{ 87 - 88 } { وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ }
أي : واذكر عبدنا ورسولنا ذا النون وهو : يونس ، أي : صاحب النون ، وهي الحوت ، بالذكر الجميل ، والثناء الحسن ، فإن الله تعالى أرسله إلى قومه ، فدعاهم ، فلم يؤمنوا فوعدهم بنزول العذاب بأمد سماه لهم .
[ فجاءهم العذاب ] ورأوه عيانا ، فعجوا إلى الله ، وضجوا وتابوا ، فرفع الله عنهم العذاب كما قال تعالى : { فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ } وقال : { وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ } وهذه الأمة العظيمة ، الذين آمنوا بدعوة يونس ، من أكبر فضائله . ولكنه عليه الصلاة والسلام ، ذهب مغاضبا ، وأبق عن ربه لذنب من الذنوب ، التي لم يذكرها الله لنا في كتابه ، ولا حاجة لنا إلى تعيينها [ لقوله : { إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ } { وَهُوَ مُلِيمٌ } أي : فاعل ما يلام عليه ]{[533]} والظاهر أن{[534]} عجلته ومغاضبته لقومه وخروجه من بين أظهرهم قبل أن يأمره الله بذلك ، ظن أن الله لا يقدر عليه ، أي : يضيق عليه في بطن الحوت أو ظن أنه سيفوت الله تعالى ، ولا مانع من عروض هذا الظن للكمل من الخلق على وجه لا يستقر ، ولا يستمر عليه ، فركب في السفينة مع أناس ، فاقترعوا ، من يلقون منهم في البحر ؟ لما خافوا الغرق إن بقوا كلهم ، فأصابت القرعة يونس ، فالتقمه الحوت ، وذهب به إلى ظلمات البحار ، فنادى في تلك الظلمات : { لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } فأقر لله تعالى بكمال الألوهية ، ونزهه عن كل نقص ، وعيب وآفة ، واعترف بظلم نفسه وجنايته .
قال الله تعالى : { فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ* لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ }
ثم ساق - سبحانه - بعد ذلك جانبا من قصة يونس - عليه السلام - فقال : { وَذَا النون . . . } .
المراد بذى النون : يونس بن متى - عليه السلام - ، والنون : الحوت . وجمعه نينان وأنوان . وسمى بذلك لابتلاع الحوت له .
قال - تعالى - : { وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ المرسلين إِذْ أَبَقَ إِلَى الفلك المشحون فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ المدحضين فالتقمه الحوت وَهُوَ مُلِيمٌ . . } وملخص قصة يونس " أن الله - تعالى - ارسله إلى أهل نينوى بالعراق فى حوالى القرن الثامن قبل الميلاد ، فدعاهم إلى إخلاص العبادة لله - عز وجل - فاستعصوا عليه ، فضاق بهم ذرعا ، وتركهم وهو غضبان ليذهب إلى غيرهم ، فوصل إلى شاطىء البحر ، فوجد سفينة فركب فيها ، وفى خلال سيرها فى البحر ضاقت بركابها ، فقال ربانها : إنه لا بد من أحد الركاب يلقى بنفسه فى البحر لينجو الجميع من الغرق . فجاءت القرعة على يونس ، فألقى بنفسه فى اليم فالتقمه الحوت . . . ثم نبذه إلى الساحل بعد وقت يعلمه الله - تعالى - ، فأرسله - سبحانه - إلى قومه مرة أخرى فآمنوا .
وسيأتى تفصيل هذه القصة فى سورة الصافات - بإذن الله - .
والمعنى : واذكر أيها المخاطب لتعتبر وتتعظ - عبدنا ذان النون . وقت أن فارق قومه وهو غضبان عليهم ، لأنهم لم يسارعوا إلى الاستجابة له .
قال الجمل : وقوله : { إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً } أى : غضبان على قومه ، فالمفاعة ليست على بابها فلا مشاركة كعاقبت وسافرت ، ويحتمل أن تكون على بابها من المشاركة ، أى غاضب قومه وغاضبوه حين لم يؤمنوا فى أول الأمر " .
وقوله - تعالى - : { فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ } بيان لما ظنه يونس - عليه السلام - حين فارق قومه غاضبا عليهم بدون إذن من ربه - عز وجل - .
أى : أن يونس قد خرج غضبان على قومه لعدم استجابتهم لدعوته فظن أن لن نضيق عليه ، عقابا له على مفارقته لهم من غير أمرنا ، أو فظن أننا لن نقضى عليه بعقوبة معينة فى مقابل تركه لقومه بدون إذننا .
فقوله : { نَّقْدِرَ عَلَيْهِ } بمعنى نضيق عليه ونعاقبه . يقال : قدر الله الرزق يقدره - بكسر الدال وضمها - إذا ضيقه . ومنه قوله - تعالى - : { الله يَبْسُطُ الرزق لِمَنْ يَشَآءُ وَيَقَدِرُ } وقوله : { وَأَمَّآ إِذَا مَا ابتلاه فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ . . } أى : ضيقه عليه
ثم بين - سبحانه - ما كان يردده يونس وهو فى بطن الحوت فقال : { فنادى فِي الظلمات أَن لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين .
والفاء فى قوله { فنادى } فصيحة .
والمراد بالظلمات : ظلمات البحر ، وبطن الحوت ، والليل .
أى : خرج يونس غضبان على قومه . فحدث له ما حدث من التقام الحوت له ، فلما صار فى جوفه المظلم ، بداخل البحر المظلم ، أخذ يتضرع إلينا بقوله : أشهد أن لا إله إلا أنت يا إلهى مستحق للعبادة ، { سُبْحَانَكَ } أى : أنزهك تنزيها عظيما { إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين } لنفسى حين فارقت قومى بدون إذن منك .
وإنى أعترف بخطىء - يا إلهى - فتقبل توبتى ، واغسل حوبتى .
هذا وقد ذكر ابن جرير وابن كثير وغيرهما من المفسرين هنا روايات متعددة عن المدة التى مكثها يونس فى بطن الحوت ، وعن فضل الدعاء الذى تضرع به إلى الله - تعالى - ، ومن ذلك ما رواه ابن جرير عن سعد بن أبى وقاص - رضى الله عنه - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " " بسم الله الذى إذا دعى به أجاب ، وإذا سئل به أعطى ، دعوة يونس بن متى " . قال : قلت : يا رسول الله ، هى ليونس خاصة أم لجماعة المسلمين ؟ قال : " هى ليونس بن متى خاصة وللمؤمنين عامة ، إذا دعوا بها . ألم تسمع قول الله - تعالى - : { فنادى فِي الظلمات أَن لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين فاستجبنا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الغم وكذلك نُنجِي المؤمنين } فهو شرط من الله لمن دعاه به " " .
ثم تجيء قصة يونس - عليه السلام - وهو ذو النون .
( وذا النون إذ ذهب مغاضبا . فظن أن لن نقدر عليه . فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين . فاستجبنا له ونجيناه من الغم . وكذلك ننجي المؤمنين ) . .
وقصة يونس تأتي هنا في صورة إشارة سريعة مراعاة للتناسق في السياق ، وتفصل في سورة الصافات . ولكن لا بد لنا من بعض التفصيل هنا لهذه الإشارة كي تكون مفهومة .
لقد سمي ذا النون - أي صاحب الحوت - لأن الحوت التقمه ثم نبذه . وقصة ذلك أنه أرسل إلى قرية فدعا أهلها إلى الله فاستعصوا عليه ، فضاق بهم صدرا ، وغادرهم مغاضبا ، ولم يصبر على معاناة الدعوة معهم . ظانا أن الله لن يضيق عليه الأرض ، فهي فسيحة ، والقرى كثيرة ، والأقوام متعددون . وما دام هؤلاء يستعصون على الدعوة ، فسيوجهه الله إلى قوم آخرين .
ذلك معنى ( فظن أن لن نقدر عليه )أي أن لن نضيق عليه .
وقاده غضبه الجامح ، وضيقه الخانق ، إلى شاطئ البحر ، فوجد سفينة مشحونة فركب فيها . حتى إذا كانت في اللجة ثقلت ، وقال ربانها : إنه لا بد من إلقاء أحد ركابها في البحر لينجو سائر من فيها من الغرق . فساهموا فجاء السهم على يونس ، فألقوه أو ألقى هو بنفسه . فالتقمه الحوت . مضيقا عليه أشد الضيق ! فلما كان في الظلمات : ظلمة جوف الحوت ، وظلمة البحر ، وظلمة الليل نادى : ( أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ) . فاستجاب الله دعاءه ، ونجاه من الغم الذي هو فيه . ولفظه الحوت على الساحل . ثم كان من أمره ما يفصله في سورة الصافات . فحسبنا هذا في هذا السياق .
إن في هذه الحلقة من قصة يونس - عليه السلام - لفتات ولمسات نقف أمامها لحظات .
إن يونس لم يصبر على تكاليف الرسالة ، فضاق صدرا بالقوم ، وألقى عبء الدعوة ، وذهب مغاضبا ، ضيق الصدر ، حرج النفس ؛ فأوقعه الله في الضيق الذي تهون إلى جانبه مضايقات المكذبين . ولولا أن ثاب إلى ربه ! واعترف بظلمه لنفسه ودعوته وواجبه . لما فرج الله عنه هذا الضيق . ولكنها القدرة حفظته ونجته من الغم الذي يعانيه .
وأصحاب الدعوات لا بد أن يحتملوا تكاليفها ، وأن يصبروا على التكذيب بها ، والإيذاء من أجلها . وتكذيب الصادق الواثق مرير على النفس حقا . ولكنه بعض تكاليف الرسالة . فلا بد لمن يكلفون حمل الدعوات أن يصبروا ويحتملوا ، ولا بد أن يثابروا ويثبتوا . ولا بد أن يكرروا الدعوة ويبدئوا فيها ويعيدوا .
إنهم لا يجوز لهم أن ييأسوا من صلاح النفوس واستجابة القلوب ، مهما واجهوا من إنكار وتكذيب ، ومن عتو وجحود . فإذا كانت المرة المائة لم تصل إلى القلوب ، فقد تصل المرة الواحدة بعد المائة . . وقد تصل المرة الواحدة بعد الألف . . ولو صبروا هذه المرة وحاولوا ولم يقنطوا لتفتحت لهم أرصاد القلوب !
إن طريق الدعوات ليس هينا لينا . واستجابة النفوس للدعوات ليست قريبة يسيرة . فهناك ركام من الباطل والضلال والتقاليد والعادات ، والنظم والأوضاع ، يجثم على القلوب . ولا بد من إزالة هذا الركام . ولا بد من استحياء القلوب بكل وسيلة . ولا بد من لمس جميع المراكز الحساسة . ومن محاولة العثور على العصب الموصل . . وإحدى اللمسات ستصادف مع المثابرة والصبر والرجاء . ولمسة واحدة قد تحول الكائن البشري تحويلا تاما في لحظة متى أصابت اللمسة موضعها . وإن الإنسان ليدهش أحيانا وهو يحاول ألف محاولة ، ثم إذا لمسة عابرة تصيب موضعها في الجهاز البشري فينتفض كله بأيسر مجهود ، وقد أعيا من قبل على كل الجهود !
وأقرب ما يحضرني للتمثيل لهذه الحالة جهاز الاستقبال عند البحث عن محطة إرسال . . إنك لتحرك المشير مرات كثيرة ذهابا وإيابا فتخطى ء المحطة وأنت تدقق وتصوب . ثم إذا حركة عابرة من يدك . فتتصل الموجة وتنطلق الأصداء والأنغام !
إن القلب البشري هو أقرب ما يكون إلى جهاز الاستقبال . وأصحاب الدعوات لا بد أن يحاولوا تحريك المشير ليتلقى القلب من وراء الأفق . ولمسة واحدة بعد ألف لمسة قد تصله بمصدر الإرسال !
إنه من السهل على صاحب الدعوة أن يغضب لأن الناس لا يستجيبون لدعوته ، فيهجر الناس . . إنه عمل مريح ، قد يفثأ الغضب ، ويهدى ء الأعصاب . . ولكن أين هي الدعوة ? وما الذي عاد عليها من هجران المكذبين المعارضين ? !
إن الدعوة هي الأصل لا شخص الداعية ! فليضق صدره . ولكن ليكظم ويمض . وخير له أن يصبر فلا يضيق صدره بما يقولون !
إن الداعية أداة في يد القدرة . والله أرعى لدعوته وأحفظ . فليؤد هو واجبه في كل ظرف ، وفي كل جو ، والبقية على الله . والهدى هدى الله .
وإن في قصة ذي النون لدرسا لأصحاب الدعوات ينبغي أن يتأملوه .
وإن في رجعة ذي النون إلى ربه واعترافه بظلمه لعبرة لأصحاب الدعوات ينبغي أن يتدبروها .
هذه القصة مذكورة هاهنا وفي سورة " الصافات " وفي سورة " ن " {[19801]} وذلك أن يونس بن مَتَّى ، عليه السلام ، بعثه الله إلى أهل قرية " نينوى " ، وهي قرية من أرض الموصل ، فدعاهم إلى الله ، فأبوا عليه وتمادوا على كفرهم ، فخرج من بين أظهرهم مغاضبا لهم ، ووعدهم بالعذاب بعد ثلاث . فلما تحققوا منه ذلك ، وعلموا أن النبي لا يكذب ، خرجوا إلى الصحراء بأطفالهم وأنعامهم ومواشيهم ، وفرقوا بين الأمهات وأولادها ، ثم تضرعوا إلى الله عز وجل ، وجأروا{[19802]} إليه ، ورغت الإبل وفُضْلانها ، وخارت البقر وأولادها ، وثغت الغنم وحُمْلانها ، فرفع الله عنهم العذاب ، قال الله تعالى : { فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ{[19803]} الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ } [ يونس : 98 ] .
وأما يونس ، عليه السلام ، فإنه ذهب فركب مع قوم في سفينة فَلَجَّجت بهم ، وخافوا أن يغرقوا{[19804]} . فاقترعوا على رجل يلقونه من بينهم يتخففون منه ، فوقعت القرعة على يونس ، فأبوا{[19805]} أن يلقوه ، ثم أعادوا القرعة فوقعت عليه أيضًا ، فأبوا ، ثم أعادوها فوقعت عليه أيضًا ، قال الله تعالى : { فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ } [ الصافات : 141 ] ، أي : وقعت عليه القرعة{[19806]} ، فقام يونس ، عليه السلام ، وتجرد من ثيابه ، ثم ألقى نفسه في البحر ، وقد أرسل الله ، سبحانه وتعالى ، من البحر الأخضر - فيما قاله ابن مسعود - حوتًا يشق البحار ، حتى جاء فالتقم يونس حين ألقى نفسه من السفينة ، فأوحى الله إلى ذلك الحوت ألا تأكل له لحمًا ، ولا تهشم له عظما ؛ فإن يونس ليس لك رزقا ، وإنما بطنك له يكون سجنًا .
وقوله : { وَذَا النُّونِ } يعني : الحوت ، صحت الإضافة إليه بهذه النسبة .
وقوله : { إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا } : قال الضحاك : لقومه ، { فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ } [ أي : نضيق عليه في بطن الحوت . يُروَى نحو هذا عن ابن عباس ، ومجاهد ، والضحاك ، وغيرهم ، واختاره{[19807]} ابن جرير ، واستشهد عليه بقوله تعالى : { وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا } [ الطلاق : 7 ] .
وقال عطية العَوفي : { فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ } {[19808]} ، أي : نقضي عليه ، كأنه جعل ذلك بمعنى التقدير ، فإن العرب تقول : قدَر وقَدّر بمعنى واحد ، وقال الشاعر :
فَلا عَائد ذَاكَ الزّمَانُ الذي مَضَى *** تباركت ما تَقْدرْ يَكُنْ ، فَلَكَ الأمْرُ
ومنه قوله تعالى : { فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ } [ القمر : 12 ] ، أي : قدر .
وقوله : { فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ } قال ابن مسعود : ظلمة بطن الحوت ، وظلمة البحر ، وظلمة الليل . وكذا روي عن ابن عباس{[19809]} ، وعمرو بن ميمون ، وسعيد بن جُبَير ، ومحمد بن كعب ، والضحاك ، والحسن ، وقتادة .
وقال سالم بن أبي الجعد : ظلمةُ حُوت في بطن حوت{[19810]} ، في ظلمة البحر .
قال ابن مسعود ، وابنُ عباس وغيرهما : وذلك أنه ذهب به الحوتُ في البحار يَشُقُّها ، حتى انتهى به إلى قرار البحر ، فسمع{[19811]} يونسُ تسبيح الحصى في قراره ، فعند ذلك وهنالكَ قال : { لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ }
وقال عوف : لما صار يونس في بطن الحوت ، ظن أنه قد مات ، ثم حرك رجليه فلما تحركت سجد مكانه ، ثم نادى : يا رب{[19812]} ، اتخذت لك مسجدًا{[19813]} في موضع ما اتخذه{[19814]} أحد .
وقال سعيد بن أبي الحسن البصري : مكث في بطن الحوت أربعين يومًا . رواهما{[19815]} ابن جبير .
وقال محمد بن إسحاق بن يَسَار ، عمن حدثه ، عن عبد الله بن رافع - مولى أم سلمة - سمعتُ أبا هريرة يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لما أراد الله حَبْسَ يونس في بطن الحوت ، أوحى الله إلى الحوت أن خذه ، ولا تخدش لحما ولا تكسر عظما ، فلما انتهى به إلى أسفل البحر ، سمع يونس حسًا ، فقال في نفسه : ما هذا ؟ فأوحى الله إليه ، وهو في بطن{[19816]} الحوت : إن هذا تسبيح دواب البحر . قال : فَسَبَّح وهو في بطن الحوت ، فسمع{[19817]} الملائكة تسبيحه فقالوا : يا ربنا ، إنا نسمع صوتًا ضعيفًا [ بأرض غريبة ]{[19818]} قال : ذلك عبدي يونس ، عصاني فحبسته في بطن الحوت في البحر . قالوا : العبد الصالح الذي كان يصعد إليك منه في كل يوم وليلة عملٌ صالح ؟ . قال : نعم " . قال : " فشفعوا له عند ذلك ، فأمر الحوت فقذفه في الساحل ، كما قال الله عز وجل :{[19819]} { وَهُوَ سَقِيمٌ } [ الصافات : 145 ] .
ورواه ابن جرير{[19820]} ، ورواه البزار في مسنده ، من طريق محمد بن إسحاق ، عن عبد الله بن رافع ، عن أبي هريرة ، فذكره بنحوه ، ثم قال : لا نعلمه يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من هذا الوجه بهذا الإسناد{[19821]} ، وروى ابن عبد الحق من حديث شعبة ، عن عمرو بن مرة ، عن عبد الله بن سَلمَة{[19822]}
عن علي مرفوعًا : لا ينبغي لعبد أن يقول : " أنا{[19823]} خير من يونس بن متى " ؛ سبح لله في الظلمات{[19824]} .
وقد روي هذا الحديث بدون هذه الزيادة ، من حديث ابن عباس ، وابن مسعود ، وعبد الله بن جعفر ، وسيأتي أسانيدها في سورة " ن " {[19825]} .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو عبد الله أحمد بن عبد الرحمن بن أخي ابن وهب ، حدثنا عمي : حدثني أبو صخر : أن يزيد الرقاشي حدثه قال : سمعت أنس بن مالك - ولا أعلم إلا أن أنسا يرفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - أن يونس النبي ، عليه السلام ، حين بدا له أن يدعو بهذه الكلمات وهو في بطن الحوت ، قال : " اللهم ، لا إله إلا أنت ، سبحانك ، إني كنت من الظالمين " . فأقبلت هذه الدعوة تحف بالعرش{[19826]} ، فقالت الملائكة : يا رب ، صوت ضعيف معروف من بلاد غريبة ؟ فقال : أما تعرفون ذاك{[19827]} ؟ قالوا : لا يا رب{[19828]} ، ومن هو ؟ قال : عبدي يونس . قالوا : عبدك يونس الذي لم يزل يُرفَع له عَمَلٌ متقبل{[19829]} ، ودعوة مجابة ؟ . [ قال : نعم ]{[19830]} . قالوا : يا رب ، أَوَلا{[19831]} ترحم ما كان يصنع{[19832]} في الرخاء فتنجيَه من البلاء ؟ قال : بلى . فأمر الحوت فطرحه في العراء{[19833]} .
{ وذا النون } وصاحب الحوت يونس بن متى { إذ ذهب مغاضبا } لقومه لما برم بطول دعوتهم وشدة شكيمتهم وتمادي إصرارهم مهاجرا عنهم ، قبل أن يؤمر وقبل وعدهم بالعذاب فلم يأتهم لميعادهم بتوبتهم ولم يعرف الحال فظن أنه كذبهم وغضب من ذلك ، وهو من بناء المغالبة للمبالغة أو لأنه أغضبهم بالمهاجرة لخوفهم لحوق العذاب عندها وقرىء " مغضبا " { فظن أن لن نقدر عليه } لن نضيق عليه أو لن نقضي عليه بالعقوبة من القدر ، ويعضده أنه قرىء مثقلا أو لن نعمل فيه قدرتنا ؛ وقيل هو تمثيل لحاله بحال من ظن أن لن نقدر عليه في مراغمته قومه من غير انتظار لأمرنا ، أو خطرة شيطانية سبقت إلى وهمه فسميت ظنا للمبالغة . وقرىء بالياء وقرأ يعقوب على البناء للمفعول وقرىء به مثقلا . { فنادى في الظلمات } في الظلمة الشديدة المتكاثفة أو ظلمات بطن الحوت والبحر والليل . { أن لا إله إلا أنت } بأنه لا إله إلا أنت . { سبحانك } من أن يعجزك شيء . { إني كنت من الظالمين } لنفسي بالمبادرة إلى المهاجرة . وعن النبي عليه الصلاة والسلام " ما من مكروب يدعو بهذا الدعاء إلا استجيب له " .