تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَتَحۡسَبُهُمۡ أَيۡقَاظٗا وَهُمۡ رُقُودٞۚ وَنُقَلِّبُهُمۡ ذَاتَ ٱلۡيَمِينِ وَذَاتَ ٱلشِّمَالِۖ وَكَلۡبُهُم بَٰسِطٞ ذِرَاعَيۡهِ بِٱلۡوَصِيدِۚ لَوِ ٱطَّلَعۡتَ عَلَيۡهِمۡ لَوَلَّيۡتَ مِنۡهُمۡ فِرَارٗا وَلَمُلِئۡتَ مِنۡهُمۡ رُعۡبٗا} (18)

{ وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ } أي : تحسبهم أيها الناظر إليهم [ كأنهم ]{[486]} أيقاظ ، والحال أنهم نيام ، قال المفسرون : وذلك لأن أعينهم منفتحة ، لئلا تفسد ، فالناظر إليهم يحسبهم أيقاظا ، وهم رقود ، { وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ } وهذا أيضا من حفظه لأبدانهم ، لأن الأرض من طبيعتها ، أكل الأجسام المتصلة بها ، فكان من قدر الله ، أن قلبهم على جنوبهم يمينا وشمالا ، بقدر ما لا تفسد الأرض أجسامهم ، والله تعالى قادر على حفظهم من الأرض ، من غير تقليب ، ولكنه تعالى حكيم ، أراد أن تجري سنته في الكون ، ويربط الأسباب بمسبباتها .

{ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ } أي : الكلب الذي كان مع أصحاب الكهف ، أصابه ما أصابهم من النوم وقت حراسته ، فكان باسطا ذراعيه بالوصيد ، أي : الباب ، أو فنائه ، هذا حفظهم من الأرض . وأما حفظهم من الآدميين ، فأخبر أنه حماهم بالرعب ، الذي نشره الله عليهم ، فلو اطلع عليهم أحد ، لامتلأ قلبه رعبا ، وولى منهم فرارا ، وهذا الذي أوجب أن يبقوا كل هذه المدة الطويلة ، وهم لم يعثر عليهم أحد ، مع قربهم من المدينة جدا ، والدليل على قربهم ، أنهم لما استيقظوا ، أرسلوا أحدهم ، يشتري لهم طعاما من المدينة ، وبقوا في انتظاره ، فدل ذلك على شدة قربهم منها .


[486]:في النسختين: كأنه.
 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَتَحۡسَبُهُمۡ أَيۡقَاظٗا وَهُمۡ رُقُودٞۚ وَنُقَلِّبُهُمۡ ذَاتَ ٱلۡيَمِينِ وَذَاتَ ٱلشِّمَالِۖ وَكَلۡبُهُم بَٰسِطٞ ذِرَاعَيۡهِ بِٱلۡوَصِيدِۚ لَوِ ٱطَّلَعۡتَ عَلَيۡهِمۡ لَوَلَّيۡتَ مِنۡهُمۡ فِرَارٗا وَلَمُلِئۡتَ مِنۡهُمۡ رُعۡبٗا} (18)

ثم صور - سبحانه - بعد ذلك مشهدا عجيبا من أحوال هؤلاء الفتية فقال : { وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ . . . } .

والحسبان بمعنى الظن ، والأيقاظ جمع يقظ وهو ضد النائم ، والرقود : جمع راقد والمراد به هنا : النائم .

أى : وتظنهم - أيها المخاطب لو قدر لك أن تراهم - أيقاظا منتبهين ، والحال أنهم رقود أى : نيام .

وقالوا : وسبب هذا الظن والحسبان ، أن عيونه كانت مفتوحة ، وأنهم كانوا يتقلبون من جهة إلى جهة ، كما قال - تعالى - بعد ذلك : { وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ اليمين وَذَاتَ الشمال } .

أى : ونحركهم وهم رقود إلى الجهة التى تلى أيمانهم ، وإلى الجهة التى تلى شمائلهم ، رعاية منا لأجسامهم حتى لا تأكل الأرض شيئا منها بسبب طول رقادهم عليهم .

وعدد مرات هذا التقليب لا يعلمه إلا الله - تعالى - وما أورده المفسرون فى ذلك لم يثبت عن طريق النقل الصحيح ، لذا ضربنا صفحا عنه .

ثم بين - سبحانه - حالة - كلبهم فقال : { وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بالوصيد } .

والمراد بالوصيد - على الصحيح - فناء الكهف قريبا من الباب ، أو هو من الباب نفسه ، ومنه قول الشاعر : بأرض فضاء لا يسد وصيدها . أى : لا يسد بابها .

أى : وكلبهم الذى كان معهم فى رحلتهم ماد ذراعيه بباب الكهف حتى لكأنه يحرسهم ويمنع من الوصول إليهم .

وما ذكره بعض المفسرين هنا عن اسم الكلب وصفاته ، لم نهتم بذكره لعدم فائدته .

ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { لَوِ اطلعت عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً } .

أى . لو عاينتهم وشاهدتهم - أيها المخاطب - لأعرضت بوجهك عنهم من هول ما رأيت . ولملئ قلبك خوفا ورعبا من منظرهم .

وقد أخذ العلماء من هذه الآية أحكاماً منها : أن صحبة الأخيار لها من الفوائد ما لها .

قال ابن كثير - رحمه الله - ربض كلبهم على الباب كما جرت به عادة الكلاب وهذا من سجيته وطبيعته حيث يربض ببابهم كأنه يحرسهم ، وكان جلوسه خارج الباب . لأن الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب - كما ورد فى الصحيح . . وشملت كلبهم بركتهم ، فأصابه ما أصابهم من النوم على تلك الحال ، وهذا فائدة صحبة الأخيار ، فإنه صار لهذا الكلب ذكر وخبر وشأن .

وقال القرطبى - رحمه الله - ما ملخصه : قال ابن عطية : وحدثنى أبى قال : سمعت أبا الفضل الجوهرى فى جامع مصر يقول على منبر وعظه سنة تسع وستين وأربعمائة : إن من أحب أهل الخير نال من بركتهم ، كلب أحب أهل فضل وصحبهم فذكره الله فى محكم تنزيله .

قلت - أى القرطبى - : إذا كان بعض الكلام نال هذه الدرجة العليا بصحبة ومخالطة الصلحاء والأولياء حتى أخبر الله بذلك فى كتابه ، فما ظنك بالمؤمنين المخالطين المحبين للأولياء . والصالحين ! ! بل فى هذا تسلية وأنس للمؤمنين المقصرين عن درجات الكلمات : المحبين للنبى صلى الله عليه وسلم وآله خير آله .

روى فى الصحيح عن أنس قال : " بينا أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم خارجان من المسجد ، فلقينا رجل عند سدة المسجد ، فقال : يا رسول الله . متى الساعة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما أعدَدْتَ لها ؟ " قال : فكأن الرجل استكان ، ثم قال : يا رسول الله ، ما أعددت لها كثير صلاة ولا صيام ولا صدقة ، ولكنى أحببت الله ورسوله : قال صلى الله عليه وسلم : " فأنت مع من أحببت " "

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَتَحۡسَبُهُمۡ أَيۡقَاظٗا وَهُمۡ رُقُودٞۚ وَنُقَلِّبُهُمۡ ذَاتَ ٱلۡيَمِينِ وَذَاتَ ٱلشِّمَالِۖ وَكَلۡبُهُم بَٰسِطٞ ذِرَاعَيۡهِ بِٱلۡوَصِيدِۚ لَوِ ٱطَّلَعۡتَ عَلَيۡهِمۡ لَوَلَّيۡتَ مِنۡهُمۡ فِرَارٗا وَلَمُلِئۡتَ مِنۡهُمۡ رُعۡبٗا} (18)

ثم يمضي السياق يكمل المشهد العجيب . وهم يقلبون من جنب إلى جنب في نومتهم الطويلة . فيحسبهم الرائي أيقاظا وهم رقود . وكلبهم - على عادة الكلاب - باسط ذراعيه بالفناء قريبا من باب الكهف كأنه يحرسهم . وهم في هيئتهم هذه يثيرون الرعب في قلب من يطلع عليهم . إذ يراهم نياما كالأيقاظ ، يتقلبون ولا يستيقظون . وذلك من تدبير الله كي لا يبعث بهم عابث ، حتى يحين الوقت المعلوم .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَتَحۡسَبُهُمۡ أَيۡقَاظٗا وَهُمۡ رُقُودٞۚ وَنُقَلِّبُهُمۡ ذَاتَ ٱلۡيَمِينِ وَذَاتَ ٱلشِّمَالِۖ وَكَلۡبُهُم بَٰسِطٞ ذِرَاعَيۡهِ بِٱلۡوَصِيدِۚ لَوِ ٱطَّلَعۡتَ عَلَيۡهِمۡ لَوَلَّيۡتَ مِنۡهُمۡ فِرَارٗا وَلَمُلِئۡتَ مِنۡهُمۡ رُعۡبٗا} (18)

ذكر بعض أهل العلم أنهم لما ضرب الله على آذانهم بالنوم ، لم تنطبق{[18039]} أعينهم ؛ لئلا{[18040]} يسرع إليها البلى ، فإذا بقيت ظاهرة للهواء كان أبقى لها ؛ ولهذا قال تعالى : { وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ } وقد ذكر عن الذئب أنه ينام فيطبق عينًا ويفتح عينًا ، ثم يفتح هذه ويطبق هذه وهو راقد ، كما قال الشاعر{[18041]}

يَنَامُ بإحْدَى مُقْلتَيه وَيَتَّقِي *** بأخْرَى الرزايا فَهْوَ يَقْظَانُ نَائِمُ

وقوله تعالى : { وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ } قال بعض السلف : يقلبون في العام مرتين . قال ابن عباس : لو لم يقلبوا{[18042]} لأكلتهم الأرض .

وقوله : { وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ } قال ابن عباس ، وقتادة ومجاهد وسعيد بن جبير{[18043]} الوصيد : الفناء .

وقال ابن عباس : بالباب . وقيل : بالصعيد ، وهو التراب . والصحيح أنه بالفناء ، وهو الباب ، ومنه قوله تعالى : { إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ } [ الهمزة : 8 ] أي : مطبقة مغلقة . ويقال : " وَصِيد " و " أصيد " .

ربض كلبهم على الباب كما جرت به عادة الكلاب .

قال ابن جريج{[18044]} يحرس عليهم الباب . وهذا من سجيته وطبيعته ، حيث يربض{[18045]} ببابهم كأنه يحرسهم ، وكان جلوسه خارج الباب ؛ لأن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه كلب - كما ورد في الصحيح{[18046]} - ولا صورة ولا جُنُب ولا كافر ، كما ورد به الحديث الحسن{[18047]} وشملت كلبهم بركتهم ، فأصابه ما أصابهم من النوم على تلك الحال . وهذا فائدة صحبة الأخيار ؛ فإنه صار لهذا الكلب ذكر وخبر وشأن .

وقد قيل : إنه كان كلب صيد لأحدهم ، وهو الأشبه . وقيل : كان كلب طباخ الملك ، وقد كان وافقهم على الدين فصحبه كلبه فالله أعلم .

وقد روى الحافظ ابن عساكر في ترجمة " همام بن الوليد الدمشقي " : حدثنا صَدَقَة بن عمر الغَسَّاني ، حدثنا عباد المِنْقَري ، سمعت الحسن البصري ، رحمه الله ، يقول : كان اسم كبش إبراهيم : جرير واسم هدهد سليمان : عَنْقَز ، واسم كلب أصحاب الكهف : قطمير ، واسم عجل بني إسرائيل الذي عبدوه : بهموت . وهبط آدم ، عليه السلام ، بالهند ، وحواء بجدة ، وإبليس بدست بيسان ، والحية بأصبهان{[18048]}

وقد تقدم{[18049]} عن شعيب الجبائي أنه سماه : حمران .

واختلفوا في لونه{[18050]} على أقوال لا حاصل لها ، ولا طائل تحتها ولا دليل عليها ، ولا حاجة إليها ، بل هي مما ينهى عنه ، فإن مستندها رجم بالغيب .

وقوله تعالى : { لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا } أي : أنه تعالى ألقى عليهم المهابة بحيث لا يقع نظر أحد عليهم إلا هابهم ؛ لما ألبسوا من المهابة والذعر ، لئلا يدنو منهم أحد ولا تمسهم{[18051]} يد لامس ، حتى يبلغ الكتاب أجله ، وتنقضي رقدتهم التي شاء تبارك وتعالى فيهم ، لما له في ذلك من الحجة والحكمة{[18052]} البالغة ، والرحمة الواسعة .


[18039]:في ت: "تطبق".
[18040]:في ت: "كيلا".
[18041]:هو حميد بن ثور، والبيت في ديوانه (ص104) أ. هـ مستفادا من حاشية ط الشعب.
[18042]:في ت: "تتقلبون"، وفي أ: "يتقلبوا".
[18043]:في ف: "ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير وقتادة".
[18044]:في أ: "جرير".
[18045]:في ف: "ربض".
[18046]:رواه البخاري في صحيحه برقم (3227) من حديث ابن عمر، رضي الله عنهما.
[18047]:رواه أحمد في مسنده (1/80) وأبو داود في السنن برقم (227) والنسائي في السنن (1/141) من حديث علي بن أبي طالب مرفوعا: "لا تدخل الملائكة بيتا فيه صورة ولا كلب ولا جنب".
[18048]:انظر: مختصر تاريخ دمشق لابن منظور (27/143).
[18049]:في ت: "وقيل".
[18050]:في ت: "كونه".
[18051]:في أ: "أو يمسهم".
[18052]:في ف: " الحكمة والحجة ".
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَتَحۡسَبُهُمۡ أَيۡقَاظٗا وَهُمۡ رُقُودٞۚ وَنُقَلِّبُهُمۡ ذَاتَ ٱلۡيَمِينِ وَذَاتَ ٱلشِّمَالِۖ وَكَلۡبُهُم بَٰسِطٞ ذِرَاعَيۡهِ بِٱلۡوَصِيدِۚ لَوِ ٱطَّلَعۡتَ عَلَيۡهِمۡ لَوَلَّيۡتَ مِنۡهُمۡ فِرَارٗا وَلَمُلِئۡتَ مِنۡهُمۡ رُعۡبٗا} (18)

{ وتحسبهم أيقاظا وهو رقود ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال }

عطف على بقية القصة ، وما بينهما اعتراض . والخطاب فيه كالخطاب في قوله : { وترى الشمس } [ الكهف : 17 ] . وهذا انتقال إلى ما في حالهم من العبرة لمن لو رآهم من الناس مُدمَج فيه بيان كرامتهم وعظيم قدرة الله في شأنهم ، وهو تعجيب من حالهم لمن لو رآه من الناس .

ومعنى حسبانهم أيقاضاً : أنهم في حالة تشبه حال اليقظة وتخالف حال النوم ، فقيل : كانت أعينهم مفتوحة .

وصيغ فعل { تحسبهم } مضارعاً للدلالة على أن ذلك يتكرر مدة طويلة .

والأيقاظ : جمع يَقِظ ، بوزن كتف ، وبضم القاف بوزن عَضُد .

والرقود : جمع راقد .

والتقليب : تغيير وضع الشيء من ظاهره إلى باطنه ، قال تعالى : { فأصبح يقلب كفيه } [ الكهف : 42 ] .

و{ ذات اليمين وذات الشمال } أي إلى جهة أيمانهم وشمائلهم . والمعنى : أنّ الله أجرى عليهم حال الأحياء الأيقاظ فجعلهم تتغير أوضاعهم من أيمانهم إلى شمائلهم والعكس ، وذلك لحكمة لعل لها أثراً في بقاء أجسامهم بحالة سلامة .

والإتيان بالمضارع للدلالة على التجدد بحسب الزمن المحكي . ولا يلزم أن يكونوا كذلك حين نزول الآية .

{ وَكَلْبُهُمْ باسط ذِرَاعَيْهِ بالوصيد }

هذا يدل على أن تقليبهم لليمين وللشمال كرامة لهم بمنحهم حالة الأحياء وعناية بهم ، ولذلك لم يذكر التقليب لكلبهم بل استمر في مكانه باسطاً ذراعيه شأن جلسة الكلب .

والوصيد : مدخل الكهف ، شبه بالباب الذي هو الوصيد لأنه يوصد ويغلق .

وعدم تقليب الكلب عن يمينه وشماله يدل على أن تقليبهم ليس من أسباب سلامتهم من البلى وإلا لكان كلبهم مثلهم فيه بل هو كرامة لهم . وقد يقال : إنهم لم يفنوا وأما كلبهم ففني وصار رِمة مبسوطةٌ عظامُ ذراعيه .

{ لَوِ اطلعت عَلَيْهِمْ لَوْلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا }

الخطاب لغير معين ، أي لو اطلعت عليهم أيها السامع حين كانوا في تلك الحالة قبل أن يبعثهم الله ، إذ ليس في الكلام أنهم لم يزالوا كذلك زمن نزول الآية .

والمعنى : لو اطلعت عليهم ولم تكن علمت بقصتهم لحسبتهم لصوصاً قطاعاً للطريق ، إذ هم عدد في كهف وكانت الكهوف مخابىء لقطاع الطريق ، كما قال تأبط شراً :

أقولُ للَحْيَانٍ وقد صفّرتْ لهم *** وطابي يوَمي ضَيّقُ الجُحْر مُعوِر

ففررت منهم وملكك الرعب من شرهم ، كقوله تعالى : { نكرهم وأوجس منهم خيفة } [ هود : 70 ] . وليس المراد الرعب من ذواتهم إذ ليس في ذواتهم ما يخالف خلق الناس ، ولا الخوف من كونهم أمواتاً إذ لم يكن الرعب من الأموات من خلال العرب ، على أنه قد سبق { وتحسبهم أيقاظاً وهم رقود } .

والاطلاع : الإشراف على الشيء ورؤيته من مكان مرتفع ، لأنه افتعال من طَلع إذا ارتقى جَبلا ، فصيغ الافتعال للمبالغة في الارتقاء ، وضمن معنى الإشراف فعدي ب ( على ) ، ثم استعمل مجازاً مشهوراً في رؤية الشيء الذي لا يراه أحد ، وسيأتي ذكر هذا الفعل عند قوله تعالى : { أطلع الغيب } في سورة مريم ( 78 ) ، فضلاً عن أن يكون الخطاب للنبيء . و« في الكشاف » عن ابن عباس ما يقتضي ذلك وليس بصحيح .

وانتصب { فراراً } على المفعول المطلق المبين لنوع { وليت .

و{ مُلّئتَ } مبني للمجهول ، أي مَلاك الرعب ومَلّا بتشديد اللام مضاعف مَلاَ وقرىء بهما .

والمَلْء : كون المظروف حالاً في جميع فراغ الظرف بحيث لا تبقى في الظرف سعة لزيادة شيء من المظروف ، فمثلت الصفة النفسية بالمظروف ، ومُثل عقل الإنسان بالظرف ، ومثل تمكن الصفة من النفس بحيث لا يُخالطها تفكير في غيرها بملء الظرف بالمظروف ، فكان في قوله : { ملّئت } استعارة تمثيلية ، وعكسه قوله تعالى : { وأصبح فؤاد أم موسى فارغاً } [ القصص : 10 ] .

وانتصب { رعباً } على تمييز النسبة المحول عن الفاعل في المعنى لأن الرعب هو الذي يَمْلأ ، فلما بني الفعل إلى المجهول لقصد الإجمال ثم التفصيل صار ما حقه أن يكون فاعلاً تمييزاً . وهو إسناد بديع حصل منه التفصيل بعد الإجمال ، وليس تمييزا مُحولاً عن المفعول كما قد يلوح بادىء الرأي .

والرعب تقدم في قوله تعالى : { سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب } في سورة آل عمران ( 151 ) .

وقرأ نافع وابن كثير { ولَمُلِّئْتَ } بتشديد اللام على المبالغة في الملء ، وقرأ الباقون بتخفيف اللام على الأصل .

وقرأ الجمهور { رعباً } بسكون العين . وقرأه ابن عامر والكسائي وأبو جعفر ويعقوب بضم العين .