معه ، فنزلت الآية . فيكون المرض هنا ضعف الإيمان وقلّة الثّقة بنصر الله ، وعلى هذا فهذه الآية تقدّم نزولها قبل نزول هذه السورة ، فإمّا أعيد نزولها ، وإمّا أمر بوضعها في هذا الموضع .
والظاهر أنّ قوله { فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسرّوا في أنفسهم نادمين } يؤيّد الرواية الأولى ، ويؤيّد مَحملنا فيها : أنّ القول قول نفسيّ .
والدائرة اسم فاعل من دار إذا عَكس سيره ، فالدائرة تغيّر الحال ، وغلب إطلاقها على تغيّر الحال من خير إلى شرّ ، ودوائر الدّهر : نُوبه ودولُه ، قال تعالى : { ويتربّص بكم الدوائر } [ التوبة : 98 ] أي تبدّل حالكم من نصر إلى هزيمة . وقد قالوا في قوله تعالى : { عليهم دائرة السَّوْء } [ الفتح : 6 ] إنّ إضافة ( دائرة ) إلى ( السَّوْء ) إضافة بيان . قال أبو عليّ الفارسي : لو لم تُضف الدائرة إلى السَّوْء عرف منها معناه . وأصل تأنيثها للمرّة ثمّ غلبت على التغيّر مُلازمة لصبغة التّأنيث .