تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَٱعۡتَصِمُواْ بِحَبۡلِ ٱللَّهِ جَمِيعٗا وَلَا تَفَرَّقُواْۚ وَٱذۡكُرُواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ إِذۡ كُنتُمۡ أَعۡدَآءٗ فَأَلَّفَ بَيۡنَ قُلُوبِكُمۡ فَأَصۡبَحۡتُم بِنِعۡمَتِهِۦٓ إِخۡوَٰنٗا وَكُنتُمۡ عَلَىٰ شَفَا حُفۡرَةٖ مِّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنۡهَاۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمۡ ءَايَٰتِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ} (103)

ثم أمرهم تعالى بما يعينهم على التقوى وهو الاجتماع والاعتصام بدين الله ، وكون دعوى المؤمنين واحدة مؤتلفين غير مختلفين ، فإن في اجتماع المسلمين على دينهم ، وائتلاف قلوبهم يصلح دينهم وتصلح دنياهم وبالاجتماع يتمكنون من كل أمر من الأمور ، ويحصل لهم من المصالح التي تتوقف على الائتلاف ما لا يمكن عدها ، من التعاون على البر والتقوى ، كما أن بالافتراق والتعادي يختل نظامهم وتنقطع روابطهم ويصير كل واحد يعمل ويسعى في شهوة نفسه ، ولو أدى إلى الضرر العام ، ثم ذكرهم تعالى نعمته وأمرهم بذكرها فقال : { واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء } يقتل بعضكم بعضا ، ويأخذ بعضكم مال بعض ، حتى إن القبيلة يعادي بعضهم بعضا ، وأهل البلد الواحد يقع بينهم التعادي والاقتتال ، وكانوا في شر عظيم ، وهذه حالة العرب قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم فلما بعثه الله وآمنوا به واجتمعوا على الإسلام وتآلفت قلوبهم على الإيمان كانوا كالشخص الواحد ، من تآلف قلوبهم وموالاة بعضهم لبعض ، ولهذا قال : { فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار } أي : قد استحقيتم النار ولم يبق بينكم وبينها إلا أن تموتوا فتدخلوها { فأنقذكم منها } بما مَنَّ عليكم من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم { كذلك يبين الله لكم آياته } أي : يوضحها ويفسرها ، ويبين لكم الحق من الباطل ، والهدى من الضلال { لعلكم تهتدون } بمعرفة الحق والعمل به ، وفي هذه الآية ما يدل أن الله يحب من عباده أن يذكروا نعمته بقلوبهم وألسنتهم ليزدادوا شكرا له ومحبة ، وليزيدهم من فضله وإحسانه ، وإن من أعظم ما يذكر من نعمه نعمة الهداية إلى الإسلام ، واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم واجتماع كلمة المسلمين وعدم تفرقها .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَٱعۡتَصِمُواْ بِحَبۡلِ ٱللَّهِ جَمِيعٗا وَلَا تَفَرَّقُواْۚ وَٱذۡكُرُواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ إِذۡ كُنتُمۡ أَعۡدَآءٗ فَأَلَّفَ بَيۡنَ قُلُوبِكُمۡ فَأَصۡبَحۡتُم بِنِعۡمَتِهِۦٓ إِخۡوَٰنٗا وَكُنتُمۡ عَلَىٰ شَفَا حُفۡرَةٖ مِّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنۡهَاۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمۡ ءَايَٰتِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ} (103)

وبعد أن أمرهم - سبحانه - بمداومة خشيته ، والاستمرار على دينه أتبع ذلك بأمرهم بالاعتصام بدينه وبكتابه فقال - تعالى - { واعتصموا بِحَبْلِ الله جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ } .

فهذه الآية الكريمة تأكيد لما اشتملت عليه سابقتها من مداومة التقوى والطاعة لله رب العالمين .

والاعتصام : افتعال من عصم وهو طلب ما يعصم أى يمنع من السقوط والوقوع .

وأصل الحبل : ما يشد به للارتقاء أو التدلى أو للنجاة من غرق أو نحوه ، أو للوصول إلى شىء معين .

والمراد بحبل الله هنا : دينه ، أو عهده ، أو كتابه ، لأن التمسك بهذه الأشياء يوصل إلى النجاة والفلاح .

والمعنى : كونوا جميعا مستمسكين بكتاب الله وبدينه وبعهوده ، ولا تتفرقوا كما كان شأنكم فى الجاهلية بضرب بعضكم رقاب بعض ، بل عليكم أن تجتمعوا على طاعة الله وأن تكونوا كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا . وبذلك تفوزون وتسعدون وتنتصرون على أعدائكم .

ففى الجملة الكريمة استعارة تمثيلية حيث شبه - سبحانه - الحالة الحاصلة من تمسك المؤمنين بدينه وبكتابه وبعهوده وبوحدة كلمتهم ، بالحالة الحاصلة من تمسك جماعة بحبل وثيق مأمون الانقطاع ألقى إليهم من منقذ لهم من غرق أو سقوط أو نحوهما .

وإضافة الحبل إلى الله - تعالى - قرينة على هذا التمثيل .

وقوله { جَمِيعاً } حال من ضمير الجماعة فى قوله { واعتصموا } .

فالجملة الكريمة تأمر المسلمين جميعا أن يعتصموا بعهود الله وبدينه . وبكتابه ، وأن يكونوا كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ، وأن ينبذوا التفرق والاختلاف الذى يؤدى إلى ضعفهم وفشلهم .

قال الفخر الرازى عند تفسيره لهذه الآية ما ملخصه : واعلم أن كل من يمشى على طريق دقيق يخاف أن ينزلق رجله ، فإنه إذا تمسك بحبل مشدود الطرفين بجانبى ذلك الطريق أمن من الخوف . ولا شك أن طريق الحق طريق دقيق ، وقد انزلقت أرجل كثيرة من الخلق عنه ، فمن اعتصم بدلائل الله وبيناته فإنه يأمن من ذلك الخوف فكان المراد من الحبل هنا : كل شىء يمكن التوصل به إلى الحق فى طريق الدين ، وهو أنواع كثيرة فمنهم من قال المراد به عهد الله . . ومنهم من قال المراد به القرآن ، فقد جاء فى الحديث " هو حبل الله المتين " ومنهم من قال المراد به طاعة الله . . . وهذه الأقوال كلها متقاربة والتحقيق ما ذكرنا من أنه لما كان النازل فى البئر يعتصم بحبل تحرزا من السقوط فيها وكان كتاب الله وعهده ودينه وطاعته وموافقته لجماعة المؤمنين حرزا لصاحبه من السقوط فى جهنم ، جعل ذلك حبلا لله وأمروا بالاعتصام به . ثم أمرهم - سبحانه - بتذكر نعم الله عليهم فقال : { واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ على شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النار فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا } .

قوله { شَفَا حُفْرَةٍ } الشفا طرف الشىء وحرفه مثل شفا البئر ، وشفا الحفرة ومنه يقال : فلان أشفى على الشىء إذا اشرف عليه ، كأنه بلغ شفاه أى حده وحرفه .

والمعنى : واذكروا أيها المؤمنون وتنبهوا بعقولكم وقلوبكم إلى نعمة الله علكم بتأليف نفوسكم ورأب صدوعكم ، فقد كنتم فى الجاهلية أعداء متقاتلين متنازعين ، فألف بين قلوبكم بأخوة الإسلام فاصبحتم متحابين متناصحين متوادين وكنتم على وشك الوقوع فى النار بسبب اخلافكم وضلالكم فمن الله عليكم وأنقذكم من التردى فيها بهدايتكم إلى الحق عن طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم الذى أرسله ربه رحمة للعالمين . إذا فمن الواجب عليكم وفاء لهذه النعم أن تشكروا الله عليها وأن تطيعوا رسولكم صلى الله عليه وسلم وأن تتمسكوا بعرى المحبة والمودة والأخوة فيما بينكم .

قال ابن كثير : قوله - تعالى - { واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً } إلخ . هذا السياق فى شأن الأوس والخزرج ، فإنه كان بينهم حروب كثيرة فى الجاهلية وعداوة شديدة وضغائن وإحن طال بسببها قتالهم ، والوقائع بينهم ، فلما جاء الله بالإسلام . فدخل فيه من دخل منهم ، صاروا إخوانا متحابين بجلال الله ، متواصلين فى ذات الله ، متعاونين على البر والتقوى وكانوا على شفا حفرة من النار بسبب كفرهم فأنقذهم الله منها إذ هداهم للإيمان وقد امتن عليهم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم قسم غنائم حنين ، فعتب من عتب منهم بما فضل عليهم فى القسمة بما رآه ، فخطبهم فقال يا معشر الأنصار ، الم أجدكم ضلالا فهداكم الله بى ، وكنتم متفرقين فالفكم الله بى ، وعالة فأغناكم الله بى ؟ فكانوا كلما قال شيئاً قالوا : الله ورسوله آَمَنّ " .

وفى هذه الاية الكريمة تصوير بديع مؤثر لحالة المسلمين قبل الإسلام وحالتهم بعد الإسلام .

فقد صور - سبحانه - حالهم وترديهم فى الكفر والاختلاف والتقاتل قبل أن يدخلوا فى الإسلام بحال من يكون على حافة حفرة من النار يوشك أن يقع فيها .

وصور هدايته لهم إلى سبيل الحق والمحبة والإخاء بدخولهم فى الإسلام عن طريق محمد صلى الله عليه وسلم بحالة من يبعد غيره عن التردى فى النار وينقذه من الوقوع فيها .

قال صاحب الكشاف : " والضمير المجرور فى قوله { فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا } يعود للحفرة أو للنار أو للشفا ، وإنما أنث لإضافته إلى الحفرة - فاكتسب التأنيث من المضاف إليه - كما قال : كما شرقت صدر القناة من الدم . . . وشفا الحفرة وشفتها : حرفها بالتذكير والتأنيث .

فإن قلت : كيف جعلوا على حرف حفرة من النار ؟ قلت : لو ماتوا على ما كانوا عليه وقعوا في النار " فمثلت حياتهم التى يتوقع بعدها الوقوع فى النار بالقعود على حرفها ، مشفين - أى مشرفين - على الوقوع فيها " .

ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { كذلك يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } .

أى كهذا البيان الواضح الذى سمعتموه فى هذه الآيات ، يبين الله لكم دائما من آياته ودلائله وحججه ما يسعدكم فى الدنيا والآخرة ، و ما يأخذ بيدكم إلى وسائل الهداية وأسبابها ، رجاء أن تكونوا ممن رضى الله عنهم وأرضاهم بسبب اهتدائهم إلى الصراط المستقيم .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{وَٱعۡتَصِمُواْ بِحَبۡلِ ٱللَّهِ جَمِيعٗا وَلَا تَفَرَّقُواْۚ وَٱذۡكُرُواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ إِذۡ كُنتُمۡ أَعۡدَآءٗ فَأَلَّفَ بَيۡنَ قُلُوبِكُمۡ فَأَصۡبَحۡتُم بِنِعۡمَتِهِۦٓ إِخۡوَٰنٗا وَكُنتُمۡ عَلَىٰ شَفَا حُفۡرَةٖ مِّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنۡهَاۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمۡ ءَايَٰتِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ} (103)

93

فأما الركيزة الثانية فهي ركيزة الأخوة . . الأخوة في الله ، على منهج الله ، لتحقيق منهج الله :

( واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ، واذكروا نعمة الله عليكم ، إذ كنتم أعداء ، فألف بين قلوبكم ، فأصبحتم بنعمته إخوانا . وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها . كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون ) . .

فهي أخوة إذن تنبثق من التقوى والإسلام . . من الركيزة الأولى . . أساسها الاعتصام بحبل الله - أي عهده ونهجه ودينه - وليست مجرد تجمع على أي تصور آخر ، ولا على أي هدف آخر ، ولا بواسطة حبل آخر من حبال الجاهلية الكثيرة !

( واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ) . .

هذه الأخوة المعتصمة بحبل الله نعمة يمتن الله بها على الجماعة المسلمة الأولى . وهي نعمة يهبها الله لمن يحبهم من عباده دائما . وهو هنا يذكرهم هذه النعمة . يذكرهم كيف كانوا في الجاهلية " أعداء " . . وما كان أعدى من الأوس والخزرج في المدينة أحد . وهما الحيان العربيان في يثرب . يجاورهما اليهود الذين كانوا يوقدون حول هذه العداوة وينفخون في نارها حتى تأكل روابط الحيين جميعا . ومن ثم تجد يهود مجالها الصالح الذي لا تعمل إلا فيه ، ولا تعيش إلا معه . فألف الله بين قلوب الحيين من العرب بالإسلام . . وما كان إلا الإسلام وحده يجمع هذه القلوب المتنافرة . وما كان إلا حبل الله الذي يعتصم به الجميع فيصبحون بنعمة الله إخوانا .

وما يمكن أن يجمع القلوب إلا أخوة في الله ، تصغر إلى جانبها الأحقاد التاريخية ، والثارات القبلية ، والأطماع الشخصية والرايات العنصرية . ويتجمع الصف تحت لواء الله الكبير المتعال . .

( واذكروا نعمة الله عليكم ، إذ كنتم أعداء ، فألف بين قلوبكم ، فأصبحتم بنعمته إخوانا )

ويذكرهم كذلك نعمته عليهم في إنقاذهم من النار التي كانوا على وشك أن يقعوا فيها ، إنقاذهم من النار بهدايتهم إلى الاعتصام بحبل الله - الركيزة الأولى - وبالتأليف بين قلوبهم ، فأصبحوا بنعمة الله إخوانا - الركيزة الثانية - :

( وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها ) .

والنص القرآني يعمد إلى مكمن المشاعر والروابط : " القلب " . . فلا يقول : فألف بينكم . إنما ينفذ إلى المكمن العميق : ( فألف بين قلوبكم ) فيصور القلوب حزمة مؤلفة متآلفة بيد الله وعلى عهده وميثاقه . كذلك يرسم النص صورة لما كانوا فيه . بل مشهدا حيا متحركا تتحرك معه القلوب : ( وكنتم على شفا حفرة من النار ) . . وبينما حركة السقوط في حفرة النار متوقعة ، إذا بالقلوب ترى يد الله ، وهي تدرك وتنقذ ! وحبل الله وهو يمتد ويعصم . وصورة النجاة والخلاص بعد الخطر والترقب ! وهو مشهد متحرك حي تتبعه القلوب واجفة خافقة ، وتكاد العيون تتملاه من وراء الأجيال !

وقد ذكر محمد بن إسحاق في السيرة وغيره أن هذه الآية نزلت في شأن الأوس والخزرج . وذلك أن رجلا من اليهود مر بملأ من الأوس والخزرج ، فساءه ما هم عليه من الاتفاق والألفة ، فبعث رجلا معه ، وأمره أن يجلس بينهم ، ويذكر لهم ما كان من حروبهم يوم " بعاث " ! وتلك الحروب . ففعل . فلم يزل ذلك دأبه حتى حميت نفوس القوم ، وغضب بعضهم على بعض ، وتثاوروا ، ونادوا بشعارهم . وطلبوا أسلحتهم . وتوعدوا إلى " الحرة " . . فبلغ ذلك النبي [ ص ] فأتاهم ، فجعل يسكنهم ، ويقول : " أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم " وتلا عليهم هذه الآية ، فندموا على ما كان منهم ، واصطلحوا وتعانقوا وألقوا السلاح رضي الله عنهم .

وكذلك بين الله لهم فاهتدوا ، وحق فيهم قول الله سبحانه في التعقيب في الآية :

( كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون ) .

فهذه صورة من جهد يهود لتقطيع حبل الله بين المتحابين فيه ، القائمين على منهجه ، لقيادة البشرية في طريقه . . هذه صورة من ذلك الكيد الذي تكيده يهود دائما للجماعة المسلمة ، كلما تجمعت على منهج الله واعتصمت بحبله . وهذه ثمرة من ثمار طاعة أهل الكتاب . كادت ترد المسلمين الأولين كفارا يضرب بعضهم رقاب بعض . وتقطع بينهم حبل الله المتين ، الذي يتآخون فيه مجتمعين . وهذه صلة هذه الآية بالآيات قبلها في هذا السياق .

على أن مدلول الآية أوسع مدى من هذه الحادثة . فهي تشي - مع ما قبلها في السياق وما بعدها - بأنه كانت هناك حركة دائبة من اليهود لتمزيق شمل الصف المسلم في المدينة ، وإثارة الفتنة والفرقة بكل الوسائل . والتحذيرات القرآنية المتوالية من إطاعة أهل الكتاب ، ومن الاستماع إلى كيدهم ودسهم ، ومن التفرق كما تفرقوا . . هذه التحذيرات تشي بشدة ما كانت تلقاه الجماعة المسلمة من كيد اليهود في المدينة ، ومن بذرهم لبذور الشقاق والشك والبلبلة باستمرار . . وهو دأب يهود في كل زمان . وهو عملها اليوم وغدا في الصف المسلم ، في كل مكان !

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَٱعۡتَصِمُواْ بِحَبۡلِ ٱللَّهِ جَمِيعٗا وَلَا تَفَرَّقُواْۚ وَٱذۡكُرُواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ إِذۡ كُنتُمۡ أَعۡدَآءٗ فَأَلَّفَ بَيۡنَ قُلُوبِكُمۡ فَأَصۡبَحۡتُم بِنِعۡمَتِهِۦٓ إِخۡوَٰنٗا وَكُنتُمۡ عَلَىٰ شَفَا حُفۡرَةٖ مِّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنۡهَاۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمۡ ءَايَٰتِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ} (103)

وقوله : { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا } قيل { بِحَبْلِ اللَّهِ } أي : بعهد الله ، كما قال في الآية بعدها : { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ } [ آل عمران : 112 ] أي بعهد وذمة{[5440]} وقيل : { بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ } يعني : القرآن ، كما في حديث الحارث الأعور ، عن علِيّ مرفوعا في صفة القرآن : " هُوَ حَبْلُ اللهِ الْمتِينُ ، وَصِرَاطُهُ الْمُسْتَقِيمُ " .

وقد وَرَدَ في ذلك حديث خاص بهذا المعنى ، فقال الإمام الحافظ أبو جعفر الطبري : حدثنا سعيد بن يحيى الأموي ، حدثنا أسباط بن {[5441]}محمد ، عن عبد الملك بن أبي سليمان العَرْزَمي ، عن عطية عن [ أبي ]{[5442]} سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كِتَابُ اللهِ ، هو حَبْلُ اللهِ الْمَمْدُودُ مِنَ السَّمَاءِ إلَى الأرْضِ " {[5443]} .

وروى ابن مَرْدُويَه من طريق إبراهيم بن مسلم الهَجَريّ ، عن أبي الأحْوَص ، عن عبد الله رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ هو حَبْلُ اللهِ الْمتِينُ ، وهو النور المبين وهُوَ الشِّفَاءُ النَّافِعُ ، عِصْمةٌ لِمَنْ تَمَسَّكَ بِهِ ، ونَجَاةٌ لِمَنِ اتَّبَعَهُ " {[5444]} .

وُروي من حديث حذيفة وزيد بن أرقم نحو ذلك . [ وقال وَكِيع : حدثنا الأعمش عن أبي وائل قال : قال عبد الله : إن هذا الصراط محتضر تحضره الشياطين ، يا عبد الله ، بهذا الطريق هلم إلى الطريق ، فاعتصموا بحبل الله فإن حبل الله القرآن ]{[5445]} .

وقوله : { وَلا تَفَرَّقُوا } أمَرَهُم بالجماعة ونهاهم عن التفرقة{[5446]} وقد وردت الأحاديثُ المتعددة بالنهي عن التفرق والأمر بالاجتماع والائتلاف{[5447]} كما في صحيح مسلم من حديث سُهَيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إنَّ اللهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلاثًا ، وَيَسْخَطُ لَكُمْ ثَلاثًا ، يَرْضى لَكُمْ : أنْ تَعْبدُوهُ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، وأنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا ، وأنْ تُنَاصِحُوا مَنْ وَلاهُ اللهُ أمْرَكُمْ ؛ وَيَسْخَطُ لَكُمْ ثَلاثًا : قيلَ وَقَالَ ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ ، وإِضَاعَةَ الْمَالِ " {[5448]} .

وقد ضُمِنتْ لهم العِصْمةُ ، عند اتفاقهم ، من الخطأ ، كما وردت بذلك الأحاديث المتعددة أيضًا ، وخِيفَ عليهم الافتراق ، والاختلاف ، وقد وقع ذلك في هذه الأمة فافترقوا على ثلاث وسبعين فرقة ، منها فرقة{[5449]} ناجية إلى الجنة ومُسَلمة من عذاب النار ، وهم الذين على ما كان عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه .

وقوله : { وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا [ وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا ] {[5450]} } إلى آخر الآية ، وهذا السياق في شأن الأوْس والخَزْرَج ، فإنه كانت{[5451]} بينهم حُروبٌ كثيرة في الجاهلية ، وعداوة شديدة وضغائن ، وإحَنٌ وذُحُول{[5452]} طال بسببها قتالهم والوقائع بينهم ، فلما جاء الله بالإسلام فدخل فيه من دخل منهم ، صاروا إخوانا متحابين بجلال الله ، متواصلين في ذات الله ، متعاونين على البر والتقوى ، قال الله تعالى : { هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ [ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ]{[5453]} } [ الأنفال : 62 ] وكانوا على شفا حُفْرة من النار بسبب كفرهم ، فأبعدهم{[5454]} الله منها : أنْ هَدَاهُم للإيمان . وقد امتن عليهم بذلك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يوم قَسَم غنائم حُنَيْنٍ ، فَعتَبَ من عتب{[5455]} منهم لمّا فَضَّل عليهم في القِسْمَة بما أراه الله ، فخطبهم فقال : " يَا مَعْشَرَ الأنْصَارِ ، ألَمْ أجدْكُمْ ضُلالا فَهَدَاكُمُ اللهُ بِي ، وَكُنْتُمْ مُتَفَرِّقِينَ فَألَّفَكُمُ اللهُ بِي ، وَعَالَةً فأغْنَاكُمْ اللهُ بِي ؟ " كلما قال شيئا قالوا : الله ورسوله أمنّ .

وقد ذكر محمد بن إسحاق بن يَسار وغيره : أن هذه الآية نزلت في شأن الأوس والخزرج ، وذلك أن رجلا من اليهود مَرَّ بملأ من الأوس والخزرج ، فساءه ما هُمْ عليه من الاتفاق والألْفَة ، فبعث رجلا معه وأمره أن يجلس بينهم ويذكرهم{[5456]} ما كان من حروبهم يوم بُعَاث وتلك الحروب ، ففعل ، فلم يزل ذلك دأبُه حتى حميت نفوس القوم وغضب بعضهم على بعض ، وتثاوروا ، ونادوا بشعارهم وطلبوا أسلحتهم ، وتواعدوا إلى الحرة ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأتاهم فجعل يُسكِّنهم ويقول : " أبِدَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ وأَنَا بَيْنَ أظْهُرِكُمْ ؟ " وتلا عليهم هذه الآية ، فندموا على ما كان منهم ، واصطلحوا وتعانقوا ، وألقوا السلاح ، رضي الله عنهم {[5457]} وذكر عِكْرِمة أن ذلك نزل فيهم حين تثاوروا في قضية الإفْك . والله أعلم .


[5440]:في ر: "بعهد ذمة".
[5441]:في أ: "عن".
[5442]:زيادة من جـ.
[5443]:تفسير الطبري (7/72) وفي إسناده عطية العوفي وهو ضعيف.
[5444]:ورواه الحاكم في المستدرك (1/555) وابن أبي شيبة في المصنف (10/482) وابن حبان في المجروحين (1/99) وابن الجوزي في العلل المتناهية (1/101) وقال: "هذا حديث لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويشبه أن يكون من كلام ابن مسعود".
[5445]:زيادة من و.
[5446]:في أ، و: "الفرقة".
[5447]:في جـ: "بالائتلاف والاجتماع".
[5448]:صحيح مسلم برقم (1715).
[5449]:في ر: "فرقة منها".
[5450]:زيادة في جـ، ر، أ، و.
[5451]:في أ: "قد كان"، وفي و: "قد كانت".
[5452]:في ر: "دخول". وهو خطأ، والصواب ما أثبتناه.
[5453]:زيادة من و.
[5454]:في أ، و: "فأنقذهم".
[5455]:في جـ، ر: "فعنت من عنت".
[5456]:في جـ، ر، أ، و: "ويذكر لهم".
[5457]:انظر: تفسير الطبري (7/78، 79).
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَٱعۡتَصِمُواْ بِحَبۡلِ ٱللَّهِ جَمِيعٗا وَلَا تَفَرَّقُواْۚ وَٱذۡكُرُواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ إِذۡ كُنتُمۡ أَعۡدَآءٗ فَأَلَّفَ بَيۡنَ قُلُوبِكُمۡ فَأَصۡبَحۡتُم بِنِعۡمَتِهِۦٓ إِخۡوَٰنٗا وَكُنتُمۡ عَلَىٰ شَفَا حُفۡرَةٖ مِّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنۡهَاۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمۡ ءَايَٰتِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ} (103)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مّنَ النّارِ فَأَنقَذَكُمْ مّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلّكُمْ تَهْتَدُونَ }

يعني بذلك جلّ ثناؤه : وتعلقوا بأسباب الله جميعا . يريد بذلك تعالى ذكره : وتمسكوا بدين الله الذي أمركم به ، وعهده الذي عهده إليكم في كتابه إليكم من الألفة والاجتماع على كلمة الحقّ والتسليم لأمر الله . وقد دللنا فيما مضى قبل على معنى الاعتصام . وأما الحبل ، فإنه السبب الذي يوصل به إلى البغية والحاجة ، ولذلك سمي الأمان حبلاً ، لأنه سبب يوصل به إلى زوال الخوف والنجاة من الجزع والذعر ، ومنه قول أعشى بني ثعلبة :

وإذَا تُجَوّزُها حِبالُ قَبِيلةَ *** أخذَتَ مِنَ الأُخْرَى إليكَ حِبالَها

ومنه قول الله عزّ وجلّ : { إلاّ بِحَبْلٍ مِنَ اللّهِ وحَبْلٍ مِنَ النّاسِ } .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا العوّام ، عن الشعبي ، عن عبد الله بن مسعود أنه قال في قوله : { واعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعا } قال : الجماعة .

حدثنا المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : حدثنا هشيم ، عن العوّام ، عن الشعبيّ ، عن عبد الله في قوله : { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعا } قال : حبل الله : الجماعة .

وقال آخرون : عَنَى بذلك القرآن ، والعهد الذي عهد فيه . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعا } حبل الله المتين الذي أمر أن يعتصم به : هذا القرآن .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعا } قال : بعهد الله وأمره .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن شقيق ، عن عبد الله ، قال : إن الصراط محتضر تحضره الشياطين ، ينادون : يا عبد الله هلمّ هذا الطريق ! ليصدّوا عن سبيل الله . فاعتصموا بحبل الله ، فإن حبل الله هو كتاب الله .

حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، عن أسباط ، عن السديّ : { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعا } أما حبل الله : فكتاب الله .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { بِحَبْلِ الله } : بعهد الله .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عطاء : { بِحَبْلِ الله } قال : العهد .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن الأعمش ، عن أبي وائل ، عن عبد الله : { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعا } قال : حبل الله : القرآن .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعا } قال : القرآن .

حدثنا سعيد بن يحيى ، قال : حدثنا أسباط بن محمد ، عن عبد الملك بن أبي سليمان العرزمي ، عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «كِتاب اللّهِ ، هُوَ حَبْلُ الله المَمْدُودُ مِنَ السّماءِ إلى الأرْضِ » .

وقال آخرون : بل ذلك هو إخلاص التوحيد لله . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، عن أبي العالية في قوله : { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعا } يقول : اعتصموا بالإخلاص لله وحده .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعا } قال : الحبل : الإسلام . وقرأ { وَلا تَفَرّقُوا } .

القول في تأويل قوله تعالى : { وَلا تَفَرّقُوا } .

يعني جلّ ثناؤه بقوله : { وَلا تَفَرّقُوا } : ولا تتفرّقوا عن دين الله وعهده الذي عهد إليكم في كتابه من الائتلاف والاجتماع على طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم والانتهاء إلى أمره . كما :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { وَلا تَفَرّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ } أن الله عزّ وجلّ قد كره لكم الفرقة وقدّم إليكم فيها ، وحذّركموها ، ونهاكم عنها ، ورضي لكم السمع والطاعة والألفة والجماعة ، فارضوا لأنفسكم ما رضي الله لكم إن استطعتم ، ولا قوّة إلا بالله .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، عن أبي العالية : { وَلا تَفَرّقُوا } : لا تعادوا عليه ، يقول : على الإخلاص لله ، وكونوا عليه إخوانا .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، أن الأوزاعي حدثه ، أن يزيد الرقاشي حدثه ، أنه سمع أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّ بَنِي إسْرائِيلَ افْتَرَقَتْ على إحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً ، وَإنّ أُمّتِي سَتَفْتَرِقُ على اثْنَيْنِ وَسبعينَ فِرْقَةً كلّهمْ فِي النّارِ إلاّ وَاحِدَةً » . قال : فقيل يا رسول الله ، وما هذه الواحدة ؟ قال : فقبض يده وقال : «الجَمَاعَة » { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعا وَلا تَفَرّقُوا } .

حدثني عبد الكريم بن أبي عمير ، قال : حدثنا الوليد بن مسلم ، قال : سمعت الأوزاعي يحدّث عن يزيد الرقاشي ، عن أنس بن مالك ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، نحوه .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا المحاربي ، عن ابن أبي خالد ، عن الشعبي ، عن ثابت بن قطنة المري ، عن عبد الله أنه قال : يا أيها الناس عليكم بالطاعة والجماعة فإنهما حبل الله الذي أمر به ، وإنّ ما تكرهون في الجماعة والطاعة هو خير مما تستحبون في الفرقة .

حدثنا عبد الحميد بن بيان اليشكري ، قال : أخبرنا محمد بن يزيد ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن الشعبي ، عن ثابت بن قطنة ، قال : سمعت ابن مسعود وهو يخطب ، وهو يقول : يا أيها الناس ، ثم ذكر نحوه .

حدثنا إسماعيل بن حفص الاَملي ، قال : حدثنا عبد الله بن نمير أبو هشام ، قال : حدثنا مجالد بن سعيد ، عن عامر ، عن ثابت بن قطنة المري ، قال : قال عبد الله : عليكم بالطاعة والجماعة ، فإنها حبل الله الذي أمر به ثم ذكر نحوه .

القول في تأويل قوله تعالى : { وَاذْكرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إذْ كُنْتُمْ أعْدَاءً فَألّفَ بَيْنَ قُلوبِكُم فأصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إخْوَانا } .

يعني بقوله جلّ ثناؤه : { وَاذْكرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ } : واذكروا ما أنعم الله به عليكم من الألفة والاجتماع على الإسلام .

واختلف أهل العربية في قوله : { إذْ كُنْتُمْ أعْدَاءً فَألّفَ بَيْنَ قُلوبِكُم } فقال بعض نحويي البصرة في ذلك : انقطع الكلام عند قوله : { وَاذْكرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ } ، ثم فسر بقوله : { فَألّفَ بَيْنَ قُلوبِكُم } وأخبر بالذي كانوا فيه قبل التأليف ، كما تقول : أمْسَكَ الحائط أن يميل .

وقال بعض نحويي الكوفة : قوله { إذْ كُنْتُمْ أعْدَاءً فَألّفَ بَيْنَ قُلوبِكُم } تابع قوله : { وَاذْكرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ } غير منقطعة منها .

والصواب من القول في ذلك عندي أن قوله : { إذْ كُنْتُمْ أعْدَاءً فَألّفَ بَيْنَ قُلوبِكُم } متصل بقوله : { وَاذْكرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ } غير منقطع عنه .

وتأويل ذلك : واذكروا أيها المؤمنون نعمة الله عليكم التي أنعم بها عليكم حين كنتم أعداء : أي بشرككم ، يقتل بعضكم بعضا ، عصبية في غير طاعة الله ولا طاعة رسوله ، فألف الله بالإسلام بين قلوبكم ، فجعل بعضكم لبعض إخوانا بعد إذ كنتم أعداء تتواصلون بألفة الإسلام واجتماع كلمتكم عليه . كما :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وَاذْكرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إذْ كُنْتُمْ أعْدَاءً فَألّفَ بَيْنَ قُلوبِكُمْ } كنتم تذابحون فيها ، يأكل شديدكم ضعيفكم حتى جاء الله بالإسلام ، فآخى به بينكم ، وألف به بينكم . أما والله الذي لا إله إلا هو ، إن الألفة لرحمة ، وإن الفرقة لعذاب !

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : { وَاذْكرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إذْ كُنْتُمْ أعْدَاءً } : يقتل بعضكم بعضا ، ويأكل شديدكم ضعيفكم ، حتى جاء الله بالإسلام ، فألّف به بينكم ، وجمع جمعكم عليه ، وجعلكم عليه إخوانا .

فالنعمة التي أنعم الله على الأنصار التي أمرهم تعالى ذكره في هذه الاَية أن يذكروها هي ألفة الإسلام واجتماع كلمتهم عليها ، والعداوة التي كانت بينهم ، التي قال الله عزّ وجلّ : { إذْ كُنْتُمْ أعْدَاءً } فإنها عداوة الحروب التي كانت بين الحيين من الأوس والخزرج في الجاهلية قبل الإسلام ، يزعم العلماء بأيام العرب ، أنها تطاولت بينهم عشرين ومائة سنة . كما :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : قال ابن إسحاق : كانت الحرب بين الأوس والخزرج عشرين ومائة سنة ، حتى قام الإسلام وهم على ذلك ، فكانت حربهم بينهم وهم أخوان لأب وأم ، فلم يسمع بقوم كان بينهم من العدواة والحرب ما كان بينهم . ثم إن الله عزّ وجلّ أطفأ ذلك بالإسلام ، وألف بينهم برسوله محمد صلى الله عليه وسلم .

فذكّرهم جلّ ثناؤه إذ وعظهم عظيم ما كانوا فيه في جاهليتهم من البلاء والشقاء بمعاداة بعضهم بعضا وقتل بعضهم بعضا ، وخوّف بعضهم من بعض ، وما صاروا إليه بالإسلام واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم والإيمان به ، وبما جاء به من الائتلاف والاجتماع ، وأمن بعضهم من بعض ، ومصير بعضهم لبعض إخوانا . وكان سببُ ذلك ما :

حدثنا به ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : ثني ابن إسحاق ، قال : حدثنا عاصم بن عمر بن قتادة المدني ، عن أشياخ من قومه ، قالوا : قدم سويد بن صامت أخو بني عمرو بن عوف مكة حاجا أو معتمرا . قال : وكان سويد إنما يسميه قومه فيهم الكامل لجلده وشعره ونسبه وشرفه . قال : فتصدّى له رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سمع به ، فدعاه إلى الله عزّ وجلّ وإلى الإسلام ، قال : فقال له سويد : فلعلّ الذي معك مثل الذي معي ! قال : فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «وَما الّذِي مَعَكَ ؟ » قال مجلة لقمان يعني حكمة لقمان فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اعْرِضْها عَليّ ! » فعرضها عليه ، فقال : «إنّ هَذَا الكَلامَ حَسَنٌ ، مَعِي أفْضَلُ مِنْ هَذَا ، قُرآنٌ أنْزَلَهُ اللّهُ عَلّي هُدًى وَنُورٌ » . قال : فتلا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن ودعاه إلى الإسلام ، فلم يبعد منه ، وقال : إن هذا القول حسن ثم انصرف عنه ، وقدم المدينة ، فلم يلبث أن قتلته الخزرج ، فإن كان قومه ليقولون : قد قتل وهو مسلم ، وكان قتله قبل يوم بُعاث .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، قال : ثني الحسين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ أحد بني عبد الأشهل : أن محمود بن أسد أحد بني عبد الأشهل ، قال : لما قدم أبو الجيش أنس بن رافع مكة ، ومعه فتية من بني عبد الأشهل فيهم إياس بن معاذ ، يلتمسون الحلف من قريش على قوم من الخزرج ، سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتاهم فجلس إليهم ، فقال : «هَلْ لَكُمْ إلى خَيْرٍ ممّا جِئْتُمْ لَهُ ؟ » قالُوا : وَما ذَاكَ ؟ قال : «أنا رَسُولُ اللّهِ بَعَثَنِي إلى العِبادِ أدْعُوهُمْ إلى اللّهِ أنْ يَعْبُدُوا اللّهَ وَلا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا ، وأَنْزَلَ عَلّي الكِتابَ » . ثم ذكر لهم الإسلام ، وتلا عليهم القرآن ، فقال إياس بن معاذ ، وكان غلاما حدثا : أي قوم ، هذا والله خير مما جئتم له ! قال : فأخذ أبو الجيش أنس بن رافع حفنة من البطحاء فضرب بها وجه إياس بن معاذ ، وقال : دعنا منك ، فلعمري لقد جئنا لغير هذا ! قال : فصمت إياس بن معاذ ، وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم ، وانصرفوا إلى المدينة ، وكانت وقعة بُعاث بين الأوس والخزرج . قال : ثم لم يلبث إياس بن معاذ أن هلك قال : فلما أراد الله إظهار دينه ، وإعزاز نبيه صلى الله عليه وسلم ، وإنجاز موعده له ، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم الموسم الذي لقي فيه النفر من الأنصار يعرض نفسه على قبائل العرب كما كان يصنع في كل موسم . فبينا هو عند العقبة ، إذ لقي رهطا من الخزرج أراد الله لهم خيرا . قال ابن حميد : قال سلمة : قال محمد بن إسحاق : فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة ، عن أشياخ من قومه ، قالوا : لما لقيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم : «مَنْ أنْتُمْ ؟ » قالوا : نفر من الخزرج ، قال : «أمِنْ مَوَالىَ يَهُودَ ؟ » قالوا : نعم ، قال : «أفَلا تَجْلِسُونَ حتى أُكَلّمَكُمْ ؟ » قالوا : بلى . قال : فجلسوا معه ، فدعاهم إلى الله وعرض عليهم الإسلام ، وتلا عليهم القرآن . قال : وكان مما صنع الله لهم به في الإسلام أن يهود كانوا معهم ببلادهم ، وكانوا أهل كتاب وعلم ، وكانوا أهل شرك ، أصحاب أوثان ، وكانوا قد غزوهم ببلادهم ، فكانوا إذا كان بينهم شيء ، قالوا لهم : إن نبيا الاَن مبعوث قد أظلّ زمانه ، نتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وإرم . فلما كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك النفر ، ودعاهم إلى الله عزّ وجلّ ، قال بعضهم لبعض : يا قوم تعلموا والله إنه للنبيّ الذي توعدكم به يهود ، ولا يسبقُنكم إليه ! فأجابوه فيما دعاهم إليه بأن صدقوه ، وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام ، وقالوا له : إنا قد تركنا قومنا ، ولا قوم بينهم من العداوة والشرّ ما بينهم ، وعسى أن يجمعهم الله بك ، وسنقدم عليهم ، فندعوهم إلى أمرك ، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين ، فإن يجمعهم الله عليه ، فلا رجل أعزّ منك ! ثم انصرفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، راجعين إلى بلادهم ، قد آمنوا وصدّقوا ، وهم فيما ذكر لي ستة نفر . قال : فلما قدموا المدينة على قومهم ، ذكروا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ودعوهم إلى الإسلام ، حتى فشا فيهم ، فلم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان العام المقبل ، وافى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلاً ، فلقوه بالعقبة ، وهي العقبة الأولى ، فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء ، وذلك قبل أن تفترض عليهم الحرب .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن أيوب ، عن عكرمة : أنه لقي النبيّ صلى الله عليه وسلم ستة نفر من الأنصار ، فآمنوا به وصدّقوه ، فأراد أن يذهب معهم ، فقالوا : يا رسول الله ، إن بين قومنا حربا ، وإنا نخاف إن جئت على حالك هذه أن لا يتهيأ الذي تريد . فوعدوه العام المقبل ، وقالوا : يا رسول الله نذهب ، فلعلّ الله أن يصلح تلك الحرب ! قال : فذهبوا ففعلوا ، فأصلح الله عزّ وجلّ تلك الحرب ، وكانوا يرون أنها لا تصلح¹ وهو يوم بُعاث فلقوه من العام المقبل سبعين رجلاً قد آمنوا ، فأخذ عليهم النقباء اثني عشر نقيبا ، فذلك حين يقول : { وَاذْكرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إذْ كُنْتُمْ أعْدَاءً فَألّفَ بَيْنَ قُلوبِكُم } .

حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : أما : { إذْ كُنْتُمْ أعْدَاءً } ففي حرب { فَألّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ } بالإسلام .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن أيوب ، عن عكرمة ، بنحوه ، وزاد فيه : فلما كان من أمر عائشة ما كان ، فتثاور الحيان ، فقال بعضهم لبعض : موعدكم الحرة ! فخرجوا إليها ، فنزلت هذه الاَية : { وَاذْكرُوا نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إذْ كُنْتُمْ أعْدَاءً فَألّفَ بَيْنَ قُلوبِكُم فأصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إخْوَانا } . . . الاَية ، فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يزل يتلوها عليهم حتى اعتنق بعضهم بعضا ، وحتى إن لهم لخنينا ، يعني البكاء .

وسمير الذي زعم السديّ أن قوله { إذْ كُنْتُمْ أعْدَاءً } عنى به حربه ، هو سمير بن زيد بن مالك أحد بني عمرو بن عوف الذي ذكره مالك بن العجلان في قوله :

إنّ سُمَيرا أرَى عَشِيرَتَهُ *** قَدْ حَدِبُوا دُونَهُ وَقَدْ أنِفُوا

إنْ يَكُنِ الظّنّ صَادِقي ببني النّ *** جّارِ لم يَطْعَمُوا الذي عُلِفُوا

وقد ذكر علماء الأنصار أن مبدأ العداوة التي هيجت الحروب التي كانت بين قبيلتيها الأوس والخزرج وأولها كان بسبب قتل مولى لمالك بن العجلان الخزرجي ، يقال له : الحر بن سمير ، من مزينة ، وكان حليفا لمالك بن العجلان ، ثم اتصلت تلك العداوة بينهم إلى أن أطفأها الله بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، فذلك معنى قول السديّ : حرب ابن سمير .

وأما قوله : { فَأصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إخْوَانا } فإنه يعني : فأصبحتم بتأليف الله عزّ وجلّ بينكم بالإسلام وكلمة الحقّ والتعاون على نصرة أهل الإيمان ، والتآزر على من خالفكم من أهل الكفر ، إخوانا متصادقين لا ضغائن بينكم ، ولا تحاسد . كما :

حدثني بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { فأصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إخْوَانا } ، وذكر لنا أن رجلاً قال لابن مسعود : كيف أصبحتم ؟ قال : أصبحنا بنعمة الله إخوانا .

القول في تأويل قوله تعالى : { وكُنْتُمْ على شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النّارِ فَأنْقَذَكُمْ مِنْها } .

يعني بقوله جلّ ثناؤه : { وكُنْتُمْ على شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النّارِ } : وكنتم يا معشر المؤمنين من الأوس والخزرج على حرف حفرة من النار ، وإنما ذلك مثل لكفرهم الذي كانوا عليه قبل أن يهديهم الله للإسلام ، يقول تعالى ذكره : وكنتم على طرف جهنم بكفركم الذي كنتم عليه ، قبل أن ينعم الله عليكم بالإسلام ، فتصيروا بائتلافكم عليه إخوانا ، ليس بينكم وبين الوقوع فيها إلا أن تموتوا على ذلك من كفركم ، فتكونوا من الخالدين فيها ، فانقذكم الله منها بالإيمان الذي هداكم له . وشفا الحفرة : طرفها وحرفها ، مثل شفا الركية والبئر ، ومنه قول الراجز :

نحْنُ حَفَرْنا للحَجيج سَجْلَهْ *** نابِتَةً فوقَ شَفَاهَا بَقْلَهْ

يعني فوق حرفها ، يقال : هذا شفا هذه الركية مقصور ، وهما شفواها . وقال : { فَأنْقَذَكُمْ مِنْها } : يعني فأنقذكم من الحفرة ، فردّ الخبر إلى الحفرة ، وقد ابتدأ الخبر عن الشفا ، لأن الشفا من الحفرة ، فجاز ذلك ، إذ كان الخبر عن الشفا على السبيل التي ذكرها في هذه الاَية خبرا عن الحفرة ، كما قال جرير بن عطية :

رأتْ مَرّ السّنِينَ أخَذْنَ مِنّي *** كما أخَذَ السّرَارُ مِنَ الهِلالِ

فذكر مرّ السنين ، ثم رجع إلى الخبر عن السنين . وكما قال العجاج :

طُولُ اللّيالي أسْرَعَتْ فِي نَقْضِي *** طَوَيْنَ طُولي وَطَوَيْنَ عَرْضِي

وقد بينت العلة التي من أجلها قيل ذلك كذلك فيما مضى قبل .

وبنحو الذي قلنا في ذلك من التأويل ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وكُنْتُمْ على شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النّارِ فَأنْقَذَكُمْ مِنْها كَذَلِكَ يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمْ آياتِهِ } كان هذا الحيّ من العرب أذلّ الناس ذلاً ، وأشقاه عيشا ، وأبينه ضلالة ، وأعراه جلودا ، وأجوعه بطونا ، مكعومين على رأس حجر بين الأسدين : فارس ، والروم ، لا والله ما في بلادهم يومئذ من شيء يحسدون عليه ، من عاش منهم عاش شقيا ومن مات رُدّي في النار ، يؤكلون ولا يأكلون ، والله ما نعلم قبيلاً يومئذٍ من حاضر الأرض ، كانوا فيها أصغر حظا ، وأدقّ فيها شأنا منهم ، حتى جاء الله عزّ وجلّ بالإسلام ، فورّثكم به الكتاب ، وأحلّ لكم به دار الجهاد ، ووضع لكم به من الرزق ، وجعلكم به ملوكا على رقاب الناس ، وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم ، فاشكروا نعمه ، فإن ربكم منعم يحبّ الشاكرين ، وإن أهل الشكر في مزيد الله ، فتعالى ربنا وتبارك .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس ، قوله : { وكُنْتُمْ على شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النّارِ } يقول : كنتم على الكفر بالله ، { فَأنْقَذَكُمْ مِنْها } : من ذلك ، وهداكم إلى الإسلام .

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { وكُنْتُمْ على شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النّارِ فَأنْقَذَكُمْ مِنْها } بمحمد صلى الله عليه وسلم يقول : كنتم على طرف النار من مات منكم أُوبق في النار ، فبعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم ، فاستنقذكم به من تلك الحفرة .

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا حسن بن حيّ : { وكُنْتُمْ على شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النّارِ فَأنْقَذَكُمْ مِنْها } قال : عصبية .

القول في تأويل قوله تعالى : { كَذَلِكَ يُبَيّنُ اللّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلّكُمْ تَهْتَدُونَ } .

يعني جلّ ثناؤه بقوله : كذلك كما بين لكم ربكم في هذه الاَيات أيها المؤمنون من الأوس والخزرج ، من غِلّ اليهود ، الذي يضمرونه لكم ، وغشهم لكم ، وأمره إياكم بما أمركم به فيها ، ونهيه لكم عما نهاكم عنه ، والحال التي كنتم عليها في جاهليتكم ، والتي صرتم إليها في إسلامكم ، يعرّفكم في كل ذلك مواقع نعمه قبلكم ، وصنائعه لديكم ، فكذلك يبين سائر حججه لكم في تنزيله ، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم . { لَعَلّكم تهتدون } يعني : لتهتدوا إلى سبيل الرشاد ، وتسلكوها فلا تضلوا عنها .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَٱعۡتَصِمُواْ بِحَبۡلِ ٱللَّهِ جَمِيعٗا وَلَا تَفَرَّقُواْۚ وَٱذۡكُرُواْ نِعۡمَتَ ٱللَّهِ عَلَيۡكُمۡ إِذۡ كُنتُمۡ أَعۡدَآءٗ فَأَلَّفَ بَيۡنَ قُلُوبِكُمۡ فَأَصۡبَحۡتُم بِنِعۡمَتِهِۦٓ إِخۡوَٰنٗا وَكُنتُمۡ عَلَىٰ شَفَا حُفۡرَةٖ مِّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنۡهَاۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمۡ ءَايَٰتِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَهۡتَدُونَ} (103)

{ واعتصموا بحبل الله جميعا } بدين الإسلام ، أو بكتابه لقوله عليه السلام : " القرآن حبل الله المتين " . استعار له الحبل من حيث أن التمسك به سبب للنجاة من الردي ، كما أن التمسك بالحبل سبب للسلامة من التردي والوثوق به والاعتماد عليه الاعتصام ترشيحا للمجاز . { جميعا } مجتمعين عليه { ولا تفرقوا } أي ولا تتفرقوا عن الحق بوقوع الاختلاف بينكم كأهل الكتاب ، أو لا تتفرقوا تفرقكم في الجاهلية يحارب بعضكم بعضا ، أو لا تذكروا ما يوجب التفرق ويزيل الألفة . { واذكروا نعمة الله عليكم } التي من جملتها الهداية والتوفيق للإسلام المؤدي إلى التآلف وزوال الغل . { إذ كنتم أعداء } في الجاهلية متقاتلين . { فألف بين قلوبكم } بالإسلام . { فأصبحتم بنعمته إخوانا } متحابين مجتمعين على الأخوة في الله . وقيل كان الأوس والخزرج أخوين فوقع بين أولادهما العداوة وتطاولت الحروب مائة وعشرين سنة حتى أطفأها الله بالإسلام وألف بينهم برسوله صلى الله عليه وسلم . { وكنتم على شفا حفرة من النار } مشفين على الوقوع في نار جهنم لكفركم ، إذ لو أدرككم الموت على تلك الحالة لوقعتم في النار . { فأنقذكم منها } بالإسلام ، والضمير للحفرة ، أو للنار أو للشفا . وتأنيثه لتأنيث ما أضيف إليه أو لأنه بمعنى الشفة فإن شفا البئر وشفتها طرفها كالجانب والجانبة ، وأصله شفو فقلبت الواو ألفا في المذكر وحذفت في المؤنث . { كذلك } مثل ذلك التبيين . { يبين الله لكم آياته } دلائله . { لعلكم تهتدون } إرادة ثباتكم على الهدى وازديادكم فيه .