تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{قَالَ لَقَدۡ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعۡجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِۦۖ وَإِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلۡخُلَطَآءِ لَيَبۡغِي بَعۡضُهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٍ إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ وَقَلِيلٞ مَّا هُمۡۗ وَظَنَّ دَاوُۥدُ أَنَّمَا فَتَنَّـٰهُ فَٱسۡتَغۡفَرَ رَبَّهُۥ وَخَرَّۤ رَاكِعٗاۤ وَأَنَابَ۩} (24)

فقال داود - لما سمع كلامه - ومن المعلوم من السياق السابق من كلامهما ، أن هذا هو الواقع ، فلهذا لم يحتج أن يتكلم الآخر ، فلا وجه للاعتراض بقول القائل : { لم حكم داود ، قبل أن يسمع كلام الخصم الآخر } ؟ { لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ } وهذه عادة الخلطاء والقرناء الكثير منهم ، فقال : { وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ } لأن الظلم من صفة النفوس . { إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } فإن ما معهم من الإيمان والعمل الصالح ، يمنعهم من الظلم . { وَقَلِيلٌ مَا هُمْ } كما قال تعالى { وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ } { وَظَنَّ دَاوُدُ } حين حكم بينهما { أَنَّمَا فَتَنَّاهُ } أي : اختبرناه ودبرنا عليه هذه القضية ليتنبه { فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ } لما صدر منه ، { وَخَرَّ رَاكِعًا } أي : ساجدا { وَأَنَابَ } للّه تعالى بالتوبة النصوح والعبادة .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{قَالَ لَقَدۡ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعۡجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِۦۖ وَإِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلۡخُلَطَآءِ لَيَبۡغِي بَعۡضُهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٍ إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ وَقَلِيلٞ مَّا هُمۡۗ وَظَنَّ دَاوُۥدُ أَنَّمَا فَتَنَّـٰهُ فَٱسۡتَغۡفَرَ رَبَّهُۥ وَخَرَّۤ رَاكِعٗاۤ وَأَنَابَ۩} (24)

وأمام هذه القضية الواضحة المعالم ، وأمام سكوت الأخ المدعى عليه أمام أخيه المدعى ، وعدم اعتراضه على قوله . . أمام كل ذلك . لم يلبث أن قال داود فى حكمه : { لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إلى نِعَاجِهِ . . } : واللام فى قوله : { لَقَدْ . . . } جواب لقسم محذوف . وإضافة " سؤال " إلى { نَعْجَتِكَ } من إضافة المصدر إلى مفعوله ، والفاعل محذوف . أى : بسؤاله ، كما فى قوله - تعالى - : { لاَّ يَسْأَمُ الإنسان مِن دُعَآءِ الخير } أى : من دعائه .

وقوله { نعاجه } متعلق بسؤال على تضمينه معنى الضم . أى : قال داود - عليه السلام - بعد فراغ المدعى من كلامه ، وبعد إقرار المدعى عليه بصدق أخيه فيما ادعاه - والله إن كان ما تقوله حقا - أيها المدعى - فإن أخاك فى هذه الحالة يكون قد ظلمك بسبب طلبه منك أن تتنازل له عن نعجتك لكى يضمها إلى نعاجة الكثيرة .

وإنما قلنا إن داود - عليه السلام - قد قال ذلك بعد إقرار المدعى عليه بصحة كلام المدعى ، لأنه من المعروف أن القاضى لا يحكم إلا بعد سماع حجة الخصوم أو الخصين حتى يتمكن من الحكم بالعدل .

ولم يصرح القرآن بأن داود - عليه السلام - قد قال حكمه بعد سماع كلام المدعى عليه ، لأنه مقرر ومعروف فى كل الشرائع ، وحذف ما هو مقرر ومعلوم جائز عند كل ذى عقل سليم .

ثم أراد داود - عليه السلام - وهو الذى آتاه الله الحكمة وفصل الخطاب - أراد أن يهون المسألة عن نفس المشتكى ، وأن يخفف من وقع ما قاله أخوه الغنى له ، وما فعله معه ، فقال : { وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الخلطآء ليبغي بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ . . . } .

أى : قال داود للمشتكى - على سبيل التسية له - : وإن كثيرا من الخلطاء ، أى الشركاء - جمع خليط ، وهو من يخلط ماله بمال غيره .

{ ليبغي بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ } أى : ليعتدى بعضهم على بعض ، ويطمع بعضهم فى مال الآخر { إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } فإنهم لا يفعلون ذلك لقوة إيمانهم ، ولبعدهم عن كل ما لا يرضى خالقهم ، فالجملة الكريمة منصوبة المحل على الاستثناء ، لأن الكلام قبلها تام موجب .

وقوله : { وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ } بيان لقلة عدد المؤمنين الصادقين الذين يعدلون فى أحكامهم .

ولفظ { قليل } خبر مقدم و " ما " مزيدة للإِبهام وللتعجب من قلتهم . و " هم " مبتدأ مؤخر .

فكأنه - سبحانه - يقول : ما أقل هؤلاء المؤمنين الذين يعملون الصالحات ويحرصون على إعطاء كل ذى حق حقه ، والجملة الكريمة اعتراض تذييلى .

وبهذا نرى أن داود - عليه السلام - قد قضى بين الخصمين ، بما يحق الحق ويبطل الباطل .

ثم بين - سبحانه - ما حاك بنفس داود - عليه السلام - بعد أن دخل عليه الخصمان ، وبعد أن حكم بينهما بالحكم السابق فقال : { وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فاستغفر رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ } .

والظن معناه : ترجيح أحد الأمرين على الآخر .

وفتناه : بمعنى امتحناه واختبرناه وابتليناه ، مأخوذ من الفتن بمعنى الابتلاء والاختبار .

أى : وظن داود - عليه السلام - أن دخول الخصمين عليه بهذه الطريقة ، إنما هو لأجل الاعتداء عليه . وأن ذلك لون من ابتلاء الله - تعالى - له ، وامتحانه لقوة إيمانه ، ولكن لما لم يتحقق هذا الظن ، وإنما الذى تحقق هو القضاء بينهما بالعدل ، استغفر رببه من ذلك الظن ، { وَخَرَّ رَاكِعاً } أى : ساجدا لله - تعالى - وعبر عنه بالركوع لأنه فى كل منهما انحناء وخضوع لله - عز وجل - { وأناب } أى : ورجع داود إلى الله - تعالى - بالتوبة وبالمداومة على العبادة والطاعة .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{قَالَ لَقَدۡ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعۡجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِۦۖ وَإِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلۡخُلَطَآءِ لَيَبۡغِي بَعۡضُهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٍ إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ وَقَلِيلٞ مَّا هُمۡۗ وَظَنَّ دَاوُۥدُ أَنَّمَا فَتَنَّـٰهُ فَٱسۡتَغۡفَرَ رَبَّهُۥ وَخَرَّۤ رَاكِعٗاۤ وَأَنَابَ۩} (24)

17

ومن ثم اندفع داود يقضي على إثر سماعه لهذه المظلمة الصارخة ؛ ولم يوجه إلى الخصم الآخر حديثاً ، ولم يطلب إليه بياناً ، ولم يسمع له حجة . ولكنه مضى يحكم : قال : لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه . وإن كثيراً من الخلطاء - [ أي الأقوياء المخالطين بعضهم لبعض ] - ليبغي بعضهم على بعض . إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم . .

ويبدو أنه عند هذه المرحلة اختفى عنه الرجلان : فقد كانا ملكين جاءا للامتحان ! امتحان النبي الملك الذي ولاه الله أمر الناس ، ليقضي بينهم بالحق والعدل ، وليتبين الحق قبل إصدار الحكم . وقد اختارا أن يعرضا عليه القضية في صورة صارخة مثيرة . . ولكن القاضي عليه ألا يستثار ، وعليه ألا يتعجل . وعليه ألا يأخذ بظاهر قول واحد . قبل أن يمنح الآخر فرصة للإدلاء بقوله وحجته ؛ فقد يتغير وجه المسألة كله ، أو بعضه ، وينكشف أن ذلك الظاهر كان خادعاً أو كاذباً أو ناقصاً !

عند هذا تنبه داود إلى أنه الابتلاء :

( وظن داود أنما فتناه ) . .

وهنا أدركته طبيعته . . إنه أواب . . ( فاستغفر ربه وخرّ راكعاً وأناب ) . .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{قَالَ لَقَدۡ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعۡجَتِكَ إِلَىٰ نِعَاجِهِۦۖ وَإِنَّ كَثِيرٗا مِّنَ ٱلۡخُلَطَآءِ لَيَبۡغِي بَعۡضُهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضٍ إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ وَقَلِيلٞ مَّا هُمۡۗ وَظَنَّ دَاوُۥدُ أَنَّمَا فَتَنَّـٰهُ فَٱسۡتَغۡفَرَ رَبَّهُۥ وَخَرَّۤ رَاكِعٗاۤ وَأَنَابَ۩} (24)

{ قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه } جواب قسم محذوف قصد به المبالغة في إنكار فعل خليطه وتهجين طمعه ولعله قال ذلك بعد اعترافه ، أو على تقدير صدق المدعي والسؤال مصدر مضاف إلى مفعوله وتعديته إلى مفعول آخر بإلى لتضمنه معنى الإضافة . { وإن كثيرا من الخلطاء } الشركاء الذين خلطوا أموالهم جمع خليط { ليبغي } ليتعدى . { بعضهم على بعض } وقرئ بفتح الياء على تقدير النون الخفيفة وحذفها كقوله :

اضرب عنك الهموم طارقها *** . . . . . . . . . . . . . . .

وبحذف الياء اكتفاء بالكسرة . { إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم } أي وهم قليل ، و{ ما } مزيدة للإبهام والتعجب من قلتهم . { وظن داود أنما فتناه } ابتليناه بالذنب أو امتحناه بتلك الحكومة هل يتنبه بها . { فاستغفر ربه } لذنبه . { وخر راكعا } ساجدا على تسمية السجود ركوعا لأنه مبدؤه ، أو خر للسجود راكعا أي مصليا كأنه أحرم بركعتي الاستغفار . { وأناب } ورجع إلى الله بالتوبة ، وأقصى ما في هذه القضية الإشعار بأنه عليه الصلاة والسلام ود أن يكون له ما لغيره ، وكان له أمثاله فنبهه الله بهذه القصة فاستغفر وأناب عنه . وما روي أن بصره وقع على امرأة فعشقها وسعى حتى تزوجها وولدت منه سليمان ، إن صح فلعله خطب مخطوبته أو استنزله عن زوجته ، وكان ذلك معتادا فيما بينهم وقد واسى الأنصار المهاجرين بهذا المعنى . وما قيل إنه أرسل أوريا إلى الجهاد مرارا وأمر أن يقدم حتى قتل فتزوجها هزء وافتراء ، ولذلك قال علي رضي الله عنه : من حدث بحديث داود عليه السلام على ما يرويه القصاص جلدته مائة وستين . وقيل إن قوما قصدوا أن يقتلوه فتسوروا المحراب ودخلوا عليه فوجدوا عنده أقواما فتصنعوا بهذا التحاكم فعلم غرضهم وأراد أن ينتقم منهم ، فظن أن ذلك ابتلاء من الله له { فاستغفر ربه } مما هم به { وأناب } .