{ 23 - 29 } { وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ * وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ * وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ * يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ }
هذه المحنة العظيمة أعظم على يوسف من محنة إخوته ، وصبره عليها أعظم أجرا ، لأنه صبر اختيار مع وجود الدواعي الكثيرة ، لوقوع الفعل ، فقدم محبة الله عليها ، وأما محنته بإخوته ، فصبره صبر اضطرار ، بمنزلة الأمراض والمكاره التي تصيب العبد بغير اختياره وليس له ملجأ إلا الصبر عليها ، طائعا أو كارها ، وذلك أن يوسف عليه الصلاة والسلام بقي مكرما في بيت العزيز ، وكان له من الجمال والكمال والبهاء ما أوجب ذلك ، أن { رَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ } أي : هو غلامها ، وتحت تدبيرها ، والمسكن واحد ، يتيسر إيقاع الأمر المكروه من غير إشعار أحد ، ولا إحساس بشر .
{ وَ } زادت المصيبة ، بأن { غَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ } وصار المحل خاليا ، وهما آمنان من دخول أحد عليهما ، بسبب تغليق الأبواب ، وقد دعته إلى نفسها { وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ } أي : افعل الأمر المكروه وأقبل إليَّ ، ومع هذا فهو غريب ، لا يحتشم مثله ما يحتشمه إذا كان في وطنه وبين معارفه ، وهو أسير تحت يدها ، وهي سيدته ، وفيها من الجمال ما يدعو إلى ما هنالك ، وهو شاب عزب ، وقد توعدته ، إن لم يفعل ما تأمره به بالسجن ، أو العذاب الأليم .
فصبر عن معصية الله ، مع وجود الداعي القوي فيه ، لأنه قد هم فيها هما تركه لله ، وقدم مراد الله على مراد النفس الأمارة بالسوء ، ورأى من برهان ربه - وهو ما معه من العلم والإيمان ، الموجب لترك كل ما حرم الله - ما أوجب له البعد والانكفاف ، عن هذه المعصية الكبيرة ، و { قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ } أي : أعوذ بالله أن أفعل هذا الفعل القبيح ، لأنه مما يسخط الله ويبعد منه ، ولأنه خيانة في حق سيدي الذي أكرم مثواي .
فلا يليق بي أن أقابله في أهله بأقبح مقابلة ، وهذا من أعظم الظلم ، والظالم لا يفلح ، والحاصل أنه جعل الموانع له من هذا الفعل تقوى الله ، ومراعاة حق سيده الذي أكرمه ، وصيانة نفسه عن الظلم الذي لا يفلح من تعاطاه ، وكذلك ما منَّ الله عليه من برهان الإيمان الذي في قلبه ، يقتضي منه امتثال الأوامر ، واجتناب الزواجر ، والجامع لذلك كله أن الله صرف عنه السوء والفحشاء ، لأنه من عباده المخلصين له في عباداتهم ، الذين أخلصهم الله واختارهم ، واختصهم لنفسه ، وأسدى عليهم من النعم ، وصرف عنهم من المكاره ما كانوا به من خيار خلقه .
ولكن نداء العقل ونداء الشهوة الجامحة لم ينته عند هذا الحد ، بل نرى القرآن الكريم بحكى لنا بعد ذلك صداما آخر بينهما فيقول : { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لولا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ . . . } .
وهذه الآية الكريمة من الآيات التي خلط المفسرون فيها بن الأقوال الصحيحة والأقوال السقيمة .
وسنبين أولا الرأى الذي نختاره في تفسيرها ثم نتبعه بعد ذلك بغيره فنقول : ألهّم : المقاربة من الفعل من غير دخول فيه ، تقول هممت على فعل هذا الشئ ، إذا أقبلت نفسك عليه دون أن تفعله .
وقال : بعض العلماء : الهم نوعان : هم ثابت معه عزم وعقد ورضا ، وهو مذموم مؤاخد به صاحبه ، وهَمٌّ بمعنى خاطر وحديث نفس ، من غير تصميم وهو غير مؤاخذ به صاحبه ، لأن خطور المناهى في الصدور ، وتصورها في الأذهان ، لا مؤاخذة بها ما لم توجد في الأعيان .
روى الشيخان وأهل السنن عن أبى هريرة ، عن النبى - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " إن الله تجاوز لأمتى عما حدثت به أنفسها ، ما لم تتكلم به ، أو تعمل به " .
وقد أجمع العلماء على أن همَّ امرأة العزيز بيوسف كان هما بمعصية ، وكان مقرونا بالعزم والجزم والقصد ، بدليل المراودة وتغليق الأبواب ، وقولها " هيْت لك " .
كما أجمعوا على أن يوسف - عليه السلام - لم يأت بفاحشة ، وأن همه كان مجرد خاطرة قلب بمقتضى الطبيعة البشرية : من غير جزم وعزم . . .
وهذا اللون من الهم لا يدخل تحت التكليف ، ولا يخل بمقام النبوّة ، كالصائم يرى الماء البارد في اليوم الشديد الحرراة ، فتميل نفسه إليه ، ولكن دينه يمنعه من الشرب منه ، فلا يؤاخذ بهذا الميل .
والمراد ببرهان ربه هو : ما غرسه الله - تعالى - في قلبه من العلم المصحوب بالعمل ، بأن هذا الفعل الذي دعته إليه امرأة العزيز قبيح ، ولا يليق به .
أو هو - كما يقول ابن جرير - رؤيته من آيات الله ما زجره عما كان همّ به . .
والمعنى : ولقد همت به ، أى : ولقد قصدت امرأة العزيز مواقعة يوسف - عليه السلام - قصداً جازما ، بعد أن أغرته بشتى الوسائل فلم يستجب لها . . .
{ وَهَمَّ بِهَا لولا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } أى : ومال إلى مطاوعتها بمقتضى طبيعته البشرية وبمقتضى توفر كل الدواعى لهذا الميل . . .
ولكن مشاهدته للأدلة على شناعة المعصية ، وخوفه لمقام ربه ، وعون الله - تعالى - له على مقاومة شهوته . . . كل ذلك حال بينه وبين تنفيذ هذا الميل ، وصرفه عنه صرفا كليا ، وجعله يفر هاربا طالبا النجاة مما تريده منه تلك المرأة .
هذا هو الرأى الذي نختاره في تفسير هذه الآية الكريمة ، وقد استخلصناه من أقوال المفسرين القدامى والمحدثين .
فمن المفسرين القدامى الذن ذكروا هذا الرأى صاحب الكشاف ، فقد قال ما ملخصه .
وقوله - تعالى - { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ } معناه : ولقد همت بمخالطته ؛ " وهم بها " أى : وهم بمخالطتها { لولا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } جوابه محذوف تقديره ؛ لولا أن رأى برهان ربه لخالطها ، فحذف لأن قوله وهم بها يدل عليه ، كقولك : هممت بقتله لولا أنى خفت الله . معناه : لولا أنى خفت الله لقتلته .
فإن قلت : كيف جاز على نبى الله أن يكون منه هم بالمعصية ؟
قلت : " المراد أن نفسه مالت إلى المخالطة ، ونازعت إليها عن شهوة الشباب ، ميلا يشبه الهم به ، وكما تقتضيه تلك الحال التي تكاد تذهب بالعقول والعزائم ، وهو يكسر ما به ، ويرده بالنظر في برهان الله المأخوذ على المكلفين بوجوب اجتناب المحارم ، ولو لم يكن ذلك الميل الشديؤد المسمى هما لشدته ، لما كان صاحبه ممدوحا عند الله بالامتناع ، لأن استعظام الصبر على الابتلاء ، على حسب عظم الابتلاء وشدته ، ولو كان همه كهمها عن عزيمة لما مدحه بأنه من عباده المخلصين "
ومن المفسرين المحدثين الذين ذكروا هذا الرأى الإمام الآلوسى ، فقد قال ما ملخصه : قوله : { وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ } أى : بمخالطته . . والمعنى : أنها قصدت المخالطة وعزمت عليها عزما جازما ، لا يلويها عنها صارف بعدما باشرت مباديها . . .
والتأكيد - باللام وقد - لدفع ما يتوهم من احتمال إقلاعها عما كانت عليه .
{ وَهَمَّ بِهَا } أى : مال إلى مخالطتها بمقتضى الطبيعة البشرية . . . ومثل ذلك لا يكاد يدخل تحتل التكليف ، وليس المراد أنه قصدها قصدا اختياريا ، لأن ذلك أمر مذموم تنادى الآيات بعدم اتصافه به ، وإنما عبر عنه بالهم لمجرد وقوعه في صحبة همها في الذكر على سبيل المشاكلة لا لشبهه به . . . { لولا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } أى محبته الباهرة الدالة على كمال قبح الزنا ، وسوء سبيله .
والمراد برؤيته له : كمال إيقانه به ، ومشاهدته له مشاهدة وصلت إلى مرتبة عين اليقين . . .
ومن المفسرين من يرى أن المراد بهما به : الهم بضربه نتيجة عصيانه لأمرها .
وان المراد بهمه بها : الدفاع عن نفسه برد الاعتداء ، ولكنه آثر الهرب .
وقد قرر هذا الرأى ودافع عنه وأنكر سواه صاحب المنار ، فقد قال ما ملخصه :
{ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ } أى : وتالله لقد قهمت المرأة بالبطش به لعصيانه لأمرها ، وهى في نظرها سيدته وهو عبدها ، وقد أذلت نفسها له بدعوته الصريحة إلى نفسها ، بعد الاحتيال عليه بمراودته عن نفسه . . . فخرجت بذلك عن طبع أنوثتها في التمنع . . مما جعلها تحاول البطش به بعد أن أذل كرامتها ، وهو انتقام معهود من مثلها ، وممن دونها في كل زمان ومكان .
وكاد يرد صيالها ويدفعه بمثله ، وهو قوله - تعالى - { وَهَمَّ بِهَا لولا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } ولكنه رأى من برهان ربه في سريرة نفسه ، ما هو مصداق قوله - تعالى - { والله غَالِبٌ على أَمْرِهِ } وهو إما النبوة . . . وإما معجزتها . . وإما مقدمتها من مقام الصديقية العليا ، وهى مراقبته لله - تعالى - ورؤيته ربه متجليا له ، ناظرا إليه .
وما ذهب إليه صاحب المنار من تفسير الهم منها بالبطش بيوسف ، وتفسير الهم منه برد الاعتداء الذي وقع عليه منها . . . اقول : ما ذهب إليه صاحب المنار من تفسير الهم بذلك ، لا أرى دليلا عليه من الآية ، لا عن طريق الإِشارة ، ولا عن طريق العبارة . . .
ولعل صاحب المنار - رحمه الله - أراد بهذا التفسير أن يبعد يوسف - عليه السلام - عن أن يكون قدهم بها هم ميل بمقتضى الطبيعة البشرية ، ونحن لا نرى مقتضيا لهذا الإِبعاد ، لأن خطور المناهى في الأذهان ، لا مؤاخذة عليها ، ما دامت لم يصاحبها عزم أو قصد - كما سبق أن أشرنا إلى ذلك من قبل .
هذا وهناك أقوال أخرى لبعض المفسرين في معنى الآية الكيرمة ، رأينا أن نضرب عنها صفحا ؛ لأنه لا دليل عليها لا من العقل ولا من النقل ولا من اللغة . . . وإنما هي من الأوهام الإِسرائيلية التي تتنافى كل التنافى مع أخلاق عباد الله المخلصين ، الذين على رأسهم يوسف - عليه السلام .
قوله - سبحانه - { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السواء والفحشآء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المخلصين } بيان لمظهر من مظاهر رحمة الله - تعالى - به ، ورعايته له .
والكاف : نعت لمصدر محذوف والإِشارة بذلك إلى الإِراءة المدلول عليها بقوله { لولا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ } أو إلى التثبيت المفهوم من ذلك .
والصرف : نقل الشئ من مكان إلى مكان والمراد به هنا : الحفظ من الوقوع فيما نهى الله عنه ، أى : أريناه مثل هذه الإِراءة أو ثبتناه تثبيتا مثل هذا التثبيت لنعصمه ونحفظه ونصونه عن الوقوع في السوء - أى في المنكر والفجور والمكروه - والفحشاء - أى كل ما فحش وقبح من الأفعال كالزن ونحوه .
{ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المخلصين } - بفتح اللام - أى : إنه من عبادنا الذين أخلصناهم لطاعتنا وعصمناهم من كل ما يغضبنا .
وقرأ ابن عامر وابن كثير وأبو عمر " المخلصين " - بكسر اللام - أى : إنه من عبادنا الذين أخلصوا دينهم لنا .
والجملة الكريمة على القراءتين تعليل لحكمة صرفه - عليه السلام - عن السوء والفحشاء .
والنص هنا صريح وقاطع في أن رد يوسف المباشر على المراودة السافرة كان هو التأبي ، المصحوب بتذكر نعمة الله عليه ، وبتذكر حدوده وجزاء من يتجاوزون هذه الحدود . فلم تكن هناك استجابة في أول الموقف لما دعته إليه دعوة غليظة جاهزة بعد تغليق الأبواب ، وبعد الهتاف باللفظ الصريح الذي يتجمل القرآن في حكايته وروايته :
( ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه ) !
لقد حصر جميع المفسرين القدامى والمحدثين نظرهم في تلك الواقعة الأخيرة . فأما الذين ساروا وراء الإسرائيليات فقد رووا أساطير كثيرة يصورون فيها يوسف هائج الغريزة مندفعا شبقا ، والله يدافعه ببراهين كثيرة فلا يندفع ! صورت له هيئة أبيه يعقوب في سقف المخدع عاضا على أصبعه بفمه ! وصورت له لوحات كتبت عليها آيات من القرآن - أي نعم من القرآن ! - تنهي عن مثل هذا المنكر ، وهو لا يرعوي ! حتى أرسل الله جبريل يقول له : أدرك عبدي ، فجاء فضربه في صدره . . إلى آخر هذه التصورات الأسطورية التي سار وراءها بعض الرواة وهي واضحة التلفيق والاختراع !
وأما جمهور المفسرين فسار على أنها همت به هم الفعل ، وهم بها هم النفس ، ثم تجلى له برهان ربه فترك .
وأنكر المرحوم الشيخ رشيد رضا في تفسير المنار على الجمهور هذا الرأي . وقال : إنها إنما همت بضربه نتيجة إبائه وإهانته لها وهي السيدة الآمرة ، وهم هو برد الاعتداء ؛ ولكنه آثر الهرب فلحقت به وقدت قميصه من دبر . . وتفسير الهم بأنه هم الضرب ورد الضرب مسألة لا دليل عليها في العبارة ، فهي مجرد رأي لمحاولة البعد بيوسف عن هم الفعل أو هم الميل إليه في تلك الواقعة . وفيه تكلف وإبعاد عن مدلول النص .
أما الذي خطر لي وأنا أراجع النصوص هنا ، وأراجع الظروف التي عاش فيها يوسف ، في داخل القصر مع هذه المرأة الناضجة فترة من الزمن طويلة ، وقبل أن يؤتى الحكم والعلم وبعدما أوتيهما .
( ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه ) .
هو نهاية موقف طويل من الإغراء ، بعدما أبى يوسف في أول الأمر واستعصم . . وهو تصوير واقعي صادق لحالة النفس البشرية الصالحة في المقاومة والضعف ؛ ثم الاعتصام بالله في النهاية والنجاة . . ولكن السياق القرآني لم يفصل في تلك المشاعر البشرية المتداخلة المتعارضة المتغالبة ؛ لأن المنهج القرآني لا يريد أن يجعل من هذه اللحظة معرضا يستغرق أكثر من مساحته المناسبة في محيط القصة ، وفي محيط الحياة البشرية المتكاملة كذلك . فذكر طرفي الموقف بين الاعتصام في أوله والاعتصام في نهايته ، مع الإلمام بلحظة الضعف بينهما ، ليكتمل الصدق والواقعية والجو النظيف جميعا .
هذا ما خطر لنا ونحن نواجه النصوص ، ونتصور الظروف . وهو أقرب إلى الطبيعة البشرية وإلى العصمة النبوية . وما كان يوسف سوى بشر . نعم إنه بشر مختار . ومن ثم لم يتجاوز همه الميل النفسي في لحظة من اللحظات . فلما أن رأى برهان ربه الذي نبض في ضميره وقلبه ، بعد لحظة الضعف الطارئة ، عاد إلى الاعتصام والتأبي .
( كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء ، إنه من عبادنا المخلصين ) . .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ هَمّتْ بِهِ وَهَمّ بِهَا لَوْلآ أَن رّأَى بُرْهَانَ رَبّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السّوَءَ وَالْفَحْشَآءَ إِنّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ } .
ذُكر أن امرأة العزيز لما همّت بيوسف ، وأرادت مراودته ، جعلت تذكر له محاسن نفسه ، وتشوّقه إلى نفسها . كما :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو بن محمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { وَلَقَدْ هَمّتْ بهِ وَهَمّ بِها } ، قال : قالت له : يا يوسف ، ما أحسن شعرك ! قال : هو أوّل ما ينتثر من جسدي . قالت : يا يوسف ، ما أحسن وجهك ! قال : هو للتراب يأكله . فلم تزل حتى أطمعته ، فهمت به ، وهمّ بها . فدخلا البيت ، وغلقت الأبواب ، وذهب ليحلّ سراويله ، فإذا هو بصورة يعقوب قائما في البيت قد عضّ على أصبعه ، يقول : يا يوسف ، تواقعها فإنما مَثَلُكَ ما لم تواقعها مثل الطير في جوّ السماء لا يطاق ، ومثلك إذا واقعتها مثلَه إذا مات ووقع إلى الأرض لا يستطيع أن يدفع عن نفسه ، ومثلك ما لم تواقعها مثل الثور الصعب الذي لا يُعمل عليه ، ومثلك إن واقعتها مثل الثور حين يموت فيدخل النمل في أصل قرنيه لا يستطيع أن يدفع عن نفسه . فربط سراويله ، وذهب ليخرج يشتدّ ، فأدركْته ، فأخذت بمؤخر قميصه من خلفه ، فخرقته حتى أخرجته منه ، وسقط ، وطرحه يوسف ، واشتدّ نحو الباب .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : أكبت عليه ، يعني : المرأة ، تطمعه مرّة ، وتخيفه أخرى ، وتدعوه إلى لذّة من حاجة الرجال في جمالها وحسنها ومُلكها ، وهو شاب مستقبل يجد من شبق الرجال ما يجد الرجل حتى رقّ لها مما يرى من كلفها به ، ولم يتخوّف منها حتى همّ بها ، وهمت به ، حتى خَلَوَا في بعض بيوته .
ومعنى الهمّ بالشيء في كلام العرب : حديث المرء نفسه بمواقعته ، ما لم يواقع .
فأما ما كان من همّ يوسف بالمرأة وهمها به ، فإن أهل العلم قالوا في ذلك ما أنا ذاكره ، وذلك ما :
حدثنا أبو كريب وسفيان بن وكيع ، وسهل بن موسى الرازي ، قالوا : حدثنا ابن عيينة ، عن عثمان بن أبي سليمان ، عن ابن أبي مليكة ، عن ابن عباس ، سئل عن همّ يوسف ما بلغ ؟ قال : حلّ الهِمْيان ، وجلس منها مجلس الخاتن . لفظ الحديث لأبي كُريب .
حدثنا أبو كريب ، وابن وكيع ، قالا : حدثنا ابن عيينة ، قال : سمع عبيد الله بن أبي يزيد ابن عباس في : { وَلَقَدْ همّتْ بِه وَهَمّ بِهَا } ، قال : جلس منها مجلس الخاتن ، وحلّ الهِمْيان .
حدثنا زياد بن عبد الله الحساني ، وعمرو بن عليّ ، والحسن بن محمد ، قالوا : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن عبد الله بن أبي يزيد ، قال : سمعت ابن عباس سئل : ما بلغ من همّ يوسف ؟ قال : حلّ الهميان ، وجلس منها مجلس الخاتن .
حدثني زياد بن عبد الله ، قال : حدثنا محمد بن أبي عديّ ، عن ابن جريج ، عن ابن أبي مليكة ، قال : سألت ابن عباس : ما بلغ من همّ يوسف ؟ قال : استلقت له ، وجلس بين رجليها .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يحيى بن يمان ، عن ابن جريج ، عن ابن أبي مليكة : { وَلَقَدْ هَمّتْ بِهِ وَهَمّ بِها } ، قال : استلقت له ، وحلّ ثيابه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا قبيصة بن عقبة ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن جريج ، عن ابن أبي مليكة ، عن ابن عباس : { وَلَقَدْ هَمّتْ بِهِ وَهَمّ بِها } ، ما بلغ ؟ قال : استلقت له ، وجلس بين رجليها ، وحلّ ثيابه ، أو ثيابها .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، عن ابن جريج ، عن ابن أبي مليكة ، قال : سألت ابن عباس : ما بلغ من همّ يوسف ؟ قال : استلقت على قفاها ، وقعد بين رجليها لينزع ثيابه .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن ابن أبي مليكة ، قال : سئل ابن عباس ، عن قوله : { وَلَقَدْ هَمّتْ بِهِ وَهَمّ بِها } ، ما بلغ من همّ يوسف ؟ قال : حلّ الهميان ، يعني : السراويل .
حدثنا أبو كريب وابن وكيع ، قالا : حدثنا ابن إدريس ، قال : سمعت الأعمش ، عن مجاهد ، في قوله : { وَلَقَدْ هَمّتْ بِهِ وَهَمّ بِها } ، قال : حلّ السراويل حتى التّبان ، واستلقت له .
حدثنا زياد بن عبد الله الحساني ، قال : حدثنا مالك بن سعير ، قال : حدثنا الأعمش ، عن مجاهد ، في قوله : { وَلَقَدْ هَمّتْ بِهِ وَهَمّ بِها } ، قال : حلّ سراويله ، حتى وقع على التّبان .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { وَلَقَدْ هَمّتْ بِهِ وَهَمّ بِها } ، قال : جلس منها مجلس الرجل من امرأته .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، قال : ثني القاسم بن أبي بزة : { وَلَقَدْ هَمّتْ بِهِ وَهَمّ بِها } ، قال : أما هَمّها به : فاستلقت له ، وأما همه بها : فإنه قعد بين رجليها ، ونزع ثيابه .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : ثني حجاج بن محمد ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني عبد الله بن أبي مليكة ، قال : قلت لابن عباس : ما بلغ من همّ يوسف ؟ قال : استلقت له ، وجلس بين رجليها ينزع ثيابه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحماني ، قال : حدثنا يحيى بن اليمان ، عن سفيان ، عن عليّ بن بذيمة ، عن سعيد بن جبير وعكرمة ، قالا : حلّ السراويل ، وجلس منها مجلس الخاتن .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو بن محمد العنقزي ، عن شريك ، عن جابر ، عن مجاهد : { وَلَقَدْ هَمّتْ بِهِ وَهَمّ بِها } ، قال : استلقت ، وحلّ ثيابه حتى بلغ التبان .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا قيس ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير : { وَلَقَدْ هَمّتْ بِهِ وَهَمّ بِها } ، قال : أطلق تكة سراويله .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن عثمان بن أبي سليمان ، عن ابن أبي ملكية ، قال : شهدت ابن عباس سئل عن همّ يوسف ما بلغ ؟ قال : حلّ الهميان ، وجلس منها مجلس الخاتن .
فإن قال قائل : وكيف يجوز أن يوصف يوسف بمثل هذا ، وهو لله نبيّ ؟ قيل : إن أهل العلم اختلفوا في ذلك ، فقال بعضهم : كان ممن ابتلي من الأنبياء بخطيئة ، فإنما ابتلاه الله بها ليكون من الله عزّ وجلّ على وَجَل إذا ذكرها ، فيجدّ في طاعته إشفاقا منها ، ولا يتكل على سعة عفو الله ورحمته .
وقال آخرون : بل ابتلاهم الله بذلك ليعرّفهم موضع نعمته عليهم ، بصفحه عنهم ، وتركه عقوبته عليه في الآخرة .
وقال آخرون : بل ابتلاهم بذلك ليجعلهم أئمة لأهل الذنوب في رجاء رحمة الله ، وترك الإياس من عفوه عنه ، إذا تابوا .
وأما آخرون ممن خالف أقوال السلف ، وتأوّلوا القرآن بآرائهم ، فإنهم قالوا في ذلك أقوالاً مختلفة : فقال بعضهم : معناه : ولقد همت المرأة بيوسف ، وهمّ بها يوسف أن يضربها أو ينالها بمكروه لهمها به مما أرادته من المكروه ، لولا أن يوسف رأى برهان ربه ، وكفه ذلك عما همّ به من أذاها ، لا أنها ارتدعت من قِبلَ نفسها . قالوا : والشاهد على صحة ذلك قوله : { كذلكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السّوءَ والفَحْشاءَ } ، قالوا : فالسوء : هو ما كان همّ به من أذاها ، وهو غير الفحشاء .
وقال آخرون منهم : معنى الكلام : ولقد همت به . فتناهى الخبر عنها ، ثم ابتدىء الخبر عن يوسف ، فقيل : وهمّ بها يوسف ، لولا أن رأى برهان ربه . كأنهم وجهوا معنى الكلام إلى أن يوسف لم يهمّ بها ، وأن الله إنما أخبر أن يوسف لولا رؤيته برهان ربه لهمّ بها ، ولكنه رأى برهان ربه ، فلم يهمّ بها ، كما قيل : { وَلَوْلا فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتّبَعْتُمُ الشّيْطانَ إلاّ قَليلاً } . ويفسد هذين القولين أن العرب لا تقدم جواب «لولا » قبلها ، لا تقول : " لقد قمت لولا زيد " ، وهي تريد : " لولا زيد لقد قمت " ، هذا مع خلافهما جميع أهل العلم بتأويل القرآن الذين عنهم يؤخذ تأويله .
وقال آخرون منهم : بل قد همّت المرأة بيوسف ، وهمّ يوسف بالمرأة ، غير أن همهما كان تمثيلاً منهما بين الفعل والترك ، لا عزما ولا إرادة ، قالوا : ولا حرج في حديث النفس ولا في ذكر القلب إذا لم يكن معهما عزم ولا فعل . وأما البرهان الذي رآه يوسف ، فترك من أجله مواقعة الخطيئة ، فإن أهل العلم مختلفون فيه ، فقال بعضهم : نودي بالنهي عن مواقعة الخطيئة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن عيينة ، عن عثمان بن أبي سليمان ، عن ابن أبي ملكية ، عن ابن عباس : { لَوْلا أنْ رأى بُرْهانَ رَبّه } ، قال : نودي : يا يوسف ، أتزني ؟ فتكون كالطير وقع ريشه فذهب يطير ، فلا ريش له .
قال : حدثنا ابن عيينة ، عن عثمان بن أبي سليمان ، عن ابن أبي ملكية ، عن ابن عباس ، قال : لم يتعظ على النداء حتى رأى برهان ربه ، قال : تمثال صورة وجه أبيه ، قال سفيان : عاضّا على أصبعه ، فقال : يا يوسف ، تزني ، فتكون كالطير ذهب ريشة ؟
حدثني زياد بن عبد الله الحساني ، قال : ثني محمد بن أبي عديّ ، عن ابن جريج ، عن ابن أبي مليكة ، قال : قال ابن عباس : نودي : يا ابن يعقوب ، لا تكن كالطائر له ريش ، فإذا زنى ذهب ريشه ، أو قعدَ لا ريش له ، قال : فلم يتعظ على النداء ، فلم يزد على هذا ، قال ابن جريج : وحدثني غير واحد ، أنه رأى أباه عاضّا على أصبعه .
حدثني أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن نافع عن ابن عمر ، عن ابن أبي ملكية ، قال : قال ابن عباس : { لَوْلا أنْ رأى بُرْهانَ رَبّه } ، قال : نودي ، فلم يسمع ، فقيل له : يا ابن يعقوب ، تريد أن تزني ، فتكون كالطير نُتِف فلا ريش له ؟
حدثنا ابن حميد . قال : حدثنا سلمة ، عن طلحة ، عن عمرو الحضرميّ ، عن ابن أبي مليكة ، قال : بلغني أن يوسف لما جلس بين رجلي المرأة ، فهو يحلّ هميانه ، نودي : يا يوسف بن يعقوب ، لا تزن ، فإن الطير إذا زنى تناثر ريشه ، فأعرض . ثم نودي ، فأعرض . فتمثل له يعقوب عاضّا على أصبعه ، فقام .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا قبيصة بن عقبة ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن جريج ، عن ابن أبي مليكة ، عن ابن عباس ، قال : نودي : يا ابن يعقوب ، لا تكن كالطير إذا زنى ذهب ريشه ، وبقي لا ريش له ، فلم يتعظ على النداء ، ففزع .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا حجاج بن محمد ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني عبد الله بن أبي ملكية ، قال : قال ابن عباس : نودي : يا ابن يعقوب ، لا تكوننّ كالطائر له ريش ، فإذا زنى ذهب ريشه ، قال : أو قعد لا ريش له ، فلم يتعظ على النداء شيئا ، حتى رأى برهان ربه ، ففَرِق ، ففرّ .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن عثمان بن أبي سلمان ، عن ابن أبي مليكة ، قال : قال ابن عباس : نودي : يا ابن يعقوب ، أتزني ، فتكون كالطير وقع ريشه ، فذهب يطير فلا ريش له ؟
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني نافع بن يزيد ، عن همام بن يحيى ، عن قتادة قال : نودي يوسف فقيل : أنت مكتوب في الأنبياء ، تعمل عمل السفهاء ؟
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يحيى بن يمان . عن ابن جريج ، عن ابن أبي ملكية ، قال : نودي : يوسف بن يعقوب ، تزني ، فتكون كالطير نتف فلا ريش له ؟
وقال آخرون : البرهان الذي رأى يوسف ، فكفّ عن مواقعة الخطيئة من أجله ، صورة يعقوب عليهما السلام يتوعدّه .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا عمرو بن محمد العَنْقزيّ ، قال : أخبرنا إسرائيل ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله : { لَوْلا أنْ رأى بُرْهانَ رَبّه } ، قال : رأى صورة أو تمثال وجه يعقوب عاضّا على أصبعه ، فخرجت شهوته من أنامله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو بن العَنْقزي ، عن إسرائيل ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { لَوْلا أنْ رأى بُرْهانَ رَبّه } ، قال : مثل له يعقوب ، فضرب في صدره ، فخرجت شهوته من أنامله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا محمد بن بشر ، عن مسعر ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير : { لَوْلا أنْ رأى بُرْهانَ رَبّه } ، قال : رأى تمثال وجه أبيه قائلاً بكفه ، هكذا ، - وبسط كفه - ، فخرجت شهوته من أنامله .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير : { لَوْلا أنْ رأى بُرْهانَ رَبّه } ، قال : مُثّل له يعقوب عاضّا على أصابعه ، فضرب صدره ، فخرجت شهوته من أنامله .
حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا عبد الله بن وهب ، قال : أخبرني ابن جريج ، عن ابن أبي مليكة ، عن ابن عباس ، في قوله : { لَوْلا أنْ رأى بُرْهانَ رَبّه } ، قال : رأى صورة يعقوب واضعا أنملته على فيه يتوعده ، ففرّ .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا يحيى بن عباد ، قال : حدثنا جرير بن حازم ، قال سمعت عبد الله بن أبي مليكة يحدّث ، عن ابن عباس ، في قوله : { وَلَقَدْ هَمّتْ بِهِ وَهَمّ بِها } ، قال : حين رأى يعقوب في سقف البيت ، قال : فنزعت شهوته التي كان يجدها حتى خرج يسعى إلى باب البيت ، فتبعته المرأة .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع . وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن قرة بن خالد السدوسي ، عن الحسن ، قال : زعموا ، والله أعلم ، أن سقف البيت انفرج ، فرأى يعقوب عاضّا على أصابعه .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن يونس ، عن الحسن ، في قوله : { لَوْلا أنْ رأى بُرْهانَ رَبّه } ، قال : رأى تمثال يعقوب عاضّا على أصبعه ، يقول : يوسف ! يوسف !
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن علية ، عن يونس ، عن الحسن ، نحوه .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا عمرو العنقزي ، قال : أخبرنا سفيان الثوري ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير : { لَوْلا أنْ رأى بُرْهانَ رَبّه } ، قال : رأى تمثال وجه يعقوب ، فخرجت شهوته من أنامله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يحيى بن يمان ، عن سفيان ، عن عليّ بن بذيمة ، عن سعيد بن جبير ، قال : رأى صورة فيها وجه يعقوب عاضّا على أصابعه ، فدفع في صدره ، فخرجت شهوته من أنامله . فكلّ ولد يعقوب ولد له اثنا عشر رجلاً إلا يوسف ، فإنه نقص بتلك الشهوة ، ولم يولد له غير أحد عشر .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني يونس بن زيد ، عن ابن شهاب ، أن حميد بن عبد الرحمن أخبره : أن البرهان الذي رأى يوسف ، يعقوب .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا عيسى بن المنذر ، قال : حدثنا أيوب بن سويد ، قال : حدثنا يونس بن يزيد الأيلي ، عن الزهري ، عن حميد بن عبد الرحمن ، مثله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد : { لَوْلا أنْ رأى بُرْهانَ رَبّه } ، قال : مثل له يعقوب .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عمرو ، عن منصور ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { لَوْلا أنْ رأى بُرْهانَ رَبّه } ، قال : يعقوب .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا شبابة ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، وحدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : مثل له يعقوب .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد أنه قال : جلس منها مجلس الرجل من امرأته حتى رأى صورة يعقوب في الجُدُر .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، في قوله : { لَوْلا أنْ رأى بُرْهانَ رَبّه } ، قال : مُثّل له يعقوب .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن القاسم بن أبي بزة ، قال : نودي : يا ابن يعقوب ، لا تكوننّ كالطير له ريش ، فإذا زنى قعد ليس له ريش ، فلم يعرض للنداء ، وقعد ، فرفع رأسه ، فرأى وجه يعقوب عاضّا على أصبعه ، فقام مرعوبا استحياء من الله تعالى ذكره . فذلك قول الله سبحانه وتعالى : { لَوْلا أنْ رأى بُرْهانَ رَبّه } : وجه يعقوب .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن النضر بن عربي ، عن عكرمة ، قال : مثل له يعقوب عاضّا على أصابعه .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن نضر بن عربيّ ، عن عكرمة ، مثله .
حدثني الحارث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا قيس ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير ، قال : مثل له يعقوب ، فدفع في صدره ، فخرجت شهوته من أنامله .
قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا سفيان ، عن عليّ بن بذيمة ، قال : كان يولد لكلّ رجل منهم اثنا عشر ابنا إلا يوسف ، ولد له أحد عشر من أجل ما خرج من شهوته .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا : ابن وهب ، قال : قال أبو شريح : سمعت عبيد الله بن أبي جعفر يقول : بلغ من شهوة يوسف أن خرجت من بنانه .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يعلى بن عبيد ، عن محمد الخراسانيّ ، قال : سألت محمد بن سيرين ، عن قوله : { لَوْلا أنْ رأى بُرْهانَ رَبّه } ، قال : مثل له يعقوب عاضّا على أصابعه ، يقول : يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الله ، اسمك في الأنبياء وتعمل عمل السفهاء ؟
حدثني محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن يونس ، عن الحسن ، في قوله : { لَوْلا أنْ رأى بُرْهانَ رَبّه } ، قال : رأى يعقوب عاضّا على أصبعه ، يقول : يوسف !
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، قال : قال قتادة : رأى صورة يعقوب ، فقال : يا يوسف ، تعمل عمل الفجار ، وأنت مكتوب في الأنبياء ؟ فاستحيى منه .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { لَوْلا أنْ رأى بُرْهانَ رَبّه } : رأى آية من آيات ربه ، حجزه الله بها عن معصيته ، ذُكر لنا أنه مُثّلَ له يعقوب حتى كلمه ، فعصمه الله ، ونزع كلّ شهوة كانت في مفاصله .
قال : حدثنا سعيد عن قتادة ، عن الحسن : أنه مثل له يعقوب وهو عاضّ على أصبع من أصابعه .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا إسماعيل بن أبي سالم ، عن أبي صالح ، قال : رأى صورة يعقوب في سقف البيت عاضّا على إصبعه ، يقول : يا يوسف ، يعني قوله : { لَوْلا أنْ رأى بُرْهانَ رَبّه } .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن منصور ويونس عن الحسن ، في قوله : { لَوْلا أنْ رأى بُرْهانَ رَبّه } ، قال : رأى صورة يعقوب في سقف البيت عاضّا على أصبعه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن إسماعيل بن أبي سالم ، عن أبي صالح مثله ، وقال عاضّا على أصبعه ، يقول : يوسف ! يوسف !
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب القمى ، عن حفص بن حميد ، عن شمر بن عطية ، قال : نظر يوسف إلى صورة يعقوب عاضّا على أصبعه ، يقول : يا يوسف ! فذاك حيث كفّ ، وقام ، فاندفع .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحماني ، قال : حدثنا شريك ، عن سالم وأبي حصين ، عن سعيد بن جبير : { لَوْلا أنْ رأى بُرْهانَ رَبّه } ، قال : رأى صورة فيها وجه يعقوب عاضّا على أصابعه ، فدفع في صدره ، فخرجت شهوته من بين أنامله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا مسعر ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير : { لَوْلا أنْ رأى بُرْهانَ رَبّه } ، قال : رأى تمثال وجه أبيه ، فخرجت الشهوة من أنامله .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا يحيى بن عباد ، قال : حدثنا أبو عوانة ، عن إسماعيل بن سالم ، عن أبي صالح : { لَوْلا أنْ رأى بُرْهانَ رَبّه } ، قال : تمثال صورة يعقوب في سقف البيت .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا جعفر بن سليمان ، عن يونس بن عبيد ، عن الحسن ، قال : رأى يعقوب عاضّا على يده .
قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوريّ ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير ، في قوله : { لَوْلا أنْ رأى بُرْهانَ رَبّه } ، قال : يعقوب ضرب بيده على صدره ، فخرجت شهوته من أنامله .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك ، يقول في قوله : { لَوْلا أنْ رأى بُرْهانَ رَبّه } : آية من ربه . يزعمون أنه مثل له يعقوب ، فاستحيى .
وقال آخرون : بل البرهان الذي رأى يوسف ما أوعد الله عزّ وجلّ على الزنا أهله .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا وكيع ، عن أبي مودود ، قال : سمعت محمد بن كعب القرظي ، قال : رفع يوسف رأسه إلى سقف البيت ، فإذا كتاب في حائط البيت : { لا تَقْرَبُوا الزّنا إنّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً } .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن مودود ، عن محمد بن كعب ، قال : رفع يوسف رأسه إلى سقف البيت ، حين همّ ، فرأى كتابا في حائط البيت : { لا تَقْرَبُوا الزّنا إنّهُ كانَ فَاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً } .
قال : حدثنا زيد بن الحباب ، عن أبي معشر ، عن محمد بن كعب : { لَوْلا أنْ رأى بُرْهانَ رَبّه } ، قال : لولا ما رأى في القرآن من تعظيم الزنا .
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني نافع بن يزيد ، عن أبي صخر ، قال : سمعت القرظي يقول في البرهان الذي رأى يوسف : ثلاث آيات من كتاب الله : { إنّ عَلَيْكُمْ لحَافِظينَ . . . } ، الآية ، وقوله : { ومَا تَكُونُ فِي شأنٍ . . . } ، الآية ، وقوله : { أفَمَنْ هُوَ قائمٌ على كُلّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ } . قال نافع : سمعت أبا هلال يقول مثل قول القُرَظي ، وزاد آية رابعة : { وَلا تَقْرَبُوا الزّنا } .
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا عمرو بن محمد ، قال : أخبرنا أبو معشر ، عن محمد بن كعب القُرَظيّ : { لَوْلا أنْ رأى بُرْهانَ رَبّه } ، فقال : ما حرّم الله عليه من الزنا .
وقال آخرون : بل رأى تمثال الملك .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { وَلَقَدْ هَمّتْ بِهِ وَهَمّ بها لَوْلا أنْ رأى بُرْهانَ رَبّهِ } ، يقول : آيات ربه ، أُرِيَ تمثال الملك .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : كان بعض أهل العلم ، فيما بلغني ، يقول : البرهان الذي رأى يوسف ، فصرف عنه السوء والفحشاء : يعقوب عاضّا على أصبعه ، فلما رآه انكشف هاربا . ويقول بعضهم : إنما هو خيال إطفير ، سيده ، حين دنا من الباب ، وذلك أنه لما هرب منها واتبعته ، ألفياه لدى الباب .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله جلّ ثناؤه أخبر عن همّ يوسف وامرأة العزيز كلّ واحد منهما بصاحبه ، لولا أن رأى يوسف برهان ربه ، وذلك آية من آيات الله ، زجرته عن ركوب ما همّ به يوسف من الفاحشة . وجائز أن تكون تلك الآية صورة يعقوب ، وجائز أن تكون صورة الملك ، وجائز أن يكون الوعيد في الآيات التي ذكرها الله في القرآن على الزنا ، ولا حجة للعذر قاطعة بأيّ ذلك من أيّ . والصواب أن يقال في ذلك ما قاله الله تبارك وتعالى ، والإيمان به ، وترك ما عدا ذلك إلى عالمِه .
وقوله : { كذلكَ لِنَصْرفَ عَنْهُ السّوءَ والفَحْشاءَ } ، يقول تعالى ذكره : كما أرينا يوسف برهاننا على الزجر عما همّ به من الفاحشة ، كذلك نسبب له في كل ما عرض له من همّ يهمّ به فيما لا يرضاه ، ما يزجره ويدفعه عنه ، كي نصرف عنه ركوب ما حرّمنا عليه وإتيان الزنا ، لنطهره من دنس ذلك .
وقوله : { إنّهُ مِنْ عِبادِنا المُخْلَصِينَ } ، اختلف القرأة في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المدينة والكوفة : { إنّهُ مِنْ عِبادِنا المُخْلَصِينَ } ، بفتح اللام من «المخلصين » ، بتأويل : إن يوسف من عبادنا الذين أخلصناهم لأنفسنا واخترناهم لنبوّتنا ورسالتنا . وقرأ ذلك بعض قرأة البصرة : { إنّهُ مِنْ عِبادِنا المُخْلِصِينَ } ، بكسر اللام ، بمعنى : أن يوسف من عبادنا الذين أخلصوا توحيدنا وعبادتنا ، فلم يشركوا بنا شيئا ، ولم يعبدوا شيئا غيرنا .
والصواب من القول في ذلك أن يقال : إنهما قراءتان معروفتان ، قد قرأ بهما جماعة كثيرة من القرأة ، وهما متفقتا المعنى ؛ وذلك أن من أخلصه الله لنفسه فاختاره ، فهو مخلص لله التوحيد والعبادة ، ومن أخلص توحيد الله وعبادته فلم يشرك بالله شيئا ، فهو ممن أخلصه الله ، فبأيتهما قرأ القارىء ، فهو للصواب مصيب .
{ ولقد همّت به وهمّ بها } وقصدت مخالطته وقصد مخالطتها ، والهم بالشيء قصده والعزم عليه ومنه الهمام وهو الذي إذا هم بالشيء أمضاه ، والمراد بهمه عليه الصلاة والسلام ميل الطبع ومنازعة الشهوة لا القصد الاختياري ، وذلك مما لا يدخل تحت التكليف بل الحقيق بالمدح والأجر الجزيل من الله من يكف نفسه عن الفعل عند قيام هذا الهم ، أو مشارفة الهم كقولك قتلته لو لم أخف الله . { لولا أن رأى برهان ربه } في قبح الزنا وسوء مغبته لخالطها لشبق الغلمة وكثرة المغالبة ، ولا يجوز أن يجعل { وهم بها } جواب { لولا } فإنها في حكم أدوات الشرط فلا يتقدم عليها جوابها ، بل الجواب محذوف يدل عليه . وقيل رأى جبريل عليه الصلاة والسلام . وقيل تمثل له يعقوب عاضا على أنامله . وقيل قطفير . وقيل نودي يا يوسف أنت مكتوب في الأنبياء وتعمل عمل السفهاء . { كذلك } أي مثل ذلك التثبيت ثبتناه ، أو الأمر مثل ذلك . { لنصرف عنه السّوء } خيانة السيد . { والفحشاء } الزنا . { إنه من عبادنا المخلصين } اللذين أخلصهم الله لطاعته . وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر ويعقوب بالكسر في كل القرآن إذا كان في أوله الألف واللام أي الذين أخلصوا دينهم لله .
الهم : العزم على الفعل . وتقدم عند قوله تعالى : { وهمّوا بما لم ينالوا } في سورة براءة ( 74 ) . وأكد همّها ب { قد } ولام القسم ليفيد أنها عزمت عزماً محققاً .
وجملة { ولقد همت به } مستأنفة استئنافاً ابتدائياً . والمقصود : أنها كانت جادة فيما راودته لا مختبرة . والمقصود من ذكر هَمّها به التمهيد إلى ذكر انتفاء همه بها لبيان الفرق بين حاليهما في الدين فإنه معصوم .
وجملة { وهَمّ بها لولا أن رأى برهان ربه } معطوفة على جملة { ولقد همت به } كلها . وليست معطوفة على جملة { همت } التي هي جواب القسم المدلول عليه باللام ، لأنه لما أردفت جملة { وهمّ بها } بجملة شرط { لولا } المتمحض لكونه من أحوال يوسف عليه السّلام وحْده لا من أحوال امرأة العزيز تعين أنه لا علاقة بين الجملتين ، فتعين أن الثانية مستقلة لاختصاص شرطها بحال المسند إليه فيها .
فالتقدير : ولولا أن رأى برهان ربه لَهَمّ بها ، فقدم الجواب على شرطه للاهتمام به . ولم يقرن الجواب باللاّم التي يكثر اقتران جواب { لولا } بها لأنه ليس لازماً ولأنه لمّا قُدم على { لولا } كُره قرنه باللام قبل ذكر حرف الشرط ، فيحسن الوقف على قوله : { ولقد همت به } ليظهر معنى الابتداء بجملة { وهَمّ بها } واضحاً . وبذلك يظهر أن يوسف عليه السّلام لم يخالطه همّ بامرأة العزيز لأن الله عصمه من الهمّ بالمعصية بما أراه من البرهان .
قال أبو حاتم : كنت أقرأ غريب القرآن على أبي عبيدة فلما أتيت على قوله : { ولقد همّت به وهمّ بها } الآية قال أبو عبيدة : هذا على التقديم والتأخير ، أي تقديم الجواب وتأخير الشرط ، كأنه قال : ولقد همّت به ولولا أن رأى برهان ربه لَهَمّ بها .
وطعن في هذا التأويل الطبري بأن جواب { لولا } لا يتقدم عليها . ويدفع هذا الطعن أن أبا عبيدة لما قال ذلك علمنا أنه لا يرى منع تقديم جواب { لولا } ، على أنه قد يجعل المذكور قبل { لولا } دليلاً للجواب والجواب محذوفاً لدلالة ما قبل { لولا } عليه . ولا مفرّ من ذلك على كل تقدير فإن { لولا } وشرطها تقييد لقوله : { وهمّ بها } على جميع التأويلات ، فما يقدّر من الجواب يقدّر على جميع التأويلات .
وقال جماعة : هَمّ يوسف بأن يجيبها لما دعته إليه ثم ارعوى وانكفّ على ذلك لما رأى برهان ربه . قاله ابن عباس ، وقتادة ، وابن أبي مليكة ، وثعْلب . وبيان هذا أنه انصرف عمّا همّ به بحفظ الله أو بعصمته ، والهمّ بالسيئة مع الكف عن إيقاعها ليس بكبيرة فلا ينافي عصمة الأنبياء من الكبائر قبل النبوءة على قول من رأى عصمتهم منها قبل النبوءة ، وهو قول الجمهور ، وفيه خلاف ، ولذلك جوز ابن عباس ذلك على يوسف . وقال جماعة : هَمّ يوسف وأخذ في التهيّؤ لذلك فرأى برهاناً صرفه عن ذلك فأقلع عن ذلك . وهذا قول السديّ ، ورواية عن ابن عباس . وهو يرجع إلى ما بيناه في القول الذي قبله .
وقد خبط صاحب « الكشاف » في إلصاق هذه الروايات بمن يسميهم الحشوية والمجْبرة ، وهو يعني الأشاعرة ، وغض بصره عن أسماء من عزيت إليهم هذه التّأويلات ( رمتني بدائها وانسلت ) ولم يتعجب من إجماع الجميع على محاولة إخوة يوسف عليه السّلام قتلَه والقتلُ أشد .
والرؤية : هنا عِلمية لأن البرهان من المعاني التي لا ترى بالبصر .
والبرهان : الحجة . وهذا البرهان من جملته صرفهُ عن الهمّ بها ، ولولا ذلك لكان حال البشرية لا يسلم من الهمّ بمطاوعتها في تلك الحالة لتوفّر دواعي الهمّ من حسنها ، ورغبتها فيه ، واغتباط أمثاله بطاعتها ، والقرب منها ، ودواعي الشباب المسولة لذلك ، فكان برهان الله هو الحائل بينه وبين الهمّ بها دون شيء آخر .
واختلف المفسرون في ما هو هذا البرهان ، فمنهم من يشير إلى أنه حجة نظرية قبّحت له هذا الفعل ، وقيل : هو وحي إلهي ، وقيل : حفظ إلهي ، وقيل : مشاهدات تمثلت له .
والإشارة في قوله : { كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء } إلى شيء مفهوم مما قبله بتضمنه قوله : { رأى برهان ربّه } ، وهو رأي البرهان ، أي أريناه كذلك الرأي لنصرف عنه السوء .
والصرف : نقل الشيء من مكان إلى مكان ، وهو هنا مجاز عن الحفظ من حلول الشيء بالمحل الذي من شأنه أن يحل فيه . عبر به عن العصمة من شيء يوشك أن يلابس شيئاً . والتعبير عن العصمة بالصرف يشير إلى أن أسباب حصول السوء والفحشاء موجودة ولكن الله صرفهما عنه .
والسوء : القبيح ، وهو خيانة من ائتمنه . والفحشاء : المعصية ، وهي الزنى . وتقدم السوء والفحشاء عند قوله تعالى : { إنما يأمركم بالسوء والفحشاء } في سورة البقرة ( 169 ) . ومعنى صرفهما عنه صرف ملابسته إياهما .
وجملة { إنه من عبادنا المخلصين } تعليل لحكمة صرفه عن السوء والفحشاء الصرف الخارق للعادة لئلا ينتقص اصطفاء الله إياه في هذه الشدة على النفس .
قرأ نافع ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو جعفر ، وخلف { المخلَصين } بفتح اللام أي الذين أخلصهم الله واصطفاهم . وقرأه ابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، ويعقوب بكسر اللام على معنى المخلصين دينهم لله . ومعنى التعليل على القراءتين واحد .