{ 25 - 27 } { لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ * ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ }
يمتن تعالى على عباده المؤمنين ، بنصره إياهم في مواطن كثيرة من مواطن اللقاء ، ومواضع الحروب والهيجاء ، حتى في يوم { حنين } الذي اشتدت عليهم فيه الأزمة ، ورأوا من التخاذل والفرار ، ما ضاقت عليهم به الأرض على رحبها وسعتها .
وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة ، سمع أن هوازن اجتمعوا لحربه ، فسار إليهم صلى الله عليه وسلم في أصحابه الذين فتحوا مكة ، وممن أسلم من الطلقاء أهل مكة ، فكانوا اثني عشر ألفا ، والمشركون أربعة آلاف ، فأعجب بعض المسلمين بكثرتهم ، وقال بعضهم : لن نغلب اليوم من قلة .
فلما التقوا هم وهوازن ، حملوا على المسلمين حملة واحدة ، فانهزموا لا يلوي أحد على أحد ، ولم يبق مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ، إلا نحو مائة رجل ، ثبتوا معه ، وجعلوا يقاتلون المشركين ، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم ، يركض بغلته نحو المشركين ويقول : { أنا النبي لا كذب ، أنا ابن عبد المطلب }
ولما رأى من المسلمين ما رأى ، أمر العباس بن عبد المطلب أن ينادي في الأنصار وبقية المسلمين ، وكان رفيع الصوت ، فناداهم : يا أصحاب السمرة ، يا أهل سورة البقرة .
فلما سمعوا صوته ، عطفوا عطفة رجل واحد ، فاجتلدوا مع المشركين ، فهزم اللّه المشركين ، هزيمة شنيعة ، واستولوا على معسكرهم ونسائهم وأموالهم .
وذلك قوله تعالى { لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ } وهو اسم للمكان الذي كانت فيه الوقعة بين مكة والطائف .
{ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا } أي : لم تفدكم شيئا ، قليلا ولا كثيرا { وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ } بما أصابكم من الهم والغم حين انهزمتم { بِمَا رَحُبَتْ } أي : على رحبها وسعتها ، { ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ } أي : منهزمين .
ثم انتقلت السورة الكريمة من نهى المؤمنين عن موالاة المشركين مهما بالغت درجة قرابتهم ، وعن إيثارهم محبة الآباء والأبناء على محبة الله . . انتقلت من ذلك إلى تذكيرهم بجانب من نعم الله عليهم . حيث نصرهم - سبحانه - في حنين بعد أن ولوا مدبرين دون أن تنفعهم كثرتهم وقوتهم فقال - تعالى - : { لَقَدْ نَصَرَكُمُ الله . . . غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .
قال ابن كثير . هذه أول آية نزلت من براءة يذكر - تعالى - المؤمنين فضله عليهم وإحسانه لديهم في نصره إياهم في مواطن كثيرة من غزواتهم مع رسوله ، وأن ذلك من عنده - تعالى - : وبتأييده وتقديره لا بعددهم ، ونبههم إلى أن النصر من عند سواء قل الجمع أم كثر ، فإنهم يوم حنين أعجبتهم كثرتهم ومع هذا ما أجدى ذلك عنهم شيئاً فولوا مدبرين إلا القليل منهم . . . ثم أنزلا لله نصره على رسوله والمؤمنين .
" وقد كانت واقعة حنين بعد فتح مكة في شوال سنة ثمان من الهجرة : وذلك أنه لما فرغ - صلى الله عليه وسلم - من فتح مكة ، وتمهدت أمورها ، وأسلم عامة أهلها ، وأطلقهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم بلغه أن هوزان جمعوا له ليقاتلوه ، معهم ثقيف بكمالها وبنو سعد بن بكر .
فخرج إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جيشه الذي جاء للفتح وهو عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار وقبائل العرب ، ومعه الذين أسلموا من أهل مكة وهم الطلقاء في ألفين . فسار بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى العدو ، فالتقوا بواد بين مكة والطائف يقال له حنين ، فكانت فيه الموقعة في أول النهار في غلس الصبح .
انحدروا في الاودى وقد كمنت فيه هوزان ، فلما تواجهوا لم يشعر المسلمون إلا بهم قد بادروهم ، ورشقوا بالنبال ، وأصلتوا السيوف ، وحملوا حمله رجل واحد . . فعند ذلك ولى المسلمون الأدبار ، وثبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وثبت معه من أصحابه قريب من مائة .
ثم أمر - صلى الله عليه وسلم - عمه العباس - وكان جهير الصوت - أن ينادى بأعلى صوته يا أصحاب الشجرة - أى شجرة بيعة الرضوان التي بايعه المسلمون تحتها على أن لا يفروا عنه - فجعل ينادى بهم . . فجعلوا يقولون : ليبيك لبيك .
وانعطف الناس فتراجعوا . . فأمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يصدقوا الحملة ، وأخذ قبضة من تراب ثم رمى بها القوم ، فما بقى إنسان منهم إلا أصابه منها في عينيه وفمه ما شغله عن القتال ، ثم انهزموا فاتبع المسلمون أقفائهم يتقلون ويأسرون ، وما تراجع بقية الناس إلا والأسرى مجندلة بين ديدى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " .
هذه خلاصة لغزوة حنين التي اجتمع فيها للمسلمين - للمرة الأولى - جيش تعداده اثنا عشر ألفاً ، فلما أعجبتهم هذه الكثرة والقوة . . . أصيبوا بالهزيمة في أو معركة . . . ليعلموا أن كثرتهم لن تغنى عنهم شيئاً إذا لم يكن عون الله معهم .
فقوله - تعالى - : { لَقَدْ نَصَرَكُمُ الله فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً } تذكير للمؤمنين ببعض نعم الله عليهم ؛ حتى يداموا على طاعته ومحبته .
وحتى لا يغتروا بقوتهم مهما كثرت .
والمواطن : جمع موطن . وهو المكان الذي يقيم فيه الإِنسان . يقال : استوطن فلان بمكان كذا ، إذا جعله وطنا له .
والمراد بالمواطن هنا : الأماكن التي حدثت فيها الحروب بين المسلمين وأعدائهم .
قال الآلوسى : وقوله : { وَيَوْمَ حُنَيْنٍ } معطوف على محل مواطن وعطف ظرف الزمان على ظرف المكان وعكسه جائز . . . وأوجب الزمخشرى كون { يَوْمَ } منصوباً بفعل مضمر والعطف من قبيل عطف الجملة على الجملة . .
وقوله : { إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ } بدل من يوم حنين ، أو عطف بيان له .
وأعجبتكم : من الإِعجاب بمعنى السرور بما يتعجب منه . وسبب هذا الإِعجاب أن عدد المسلمين كان اثنا عشر ألفا ، وعددهم أعدائهم كان أربعة آلاف .
وقوله : { فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً } بيان للأثر السئ الذي أعقب الإِعجاب بالكثرة ، وأن سرورهم بهذه الكثرة لم يدم طويلاً ، بل تبعه الحزن والهزيمة .
وقوله : { تُغْنِ } من الغناء بمعنى النفع . تقول : ما يغنى عنه : هذا الشئ ، أى : ما يجزئ عنه وما ينفعك .
وقوله : { وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ } بيان لشدة خوفهم وفزعهم .
قال القرطبى : والرحب - بضم الراء - السعة . تقول منه : فلان رحب الصدر . والرحب - بالفتح - الواسع . تقول منه : بلد رحب وأرض رحبة .
وقيل : الباء بمعنى مع ، أى : وضاقت عليكم الأرض مع رحبها ، وقيل معنى على . أى : على رحبها . وقيل المعنى برحبها فتكون " ما " مصدرية .
والمعنى : اذكروا - أيها المؤمنون - نعم الله عليكم ، وحافظوا عليها بالشكر وحسن الطاعة ، ومن مظاهر هذه النعم أنه - سبحانه - قد نصركم على أعدائاكم مع قلتكم . في مواقف حروب كثيرة ؛ كغزوة بدر ، وغزوة بنى قينقاع والنضير . . كما نصركم . أيضاً . في يوم غزوة حنين ، وهو اليوم الذي راقتكم فيه كثرتكم فاعتمدتم عليها حتى قال بعضكم : لن نغلب اليوم من قلة . .
ولكن هذه الكثرة التي أعجبتم بها لم تنفعكم شيئاً من النفع في أمر العدو بل انهزمتم أمامه في أول الأمر ، وضاقت في وجوهكم الأرض مع رحابتها وسعتها بسبب شدة خوفكم ، فكنتم كما قال الشاعر :
كأن بلاد الله وهى عريضة . . . على الخائف المطلوب كِفَّة حابل
ووقوله : { ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ } تذييل مؤكد لما قبله وهو شدة خوفهم .
ووليتم : من التولى مبعنى الإِعراض . ومدبرين : من الإِبار بمعنى الذهاب إلى الخلف .
أى : ثم وليتم الكفار ظهوركم منهزمين لا تلوون على شئ .
وهكذا ، نرى الآية الكريمة تصور ما حدث من المؤمنين في غزوة حنين تصويراً بديعاً معجزاً . . فهى تنتقل من تصوير سرورهم بالكثرة ، إلى تصوير عدم نفعهم بهذه الكثرة ، إلى تصوير شدة خوفهم حتى لكأن الأرض على سعتها تضيق بهم ، وتقف في وجوههم ، إلى تصوير حركاتهم الحسية المتثلة في تولية الأدبار ، والنكوص على الأعقاب .
ثم لمسة للمشاعر بالذكرى ، وباستعراض صفحة من الواقع الذي عاشه المسلمون إذ ذاك منذ قريب . . المواطن التي نصرهم الله فيها ، ولم تكن لهم قوة ولا عدة . ويوم حنين الذي هزموا فيه بكثرتهم ثم نصرهم الله بقوته . يوم أن انضم إلى جيش الفتح ألفان فقط من الطلقاء ! يوم أن غفلت قلوب المسلمين لحظات عن الله مأخوذة بالكثرة في العدد والعتاد . ليعلم المؤمنون أن التجرد لله ، وتوثيق الصلة به هي عدة النصر التي لا تخذلهم حين تخذلهم الكثرة في العدد والعتاد ؛ وحين يخذلهم المال والإخوان والأولاد :
( لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ، ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا ، وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ، ثم وليتم مدبرين ؛ ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين ، وأنزل جنودا لم تروها ، وعذب الذين كفروا ، وبذلك جزاء الكافرين . ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء ، والله غفور رحيم ) .
ولقد كان نصر الله لهم في المواطن الكثيرة قريبا من ذاكرتهم لا يحتاج إلى أكثر من الإشارة . فأما وقعة حنين فكانت بعد فتح مكة في شوال سنة ثمان من الهجرة . وذلك لما فرغ [ ص ] من فتح مكة ، وتمهدت أمورها ، وأسلم عامة أهلها ، وأطلقهم رسول الله [ ص ] فبلغه أن هوازن جمعوا له ليقاتلوه ، وأن أميرهم مالك بن عوف النضري ، ومعه ثقيف بكمالها ، وبنو جشم ، وبنو سعد ابن بكر ، وأوزاع من بني هلال - وهم قليل - وناس من بني عمرو بن عامر وعوف بن عامر ؛ وقد أقبلوا ومعهم النساء والولدان والشاء والنعم ؛ وجاءوا بقضهم وقضيضهم . فخرج إليهم رسول الله [ ص ] في جيشه الذي جاء معه للفتح وهو عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار وقبائل العرب ، ومعه الذين أسلموا من أهل مكة ، وهم الطلقاء ، في ألفين ؛ فسار بهم إلى العدو ؛ فالتقوا بواد بين مكة والطائف يقال له " حنين " فكانت فيه الواقعة في أول النهار في غلس الصبح . انحدروا في الوادي وقد كمنت فيه هوازن ، فلما توجهوا لم يشعر المسلمون إلا بهم قد بادروهم ، ورشقوا بالنبال ، وأصلتوا السيوف ، وحملوا حملة رجل واحد كما أمرهم ملكهم . فعند ذلك ولى المسلمون مدبرين - كما قال الله عز وجل - وثبت رسول الله [ ص ] يومئذ وهو راكب بغلته الشهباء ، يسوقها إلى نحر العدو ، والعباس آخذ بركابها الأيمن ، وأبو سفيان بن الحارث بن عبدالمطلب آخذ بركابها الأيسر ، يثقلانها لئلا تسرع السير ، وهو ينوه باسمه - عليه الصلاة والسلام - ويدعو المسلمين إلى الرجعة ، ويقول : " إلي يا عباد الله . إلي أنا رسول الله " ويقول في تلك الحال : " أنا النبي لا كذب . أنا ابن عبدالمطلب " وثبت معه من أصحابه قريب من مائة ، ومنهم من قال ثمانون ؛ فمنهم أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما - والعباس وعلي والفضل بن عباس ، وأبو سفيان بن الحارث ، وأيمن بن أم أيمن ، وأسامة بن زيد ، وغيرهم - رضي الله عنهم - ثم أمر النبي [ ص ] عمه العباس وكان جهير الصوت أن ينادي بأعلى صوته : يا أصحاب الشجرة - يعني شجرة بيعة الرضوان التي بايعه المسلمون من المهاجرين والأنصار تحتها على ألا يفروا عنه - فجعل ينادي بهم : يا أصحاب السمرة ، ويقول تارة : يا أصحاب سورة البقرة . فجعلوا يقولون : يا لبيك ، يا لبيك . وانعطف الناس فتراجعوا إلى رسول - الله [ ص ] - حتى إن الرجل منهم إذا لم يطاوعه بعيره على الرجوع لبس درعه ثم انحدر عنه وأرسله ، ورجع بنفسه إلى رسول الله [ ص ] فلما اجتمعت شرذمة منهم عند رسول الله [ ص ] أمرهم رسول الله [ ص ] أن يصدقوا الحملة . . . وانهزم المشركون فأتبع المسلمون أقفاءهم يقتلون ويأسرون ، وما تراجع بقية الناس إلا والأسرى مجندلة بين يدي رسول الله [ ص ] .
هذه هي المعركة التي اجتمع فيها للمسلمين - للمرة الأولى - جيش عدته اثنا عشر ألفا فأعجبتهم كثرتهم ، وغفلوا بها عن سبب النصر الأول ، فردهم الله بالهزيمة في أول المعركة إليه ؛ ثم نصرهم بالقلة المؤمنة التي ثبتت مع رسول الله [ ص ] والتصقت به .
والنص يعيد عرض المعركة بمشاهدها المادية ، وبانفعالاتها الشعورية :
( إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا ، وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبري ) . .
فمن إنفعال الإعجاب بالكثرة ، إلى زلزلة الهزيمة الروحية ، إلى انفعال الضيق والحرج حتى لكأن الأرض كلها تضيق بهم وتشد عليهم . إلى حركة الهزيمة الحسية ، وتولية الأدبار والنكوص على الأعقاب . .
{ لقد نصركم الله في مواطن كثيرة } يعني مواطن الحرب وهي مواقفها . { ويوم حُنين } وموطن يوم حنين ويجوز أن يقدر في أيام مواطن أو يفسر الموطن بالوقت كمقتل الحسين ولا يمنع إبدال قوله : { إذ أعجبتكم كثرتكم } منه أن يعطف على موضع في { مواطن } فإنه لا يقتضي تشاركهما فيما أضيف إليه المعطوف حتى يقتضي كثرتهم وإعجابها إياهم في جميع المواطن . و{ حنين } واد بين مكة والطائف حارب فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون وكانوا اثني عشر ألفا ، العشرة الذين حضروا فتح مكة وألفان انضموا إليهم من الطلقاء هوازن وثقيفا وكانوا أربعة آلاف فلما التقوا قال النبي صلى الله عليه وسلم أو أبو بكر رضي الله تعالى عنه أو غيره من المسلمين : لن تغلب اليوم من قلة ، إعجابا بكثرتهم واقتتلوا قتالا شديدا فأدرك المسلمين إعجابهم واعتمادهم على كثرتهم فانهزموا حتى بلغ فلهم مكة وبقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مركزه ليس معه إلا عمه العباس آخذا بلجامه وابن عمه أبو سفيان بن الحارث ، وناهيك بهذا شهادة على تناهي شجاعته فقال للعباس - وكان صيتا – " صح بالناس " ، فنادى : يا عباد الله يا أصحاب الشجرة يا أصحاب سورة البقرة ، فكروا عنقا واحدا يقولون لبيك لبيك ونزلت الملائكة فالتقوا مع المشركين فقال صلى الله عليه وسلم هذا حين حمي الوطيس ، ثم أخذ كفا من تراب فرماهم ثم قال : " انهزموا ورب الكعبة " فانهزموا . { فلم تُغن عنكم } أي الكثرة . { شيئا } من الإغناء أو من أمر العدو . { وضاقت عليكم الأرض بما رحّبت } برحبها أي بسعتها لا تجدون فيها مفرا تطمئن إليه نفوسكم من شدة الرعب أو لا تثبتون فيها كمن لا يسعه مكانه . { ثم ولّيتم } الكفار ظهوركم . { مدبرين } منهزمين والإدبار الذهاب إلى خلف الإقبال .
هذه مخاطبة لجميع المؤمنين يعد الله نعمه عليهم ، و { مواطن } جمع موطِن بكسر الطاء ، والموطِن موضع الإقامة أو الحلول لأنه أول الإقامة ، و «المواطن » المشار إليها بدر والخندق والنضير وقريظة ، ولم يصرف { مواطن } لأنه جمع ونهاية جمع ، { ويوم } عطف على موضع قوله { في مواطن } أو على لفظة بتقدير وفي يوم ، فانحذف حرف الخفض ، و { حنين } واد بين مكة والطائف قريب من ذي المجاز وصرف حين أريد به الموضع والمكان ، ولو أريد به البقعة لم يصرف كما قال الشاعر [ حسان رضي الله عنه ] : [ الكامل ]
نصروا نبيَّهم وشدُّوا أزْرَه*** بحنينَ يومَ تَوَاكلِ الأبطالِ{[5580]}
وقوله { إذ أعجبتكم كثرتكم } روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال حين رأى حملته اثني عشر ألفاً قال : «لن نغلب اليوم من قلة » ، روي أن رجلاً من أصحابه قالها فأراد الله إظهار فأراد الله إظهار العجز فظهر حين فر الناس ، ثم عطف القدر بنصره ، وقوله { وضاقت عليكم الأرض بما رحبت } أي بقدر ما هي رحبة واسعة لشدة الحال وصعوبتها ، ف «ما » مصدرية ، وقوله { ثم وليتم مدبرين } يريد فرار الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم .
قال القاضي أبو محمد : واختصار هذه القصة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لما فتح مكة وكان في عشرة آلاف من أصحابه وانضاف إليه ألفان من الطلقاء فصار في اثني عشر ألفاً سمع بذلك كفار العرب فشق عليهم فجمعت له هوازن وألفافها وعليهم مالك بن عوف النصري وثقيف وعليهم عبد ياليل بن عمرو ، وانضاف إليهم أخلاط من الناس حتى كانوا ثلاثين ألفاً فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اجتمعوا بحنين ، فلما تصافَّ الناس حمل المشركون من مجاني الوادي ، فانهزم المسلمون ، قال قتادة : ويقال إن الطلقاء من أهل مكة فروا وقصدوا إلقاء الهزيمة في المسلمين ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلة شهباء ، وقال أبو عبد الرحمن الفهري : كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم ، يومئذ وكان على فرس قد اكتنفه العباس عمه وابن عمه أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب ، وبين يديه أيمن بن أم أيمن ، وثم قتل رحمه الله ، فلما رأى رسول الله عليه وسلم شدة الحال نزل عن بغلته إلى الأرض ، قاله البراء بن عازب ، واستنصر الله عز وجل فأخذ قبضة من تراب وحصى فرمى بها وجوه الكفار ، وقال : شاهت الوجوه ، وقال عبد الرحمن : تطاول من فرسه فأخذ قبضة التراب ونزلت الملائكة لنصره ونادى رسول الله صلى الله عليه وسلم يا للأنصار ، وأمر رسول الله عليه وسلم العباس أن ينادي أين أصحاب الشجرة أين أصحاب سورة البقرة ، فرجع الناس عنقاً واحداً{[5581]} وانهزم المشركون ، قال يعلى بن عطاء : فحدثني أبناؤهم قالوا لم يبق منا أحد إلا دخل في عينيه من ذلك التراب ، واستيعاب هذه القصة في كتاب السير .
وظاهر كلام النحاس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في أربعة عشر ألفاً ، وهذا غلط ، و { مدبرين } نصب على الحال المؤكدة كقوله : { وهو الحق مصدقاً }{[5582]} والمؤكدة هي التي يدل ما قبلها عليها كدلالة التولي على الإدبار .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{لقد نصركم الله في مواطن كثيرة} يعني يوم بدر، ويوم قريظة، ويوم النضير، ويوم خيبر، ويوم الحديبية، ويوم فتح مكة، ثم قال: {و} نصركم {ويوم حنين} وهو واد بين الطائف ومكة، {إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت}، يعني برحبها وسعتها، {ثم وليتم مدبرين} لا تلوون على شيء.
... لما انهزم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، قبضت أم سليم – امرأة أبي طلحة- على عنان بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قالت: يا رسول الله، مر بهؤلاء الذين انهزموا فنضرب رقابهم، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أو خير من ذلك يا أم سليم؟ ...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: لقد نصركم الله أيها المؤمنون في أماكن حرب توطنون فيها أنفسكم على لقاء عدوّكم ومشاهد تلتقون فيها أنتم وهم كثيرة. "وَيَوْمَ حُنَيْنٍ "يقول: وفي يوم حنين أيضا قد نصركم. وحنين: واد فيما ذكر بين مكة والطائف...
"إذْ أعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ" وكانوا ذلك اليوم -فيما ذكر لنا- اثني عشر ألفا. ورُوي أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال ذلكَ اليَوْم: «لَنْ نُغْلَبَ مِنْ قِلّةٍ». وقيل: قال ذلك رجل من المسلمين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قول الله: "إذْ أعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْن عَنْكُمْ شَيْئا" يقول: فلم تغن عنكم كثرتكم شيئا. "وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ" يقول: وضاقت الأرض بسعتها عليكم. والباء ههنا في معنى «في»، ومعناه: وضاقت عليكم الأرض في رحبها وبرحبها، يقال منه: مكان رحيب: أي واسع، وإنما سميت الرحاب رحابا لسعتها.
"ثُمّ وَلّيْتُمْ مُدْبِرِينَ" عن عدوّكم منهزمين مدبرين، يقول: وليتموهم الأدبار، وذلك الهزيمة. يخبرهم تبارك وتعالى أن النصر بيده ومن عنده، وأنه ليس بكثرة العدد وشدّة البطش، وأنه ينصر القليل على الكثير إذا شاء ويخلي القليل فيهزم الكثير...
عن قتادة، قوله: "لَقَدْ نَصَركُمُ اللّهُ في مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ..." حتى بلغ: "وَذلكَ جَزَاءُ الكافِرِينَ" قال: وحنين ماء بين مكة والطائف قاتل عليها نبيّ الله هوازن وثقيف... وذكر لنا أنه خرج يومئذ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنا عشر ألفا، عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار، وألفان من الطلقاء، وذكر لنا أن رجلاً قال يومئذ: لن نغلب اليوم بكثرة قال: وذُكر لنا أن الطلقاء انجفلوا يومئذ بالناس، وجلوا عن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل عن بغلته الشهباء. وذُكر لنا أن نبيّ الله قال: «أيْ ربّ آتِني ما وعَدْتَنِي» قال: والعباس آخذ بلجام بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: «نادِ يا مَعْشَرَ الأنْصارِ ويا مَعْشَر المُهاجِرِينَ» فجعل ينادي الأنصار فخذا فخذا، ثم نادي: يا أصحاب سورة البقرة قال: فجاء الناس عُنُقا واحدا. فالتفت نبيّ الله صلى الله عليه وسلم، وإذا عصابة من الأنصار، فقال: «هَلْ مَعَكُمْ غيرُكُمْ؟» فقالوا: يا نبيّ الله، والله لو عمدت إلى برك الغماد من ذي يمن لكنا معك، ثم أنزل الله نصره، وهزم عدوّهم، وتراجع المسلمون. قال: وأخذ رسول الله كفّا من تراب، أو قبضة من حصباء، فرمى بها وجوه الكفار، وقال: «شاهَتِ الوُجُوهُ» فانهزموا...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يذكرهم عز وجل منتهم عليهم وفضله: أن النصرة والظفر متى كان إنما كان بالله لا بكثرتهم وقوتهم؛ لأنه لو كان بالكثرة والقوة لم يكن للمسلمين قوة وكثرة ما كان يوم حنين ثم كانت الهزيمة عليهم في الابتداء لإعجابهم بالكثرة واعتمادهم عليها، ليعلم أن النصرة والظفر إنما يكون بالله لا بالقوة والكثرة لئلا يعتمدوا على الكثرة ولا يكلوا إليها.
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
{فلم تغن}: لم تدفع عنكم شيئا لشدة ما لحقكم من الخوف ضاقت عليكم الأرض على سعتها فلم تجدوا فيها موضعا يصلح لقراركم، {ثم وليتم مدبرين}: انهزمتم. أعلمهم الله تعالى أنهم ليسوا يغلبون بكثرتهم إنما يغلبون بنصر الله...
جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :
لما اتكل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين على قوتهم وكثرتهم، ونسوا فضل الله تعالى، وقالوا لا نغلب اليوم من قلة وُكلوا إلى أنفسهم فقال تعالى: {ويوم حنين إذا أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين}.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
هذه مخاطبة لجميع المؤمنين يعد الله نعمه عليهم و {مواطن} جمع موطِن بكسر الطاء، والموطِن موضع الإقامة أو الحلول لأنه أول الإقامة ...
وقوله {إذ أعجبتكم كثرتكم} روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال حين رأى حملته اثني عشر ألفاً قال: «لن نغلب اليوم من قلة»، روي أن رجلاً من أصحابه قالها فأراد الله إظهار فأراد الله إظهار العجز فظهر حين فر الناس، ثم عطف القدر بنصره، وقوله {وضاقت عليكم الأرض بما رحبت} أي بقدر ما هي رحبة واسعة لشدة الحال وصعوبتها...
وقوله {ثم وليتم مدبرين} يريد فرار الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم...
اعلم أنه تعالى ذكر في الآية المتقدمة أنه يجب الإعراض عن مخالطة الآباء والأبناء والإخوان والعشائر وعن الأموال والتجارات والمساكن، رعاية لمصالح الدين، ولما علم الله تعالى أن هذا يشق جدا على النفوس والقلوب، ذكر ما يدل على أن من ترك الدنيا لأجل الدين فإنه يوصله إلى مطلوبه من الدنيا أيضا، وضرب تعالى لهذا مثلا، وذلك أن عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في واقعة حنين كانوا في غاية الكثرة والقوة، فلما أعجبوا بكثرتهم صاروا منهزمين، ثم في حال الانهزام لما تضرعوا إلى الله قواهم حتى هزموا عسكر الكفار، وذلك يدل على أن الإنسان متى اعتمد على الدنيا فاته الدين والدنيا، ومتى أطاع الله ورجح الدين على الدنيا آتاه الله الدين والدنيا على أحسن الوجوه، فكان ذكر هذا تسلية لأولئك الذين أمرهم الله بمقاطعة الآباء والأبناء والأموال والمساكن، لأجل مصلحة الدين وتصبيرا لهم عليها، ووعدا لهم على سبيل الرمز بأنهم إن فعلوا ذلك فالله تعالى يوصلهم إلى أقاربهم وأموالهم ومساكنهم على أحسن الوجوه، هذا تقرير النظم وهو في غاية الحسن. المسألة الثانية: قال الواحدي: النصر: المعونة على العدو خاصة... المسألة الثالثة: لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، وقد بقيت أيام من شهر رمضان، خرج متوجها إلى حنين لقتال هوازن وثقيف. واختلفوا في عدد عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عطاء عن ابن عباس: كانوا ستة عشر ألفا، وقال قتادة: كانوا اثني عشر ألفا عشرة آلاف الذين حضروا مكة، وألفان من الطلقاء، وقال الكلبي: كانوا عشرة آلاف وبالجملة فكانوا عددا كثيرين، وكان هوازن وثقيف أربعة آلاف، فلما التقوا قال رجل من المسلمين: لن نغلب اليوم من قلة، فهذه الكلمة ساءت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي المراد من قوله: {إذ أعجبتكم كثرتكم} وقيل إنه قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل قالها أبو بكر. وإسناد هذه الكلمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيد... {فلم تغن عنكم شيئا} ومعنى الإغناء إعطاء ما يدفع الحاجة فقوله: {فلم تغن عنكم شيئا} أي لم تعطكم شيئا يدفع حاجتكم. والمقصود من هذا الكلام أن الله تعالى أعلمهم أنهم لا يغلبون بكثرتهم، وإنما يغلبون بنصر الله، فلما أعجبوا بكثرتهم صاروا منهزمين. واعلم أنه تعالى لما بين أن الكثرة لا تنفع، وأن الذي أوجب النصر ما كان إلا من الله ذكر أمورا ثلاثة: أحدها: إنزال السكينة والسكينة ما يسكن إليه القلب والنفس، ويوجب الأمنة والطمأنينة، وأظن وجه الاستعارة فيه أن الإنسان إذا خاف فر وفؤاده متحرك، وإذا أمن سكن وثبت، فلما كان الأمن موجبا للسكون جعل لفظ السكينة كناية عن الأمن.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان في بعض النفوس من الغرور بالكثرة ما يكسبها سكرة تغفلها عن بعض مواقع القدرة، ساق قصة حنين دليلاً على ذلك الذي أبهمه من التهديد جواباً لسائل كان كأنه قال: ما ذاك الأمر الذي يتربص لإتيانه ويخشى من عظيم شأنه؟ فقيل: الذل والهوان والافتقار والانكسار، فكأنه قيل: وكيف يكون ذلك؟ فقيل: بأن يسلط القدير عليكم -وإن كنتم كثيراً- أقوياء غيركم وإن كانوا قليلاً ضعفاء كما سلطكم -وقد كنتم كذلك- حتى صرتم إلى ما صرتم إليه {ويوم} أي ونصركم بعد أن قواكم وكثركم هو وحده، لا كثرتكم وقوتكم يوم {حنين} {بما رحبت} أي مع اتساعها فصرتم لا ترون أن فيها مكاناً يحصنكم مما أنتم فيه لفرط الرعب، فما ضاق في الحقيقة إلا ما كان من الآمال التي سكنت إلى الأموال والرجال..
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين (25) ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين (26) ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء والله غفور رحيم (27)}
هذه الآيات تذكير للمؤمنين بنصر الله لهم على أعدائهم في مواطن القتال الكثيرة معهم؛ إذ كان عددهم وعتادهم قليلا لا يرجى معه النصر بحسب الأسباب والعادة، وابتلائه إياهم بالتولي والهزيمة يوم حنين على عجبهم بكثرتهم ورضاهم عنها، ونصرهم من بعد ذلك بعناية خاصة من لدنه ليتذكروا أن عنايته تعالى وتأييده لرسوله وللمؤمنين بالقوى المعنوية أعظم شأنا وأدنى إلى النصر من القوة المادية، كالكثرة العددية وما يتعلق بها، وجعل هذا التذكير تاليا للنهي عن ولاية آبائهم وإخوانهم من الكفار، وللوعيد على إيثار حب القرابة والزوجية والعشيرة-ولو كانوا مؤمنين- والمال والسكن على حب الله ورسوله والجهاد في سبيله، تفنيدا لوسوسة شياطين الجن والإنس ـ من المنافقين ومرضى القلوب ـ لهم وإغرائهم باستنكار عود حالة الحرب مع المشركين وتنفيرهم من قتالهم لكثرتهم، ولقرابة بعضهم، ولكساد التجارة التي تكون معهم، وذلك بعد إقامة الدلائل على كون ذلك من الحق والعدل والمصلحة العامة في الدين والدنيا، وفي هذه الغزوة من العبر والحكم والأحكام ما ليس في غيرها، وسنبين المهم منه في إثر تفسير الآيات.
{لقد نصركم الله في مواطن كثيرة} الظاهر أن هذا الخطاب مما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقوله لجماعة المسلمين بالتبع لما قبله وفيهم بقية من المنافقين وضعفاء الإيمان، ولم يعطف عليه لأنه بيان مستأنف لإقامة الحجة على صحة ما قبله من نهي ووعيد، وأن الخير والمصلحة للمؤمنين في ترك ولاية أولي القربى من الكافرين، وفي إيثار حب الله ورسوله والجهاد في سبيله على حب أولي القربى والعشيرة والمال والسكن مما يحب للقوة والعصبية وللتمتع بلذات الدنيا، فإن نصر الله تعالى لهم في تلك المواطن الكثيرة لم يكن بقوة عصبية أحد منهم، ولا بقوة المال، وما يأتي به من الزاد والعتاد، وقد ترتب عليه من القوة والعزة والثروة ما لم يكن لهم مثله من قبل، ثم ترتب عليه من السيادة والملك بطاعة الله ورسوله ما هو أعظم من ذلك فيما بعد، ثم يكون له من الجزاء في الآخرة ما هو أعظم وأدوم، وإنما ذلك من فضل الله عليهم بهذا الرسول الذي جاءهم بهذا الدين القويم.
والمواطن جمع موطن، وهي مشاهد الحرب ومواقعها، والأصل فيه مقر الإنسان ومحل إقامته كالوطن، ووصفها بالكثيرة لأنها تشمل غزوات النبي صلى الله عليه وسلم وأكثر سراياه التي أرسل فيها بعض أصحابه ولم يخرج معهم، ولا يطلق اسم الغزوة ومثلها الغزاة والمغزى إلا على ما تولاه صلى الله عليه وسلم بنفسه من قصد الكفار إلى حيث كانوا من بلادهم أو غيرها... اختار بعض العلماء أن المغازي والسرايا كلها ثمانون.
ومن المعلوم أنه لم يقع فيها كلها قتال، فيقال: إنه تعالى نصرهم فيها، كما أن من المعلوم أنه تعالى نصرهم في كل قتال إما نصرا عزيزا مؤزّرا كاملا وهو الأكثر، ولا سيما بدر والخندق وغزوات اليهود والفتح، وإما نصرا مشوبا بشيء من التربية على ذنوب اقترفوها كما وقع في أحد؛ إذ نصرهم الله أولا، ثم أظهر العدو عليهم بمخالفتهم أمر القائد الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم في أمر من أهم أوامر الحرب وهو حماية الرماة لظهورهم كما تقدم تفصيله في سورة آل عمران وتفسيرها، وكما كان في حنين من الهزيمة في أثناء المعركة، والنصر العزيز التام في آخرها وهو ما بينه تعالى بقوله:
{ويوم حنين} أي ونصركم يوم حنين أيضا، وهو واد إلى جنب ذي المجاز قريب من الطائف، بينه وبين مكة بضعة عشر ميلا من جهة عرفات...
وقوله تعالى: {إذ أعجبتكم كثرتكم} بدل من يوم حنين، أو عطف بيان له، وحاصل معناه مع ما سبقه أنه نصركم في مواطن كثيرة ما كنتم تطمعون فيها بالنصر بمحض استعدادكم وقوتكم لقلة عددكم وعتادكم، ونصركم أيضا في يوم حنين، وهو اليوم الذي أعجبتكم فيه كثرتكم؛ إذ كنتم اثني عشر ألفا وكان الكافرون أربعة آلاف فقط، فقال قائلكم معبرا عن رأي الكثيرين الذين غرتهم الكثرة: لن نغلب اليوم من قلة، وقد زعم بعض رواة السيرة أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي قال هذا القول، ورده الرازي بأنه غير معقول، ونرده أيضا بأن المنقول الصحيح خلافه، وهو ما رواه يونس بن بكير في زيادات المغازي عن الربيع بن أنس قال: قال رجل يوم حنين: لن نغلب اليوم من قلة. فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم فكانت الهزيمة. اه أي وقعت بأسبابها، فكانت عقوبة على هذا الغرور والعجب الذي تشير إليه الكلمة، وتربية للمؤمنين، حتى لا يعودوا إلى الغرور بالكثرة؛ لأنها ليست إلا أحد الأسباب المادية الكثيرة للنصرة، وما تقدم بيانه من الأسباب المعنوية في سورة الأنفال أعظم، وقد قال تعالى حكاية عن المؤمنين الكاملين الذين يعلمون قيمة أسباب النصر المعنوية كالصبر والثقة بالله والاتكال عليه {قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين} [البقرة: 249] وكذلك وقعت الهزيمة بأسبابها في يوم أحد عقوبة وتربية كما تقدم في محله.
{فلم تغن عنكم شيئا} أي فلم تكن تلك الكثرة التي أعجبتكم وغرتكم كافية لانتصاركم؛ بل لم تدفع عنكم شيئا من عار الغلب والهزيمة.
{وضاقت عليكم الأرض بما رحبت} أي ضاقت عليكم الأرض برحبها وسعتها فلم تجدوا لكم فيها مذهبا ولا ملتحدا.
{ثم وليتم مدبرين} أي وليتم ظهوركم لعدوكم مدبرين لا تلوون على شيء.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
لما تضمّنت الآيات السابقة الحث على قتال المشركين ابتداء من قوله تعالى: {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} [التوبة: 5]، وكان التمهيد للإقدام على ذلك مدرَّجا بإبطال حرمة عهدهم لشركهم، وبإظهار أنّهم مضمرون العزم على الابتداء بنقض العهود التي بينهم وبين المسلمين لو قُدّر لهم النصر على المسلمين وآية ذلك: اعتداؤهم على خزاعة أحلاف المسلمين، وهمُّهم بإخراج الرسول عليه الصلاة والسلام من مكة بعد الفتح، حتى إذا انتهى ذلك التمهيد المدرج إلى الحثّ على قتالهم وضمان نصر الله المسلمين عليهم، وما اتّصل بذلك ممّا يثير حماسة المسلمين جاء في هذه الآية بشواهد ما سبق من نصر الله المسلمين في مواطن كثيرة، وتذكير بمقارنة التأييد الإلهي لحالة الامتثال لأوامره، وإنّ في غزوة حنين شواهد تشهد للحالين. فالكلام استئناف ابتدائي لمناسبة الغرض السابق.
وأسند النصر إلى الله بالصراحة لإظهار أنّ إيثار محبّة الله وإن كان يُفيت بعض حظوظ الدنيا، ففيه حظ الآخرة وفيه حظوظ أخرى من الدنيا وهي حظوظ النصر بما فيه: من تأييد الجامعة، ومن المغانم، وحماية الأمة من اعتداء أعدائها، وذلك من فضل الله إذ آثروا محبّته على محبّة علائقهم الدنيوية.
وأكّد الكلام ب {قد} لتحقيق هذا النصر لأنّ القوم كأنّهم نسوه أو شكّوا فيه فنزلوا منزلة من يحتاج إلى تأكيد الخبر.
و {مواطن}: جمع مَوْطِن، والموطن أصله مكان التوطّن، أي الإقامة. ويطلق على مقام الحرب وموقفها، أي نصركم في مواقع حروب كثيرة.
و {يومَ} معطوف على الجار والمجرور من قوله: {في مواطن} فهو متعلّق بما تعلّق به المعطوف عليه وهو {نصركم} والتقدير: ونَصَركم يومَ حنين وهو من جملة المواطن، لأنّ مواطن الحرب تقتضي أياماً تقع فيها الحرب، فتدلّ المواطن على الأيام كما تدلّ الأيام على المواطن، فلمّا أضيف اليوم إلى اسم مكانٍ علم أنّه موطِن من مواطن النصر ولذلك عطف بالواو لأنّه لو لم يعطف لتوهّم أنّ المواطن كلّها في يوم حنين، وليس هذا المراد. ولهذا فالتقدير: في مواطن كثيرة وأيامٍ كثيرة منها موطن حنين ويومُ حنين.
وتخصيص يوم حنين بالذكر من بين أيام الحروب: لأنّ المسلمين انهزموا في أثناء النصر ثم عادَ إليهم النصر، فتخصيصه بالذكر لما فيه من العبرة بحصول النصر عند امتثال أمر الله ورسوله عليه الصلاة والسلام وحصول الهزيمة عند إيثار الحظوظ العاجلة على الامتثال، ففيه مثَل وشاهد لحالتي الإيثارين المذكورين آنفاً في قوله تعالى: {أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله} [التوبة: 24] ليتنبّهوا إلى أنّ هذا الإيثار قد يعرض في أثناء إيثار آخر، فهم لَمَّا خرجوا إلى غزوة حنين كانوا قد آثروا محبّة الجهاد على محبّة أسبابهم وعلاقاتهم، ثم هم في أثناء الجهاد قد عاودهم إيثار الحظوظ العاجلة على امتثال أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم الذي هو من آثار إيثار محبّتها، وهي عبرة دقيقة حصل فيها الضّدان ولذلك كان موقع قوله: {إذ أعجبتكم كثرتكم} بديعاً لأنّه تنبيه على خطئِهم في الأدب مع الله المناسب لِمقامهم أي: ما كان ينبغي لكم أن تعتمدوا على كثرتكم.
...فذلك قوله تعالى: {وضاقت عليكم الأرض بما رحبت} وهذا التركيب تمثيل لحال المسلمين لمّا اشتدّ عليهم البأس واضطربوا ولم يهتدوا لدفع العدوّ عنهم، بحال من يرى الأرض الواسعةَ ضيّقةً.
فالضيق غير حقيقي بقرينة قوله: {بما رحبت} استعير {وضاقت عليكم الأرض بما رحبت} استعارة تمثيلية تمثيلاً لحال من لا يستطيع الخلاص من شدّة بسبب اختلال قوة تفكيره، بحال من هو في مكان ضَيِّق من الأرض يريد أن يخرج منه فلا يستطيع تجاوزه ولا الانتقال منه...
والتقدير: ضاقت عليكم الأرض حالة كونها ملابسة لرحبها أي سعتها: أي في حالة كونها لا ضيق فيها...وهذا أحسن من قول المفسّرين أنّ معنى {وضاقت عليكم الأرض بما رحبت}: لمْ تهتدوا إلى موضع من الأرض تفرّون إليه فكأنَّ الأرض ضاقت عليكم، ومنهم من أجمل فقال: أي لشدّة الحال وصعوبتها.
وموقع {ثُم} في قوله: {ثم وليتم مدبرين} موقع التراخي الرتبي، أي: وأعظم ممّا نالكم من الشرّ أن وليتم مدبرين.
والتولّي: الرجوع، و {مدبرين} حال: إمّا مؤكّدة لمعنى {وليتم} أو أريد بها إدبار أخص من التولّي، لأنّ التولّي مطلق يكون للهروب، ويكون للفرّ في حِيل الحروب، والإدبار شائع في الفرار الذي لم يقصد به حيلة فيكون الفرق بينه وبين التولّي اصطلاحاً حربياً.