{ لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا * وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ْ }
أي : { لَيْسَ ْ } الأمر والنجاة والتزكية { بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ْ } والأماني : أحاديث النفس المجردة عن العمل ، المقترن بها دعوى مجردة لو عورضت بمثلها لكانت من جنسها . وهذا عامّ في كل أمر ، فكيف بأمر الإيمان والسعادة الأبدية ؟ !
فإن أماني أهل الكتاب قد أخبر الله بها أنهم قالوا : { لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ ْ } وغيرهم ممن ليس ينتسب لكتاب ولا رسول من باب أولى وأحرى .
وكذلك أدخل الله في ذلك من ينتسب إلى الإسلام لكمال العدل والإنصاف ، فإن مجرد الانتساب إلى أي دين كان ، لا يفيد شيئا إن لم يأت الإنسان ببرهان على صحة دعواه ، فالأعمال تصدق الدعوى أو تكذبها ولهذا قال تعالى : { مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ْ } وهذا شامل لجميع العاملين ، لأن السوء شامل لأي ذنب كان{[242]} .
من صغائر الذنوب وكبائرها ، وشامل أيضا لكل جزاء قليل أو كثير ، دنيوي أو أخروي .
والناس في هذا المقام درجات لا يعلمها إلا الله ، فمستقل ومستكثر ، فمن كان عمله كله سوءا وذلك لا يكون إلا كافرا . فإذا مات من دون توبة جوزي بالخلود في العذاب الأليم .
ومن كان عمله صالحا ، وهو مستقيم في غالب أحواله ، وإنما يصدر منه بعض الأحيان بعض الذنوب الصغار فما يصيبه من الهم والغم والأذى و [ بعض ]{[243]}
الآلام في بدنه أو قلبه أو حبيبه أو ماله ونحو ذلك - فإنها مكفرات للذنوب ، وهي مما يجزى به على عمله ، قيضها الله لطفا بعباده ، وبين هذين الحالين مراتب كثيرة .
وهذا الجزاء على عمل السوء العام مخصوص في غير التائبين ، فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له ، كما دلت على ذلك النصوص .
وقوله : { وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ْ } لإزالة بعض ما لعله يتوهم أن من استحق المجازاة على عمله قد يكون له ولي أو ناصر أو شافع يدفع عنه ما استحقه ، فأخبر تعالى بانتفاء ذلك ، فليس له ولي يحصل له المطلوب ، ولا نصير يدفع عنه المرهوب ، إلا ربه ومليكه .
ثم بين - سبحانه - أن الوصول إلى رضوانه لا يكون بالأمانى والأوهام وإنما يكون بالإِيمان والعمل الصالح فقال : { لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ ولا أَمَانِيِّ أَهْلِ الكتاب مَن يَعْمَلْ سواءا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ الله وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً } .
والأمانى : جمع أمنية . وهى ما يتمناه الإِنسان ويرغب فيه ويشتهيه من أشياء متنوعة . كحصوله على الخير الوفير فى الدنيا ، وعلى الجنة فى الآخرة . وهى مأخوذة من التمنى .
وقد روى المفسرون فى سبب نزول هذه الآية روايات منها قول قتادة : ذكر لنا أن المسلمين وأهل الكتاب افتخروا . فقال أهل الكتاب . نبينا قبل نبيكم ، وكتابنا قبل كتابكم فنحن أولى منكم . وقال المسلمون : نحن أولى بالله منكم ، ونبينا خاتم النبيين . وكتابنا يقضى على الكتب التى كانت قبله . فأنزل الله : { لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ ولا أَمَانِيِّ أَهْلِ الكتاب } . الآية .
وقال مجاهد : قالت العرب لن نبعث ولن نعذب . وقالت اليهود والنصارى { لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نصارى } فأنزل الله - تعالى - { لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ } . الآية .
والضمير فى قوله { لَّيْسَ } يعود إلى ما تقدم ذكره من الوعد المتقدم وهو نيل الثواب ودخول الجنة .
والخطاب لجميع الفرق التى حدث بينهما تنازع فى شأن الدين الحق ، وفى شأن ما يترتب على ذلك من ثواب .
والمعنى : ليس ما وعدا لله به من الثواب أو إدخال الجنة ، أو ليس ما تحاورتم فيه حاصلا بمجرد أمانكم - أيها المسلمون - أو أمانى أهل الكتاب أو غيرهم ، وإنما ما تمنيتموه جميعا يحصل بالإِيمان الصادق ، وبالعمل الصالح ، وبالسعى والجد فى طاعة الله ، فقد اقتضت سنة الله - تعالى - أن من يعمل خيرا يجد خيرا ، و { مَن يَعْمَلْ سواءا يُجْزَ بِهِ } أى : من يرتكب معصية مؤمنا كان أو كافرا يجازه الله بها عاجلا أو آجلا إذا تاب ، أو تفضل الله عليه بالمغفرة إذا كان مؤمنا .
وقد سار ابن كثير فى تفسيره على أن الخطاب لجميع الطوائف فقال : " والمعنى فى هذه الآية أن الدين ليس بالتحلى ولا بالتمنى ، ولكن ما وقر فى القلوب وصدقته الأعمال . وليس كل من ادعى شيئا حصل له بمجرد دعواه ، ولا كل من قال إنه على الحق سمع قوله بمجرد ذلك حتى يكون له من الله برهان ؛ ولهذا قال : { لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ ولا أَمَانِيِّ أَهْلِ الكتاب } .
أى ليس لكم ولا لهم النجاة بمجرد التمنى . بل العبرة بطاعة الله - سبحانه - واتباع ما شرعه على ألسنة رسله ولهذا قال بعده { مَن يَعْمَلْ سواءا يُجْزَ بِهِ } . كقوله : { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } ومنهم من يرى أن الخطاب فى قوله { لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ } للمسلمين .
وقد أشار إلى ذلك صاحب الكشاف بقوله : فى { لَّيْسَ } ضمير وعد الله أى : ليس ينال ما وعد الله من الثواب { بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا } بأمانى أهل الكتاب . والخطاب للمسلمين ، لأنه لا يتمنى وعد الله إلا من آمن به . وكذلك ذكر أهل الكتاب معهم لمشاركتهم لهم فى الإيمان بوعد الله .
ومنهم من يرى أن الخطاب للمشركين . وقد رجح ذلك ابن جرير فقال ما ملخصه : وأولى الأقوال بالصواب فى ذلك ما قاله مجاهد من أنه عنى بقوله { لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ } . مشركى قريش . وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب . لأن المسلمين لم يجر لأمانيهم ذكر فيما مضى من الآى قبل قوله { لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ } وإنما جرى ذكر أمانى نصيب الشيطان المفروض فى قوله قبل ذلك . { وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلأَمُرَنَّهُمْ } وقوله { يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ } فإلحاق معنى قوله - تعالى - { لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ } بما ذكره قبل أحق وأولى من ادعاء تأويل فيه لا دالة عليه من ظاهر التنزيل ، ولا من أثر الرسول صلى الله عليه وسلم .
ومع وجاهة هذا الرأى الذى سار عليه ابن جرير ، إلا أنا نؤثر عليه ما ذهب إليه ابن كثير من أن الآية الكريمة تخاطب الناس جميعا سواء أكانوا مؤمنين أم مشركين أم من أهل الكتاب . لأن الآية الكريمة تضع لهم جميعا قاعدة عامة وهى أن الوصول إلى ثواب الله ورضاه لا ينال بالأمانى والأحلام وإنما ينال بالإِيمان والعمل الصالح .
وقوله { مَن يَعْمَلْ سواءا يُجْزَ بِهِ } جملة مكونة من شرط وجزاء . والمراد بالسوء ما يشمل الكفر والمعاصى . وقيل : المراد بالسوء هنا الكفر فقط .
قال الآوسى قوله - تعالى - : { مَن يَعْمَلْ سواءا يُجْزَ بِهِ } أى : عاجلا أو آجلا .
فقد أخرج الترمذى وغيره " عن أبى بكر الصديق قال : كنت عند النبى صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية . فقال رسول الله : يا أبا بكر ألا أقرئك أية نزلت على ؟ فقلت : بلى يا رسول الله . فأقرأنيها فلا أعلم إلا أنى وجدت انفصاما فى ظهرى . . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم . مالك يا أبا بكر ؟ قلت بأبى أنت وأمى يا رسول الله وأينا لم يعمل السوء . وإنما لمجزيون بكل سوء علمناه ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما أنت وأصحابك يا أبا بكر المؤمنون فتجزون بذلك فى الدنيا حتى تلقوا الله - تعالى - ليس عليكم ذنوب . وأما الآخرون فيجمع لهم ذلك حتى يجزون يوم القيامة " .
وأخرج مسلم وغيره عن أبى هريرة قال : " لما نزلت هذه الآية شق ذلك على المسلمين وبلغت منهم ما شاء الله - تعالى - فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : سددوا وقاربوا فإن كل ما أصاب المسلم كفارة حتى الشوكة يشاكها والنكبة ينكبها " .
قال الآلوسى : والأحاديث بهذا المعنى أكثر من أن تحصى . ولهذا أجمع عامة العلماء على أن الأمراض والاسقام ومصائب الدنيا وهمومها - وإن قلت مشقتها - يكفر الله - تعالى - بها الخطيئات ، والأكثرون على أنها - أيضا ترفع بها الدرجات ، وهو الصحيح المعول عليه . فقد صح فى غير ما طريق ؛ " ما من مسلم يشاك شكوكة فما فوقها إلا كتبت له بها درجة ومحيت عنه بها خطيئة " .
وقوله - تعالى - { بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ الله وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً } تذليل قصد به تأكيد ما قبله من أن ثواب الله لا ينال إلا بالإيمان والعمل الصالح ، وأن عقابه سيحل بمن يعمل السوء .
أى : أن من يعمل السوء سيجازى به ، ولا يجهد هذا المرتكب للسوء أحدا سوى الله - سبحانه - يلى أمره ويحامى عنه ، ولا نصيرا ينصره ويحاول إنجاءه من عقاب الله - تعالى –
ثم يعقب السياق بقاعدة الإسلام الكبرى في العمل والجزاء . . إن ميزان الثواب والعقاب ليس موكولا إلى الأماني . إنه يرجع إلى أصل ثابت ، وسنة لا تتخلف ، وقانون لا يحابي . قانون تستوي أمامه الأمم - فليس أحد يمت إلى الله سبحانه بنسب ولا صهر - وليس أحد تخرق له القاعدة ، وتخالف من أجله السنة ، ويعطل لحسابه القانون . . إن صاحب السوء مجزى بالسوء ؛ وصاحب الحسنة مجزى بالحسنة . ولا محاباة في هذا ولا مماراة :
( ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب . من يعمل سوءا يجز به ، ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا . . ومن يعمل من الصالحات - من ذكر أو أنثى وهو مؤمن - فأولئك يدخلون الجنة ، ولا يظلمون نقيرا ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله - وهو محسن - واتبع ملة إبراهيم حنيفا ، واتخذ الله إبراهيم خليلاً ) .
ولقد كان اليهود والنصارى يقولون : ( نحن أبناء الله وأحباؤه ) . . وكانوا يقولون : ( لن تمسنا النار إلا أياما معدودة ) . . وكان اليهود ولا يزالون يقولون : إنهم شعب الله المختار !
ولعل بعض المسلمين كانت تراود نفوسهم كذلك فكرة أنهم خير أمة أخرجت للناس . وأن الله متجاوز عما يقع منهم . . بما أنهم المسلمون . .
ولقد شق على المسلمين قول الله لهم :
( ومن يعمل سوء ا يجز به ، ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرًا ) . .
فقد كانوا يعرفون طبيعة النفس البشرية ؛ ويعرفون أنها لا بد أن تعمل سوءا . مهما صلحت ، ومهما عملت من حسنات .
كانوا يعرفون النفس البشرية - كما هي في حقيقتها - وكانوا من ثم يعرفون أنفسهم . . لم يخدعوا أنفسهم عن حقيقتها ؛ ولم يخفوا عن أنفسهم سيئاتها ؛ ولم يتجاهلوا ما يعتور نفوسهم من ضعف أحيانا ، ولم ينكروا أو يغطوا هذا الضعف الذي يجدونه . ومن ثم ارتجفت نفوسهم ، وهم يواجهون بأن كل سوء يعملونه يجزون به . ارتجفت نفوسهم كالذي يواجه العاقبة فعلا ويلامسها ، وهذه كانت ميزتهم . أن يحسوا الآخرة على هذا النحو ، ويعيشوا فيها فعلا بمشاعرهم كأنهم فيها . لا كأنها آتية لا ريب فيها فحسب ! ومن ثم كانت رجفتهم المزلزلة لهذا الوعيد الأكيد !
قال الإمام أحمد : حدثنا عبدالله بن نمير ، حدثنا إسماعيل ، عن أبي بكر بن أبي زهير ، قال : " أخبرت أن أبا بكر - رضي الله عنه - قال : " يا رسول الله ، كيف الفلاح بعد هذه الآية ؟ ( ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب ، من يعمل سوءا يجز به ) . . فكل سوء عملناه جزينا به . . فقال النبى [ ص ] : " غفر الله لك يا أبا بكر . ألست تمرض ؟ ألست تنصب ؟ ألست تحزن ؟ ألست تصيبك اللأواء ؟ " قال بلى ! قال : " فهو مما تجزون به " . . [ ورواه الحاكم عن طريق سفيان الثورى عن إسماعيل . ]
وروى أبو بكر بن مردويه - بإسناده - إلى ابن عمر ، يحدث عن أبى بكر الصديق . قال : كنت عند النبى [ ص ] فنزلت هذه الآية : ( من يعمل سوءا يجز به ، ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرًا )فقال رسول الله [ ص ] : " يا أبا بكر ، ألا أقرئك آية نزلت علي ؟ " قال : قلت يا رسول الله فأقرأنيها . . فلا أعلم أني قد وجدت انفصاما في ظهري ، حتى تمطيت لها ! فقال رسول الله [ ص ] : " مالك يأ أبا بكر ؟ " فقلت : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ! وأينا لم يعمل السوء ، وإنا لمجزيون بكل سوء عملناه ! فقال رسول الله [ ص ] : " أما أنت يا أبا بكر وأصحابك المؤمنون فإنكم تجزون بذلك في الدنيا ، حتى تلقوا الله ليس لكم ذنوب . وأما الآخرون فيجمع ذلك لهم حتى يجزوا به يوم القيامة " . [ وكذا رواه الترمذي ] .
وروى ابن أبى حاتم - بإسناده - عن عائشة قالت : قلت يا رسول الله إنى لأعلم أشد آية في القرآن . فقال : " ما هي يا عائشة ؟ " قلت : ( من يعمل سوءا يجز به )فقال . " ما يصيب العبد المؤمن ، حتى النكبة ينكبها " . [ ورواه ابن جرير ] .
وروى مسلم والترمذي والنسائي من حديث سفيان بن عيينة - بإسناده - عن أبى هريرة - رضي الله عنه - قال : لما نزلت : ( من يعمل سوءا يجز به )شق ذلك على المسلمين فقال لهم رسول الله [ ص ] : " سددوا وقاربوا فإن في كل ما يصاب به المسلم كفارة . حتى الشوكة يشاكها والنكبة ينكبها " . .
على أية حال لقد كانت هذه حلقة في إنشاء التصور الإيماني الصحيح عن العمل والجزاء . ذات أهمية كبرى في استقامة التصور من ناحية ، واستقامة الواقع العملي من ناحية أخرى . ولقد هزت هذه الآية كيانهم ، ورجفت لها نفوسهم ، لأنهم كانوا يأخذون الأمر جدا . ويعرفون صدق وعد الله حقا . ويعيشون هذا الوعد ويعيشون الآخرة وهم بعد في الدنيا .
{ لّيْسَ بِأَمَانِيّكُمْ وَلآ أَمَانِيّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوَءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً } . .
اختلف أهل التأويل في الذين عُنُوا بقوله : { لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ } فقال بعضهم : عُني بقوله { لَيْسَ بأمانِيّكُمْ } أهل الإسلام . ذكر من قال ذلك : حدثنا محمد بن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن منصور ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، قال : تفاخر النصارى وأهل الإسلام ، فقال هؤلاء : نحن أفضل منكم ، وقال هؤلاء : نحن أفضل منكم¹ قال : فأنزل الله : { لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ } .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، قال : لما نزلت : { لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ } قال أهل الكتاب : نحن وأنتم سواء ، فنزلت هذه الاَية : { وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصّالحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ } .
حدثني أبو السائب وابن وكيع ، قالا : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن مسلم ، عن مسروق في قوله : { لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ }قال : احتجّ المسلمون وأهل الكتاب ، فقال المسلمون : نحن أهدى منكم ، وقال أهل الكتاب : نحن أهدى منكم ، فأنزل الله : { لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ } قال : ففلج عليهم المسلمون بهذه الاَية : { وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ } . . . إلى آخر الاَيتين .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : ذُكر لنا أن المسلمين وأهل الكتاب افتخروا ، فقال أهل الكتاب : نبينا قبل نبيكم ، وكتابنا قبل كتابكم ، ونحن أولى بالله منكم . وقال المسلمون : نحن أولى بالله منكم ، نبيّنا خاتم النبيين ، وكتابنا يقضى على الكتب التي كانت قبله . فأنزل الله : { لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ ، مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ } . . . إلى قوله : { وَمَنْ أحْسَنُ دِينا مِمّنْ أسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتّبَعَ مِلّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفا } فأفلج الله حجة المسلمين على من ناوأهم من أهل الأديان .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ } قال : التقى ناس من اليهود والنصارى ، فقالت اليهود للمسلمين : نحن خير منكم ، ديننا قبل دينكم ، وكتابنا قبل كتابكم ، ونبينا قبل نبيكم ، ونحن على دين إبراهيم ، ولن يدخل الجنة إلا من كان هودا . وقالت النصارى مثل ذلك . فقال المسلمون : كتابنا بعد كتابكم ، ونبينا بعد نبيكم ، وقد أمرتم أن تتبعونا وتتركوا أمركم ، فنحن خير منكم ، نحن على دين إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ، ولن يدخل الجنة إلا من كان على ديننا . فردّ الله عليهم قولهم ، فقال : { لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ } ثم فضل الله المؤمنين عليهم ، فقال : { وَمَنْ أحْسَنُ دِينا ممّنْ أسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتّبَعَ مِلّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفا } .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سلمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ } تخاصم أهل الأديان ، فقال أهل التوراة : كتابُنا أوّل كتاب وخيرها ، ونبينا خير الأنبياء . وقال أهل الإنجيل نحوا من ذلك . وقال أهل الإسلام : لا دين إلا دين الإسلام ، وكتابنا نسخ كل كتاب ، ونبينا خاتم النبيين ، وأُمرنا أن نعمل بكتابنا ونؤمن بكتابكم . فقضى الله بينهم ، فقال : { لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ } . ثم خير بين أهل الأديان ، ففضل أهل الفضل ، فقال : { وَمَنْ أحْسَنُ دِينا مِمّنْ أسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ } . . . إلى قوله : { وَاتّخَذَ اللّهُ إبْرَاهِيمَ خَلِيلاً } .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : { لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ } . . . إلى : { وَلا نَصِيرا } تحاكم أهل الأديان ، فقال أهل التوراة : كتابنا خير من الكتب ، أنزل قبل كتابكم ، ونبيّنا خير الأنبياء . وقال أهل الإنجيل مثل ذلك . وقال أهل الإسلام : لا دين إلا الإسلام ، كتابنا نسخ كل كتاب ، ونبينا خاتم النبيين ، وأمرتم وأُمرنا أن نؤمن بكتابكم ، ونعمل بكتابنا . فقضى الله بينهم فقال : { لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ } وخير بين أهل الأديان فقال : { وَمَنْ أحْسَنُ دِينا مِمّنْ أسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتّبَعَ مِلّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفا واتّخَذَ اللّهُ إبْرَاهِيمَ خَلِيلاً } .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا يعلى بن عبيد وأبو زهير ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح ، قال : جلس ناس من أهل التوراة وأهل الإنجيل وأهل الإيمان ، فقال هؤلاء : نحن أفضل ، وقال هؤلاء : نحن أفضل . فأنزل الله : { لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ } ، ثم خصّ الله أهل الإيمان فقال : { وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ } .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن إسماعيل ، عن أبي صالح ، قال : جلس أهل التوراة وأهل الإنجيل وأهل الزبور وأهل الإيمان ، فتفاخروا ، فقال هؤلاء : نحن أفضل ، وهؤلاء : نحن أفضل . فأنزل الله : { وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الجَنّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرا } .
حدثنا يحيى بن أبي طالب ، قال : حدثنا يزيد ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك في قوله : { لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ } قال : افتخر أهل الأديان ، فقالت اليهود : كتابنا خير الكتب وأكرمها على الله ، ونبينا أكرم الأنبياء على الله موسى ، كلمه الله قَيَلاً ، وخلا به نجيّا ، وديننا خير الأديان . وقالت النصارى : عيسى بن مريم خاتم الرسل ، وآتاه الله التوراة والإنجيل ، ولو أدركه موسى لاتّبَعَهُ ، وديننا خير الأديان . وقالت المجوس وكفار العرب : ديننا أقدم الأديان وخيرها . وقال المسلمون : محمد نبينا خاتم النبيين ، وسيد الأنبياء ، والفرقان آخر ما أنزل من الكتب من عند الله ، وهو أمين على كلّ كتاب ، والإسلام خير الأديان . فخير الله بينهم ، فقال : { لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ } .
وقال آخرون : بل عنى الله بقوله : { لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ } : أهل الشرك به من عبدة الأوثان . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : { لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ } قال : قريش قالت : لن نُبعث ولن نُعذّب .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { لَيْسَ بأمانِيّكُمْ } قال : قالت قريش : لن نُبعث ولن نُعذّب ، فأنزل الله : { مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ } .
حدثني يعقوب ابن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن عُلَية ، قال : حدثنا ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ } قال : قالت العرب : لن نبعث ولن نعذّب¹ وقالت اليهود والنصارى : { لَنْ يَدخُلَ الجَنّةَ إلاّ مَنْ كانَ هُودا أو نَصَارَى } ، أو قالوا { لَنْ تمَسّنا النّارُ إلاّ أيّاما مَعْدُودَةً } شكّ أبو بشر .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : { لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ } قال : قريش وكعب بن الأشرف¹ { مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ } .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : سمعت ابن زيد يقول في قوله { ألَمْ تَرَ إلى الّذِينَ أُوتُوا نَصيبا مِنَ الكِتابِ } . . . إلى آخر الاَية ، قال : جاء حيى بن أخطب إلى المشركين ، فقالوا له : يا حُيَيّ إنكم أصحاب كتب ، فنحن خير أم محمد وأصحابه ؟ فقال : أنتم خير منه . فذلك قوله : { ألَمْ تَرَ إَلى الّذِينَ أُوتُوا نَصِيبا مِنَ الكِتابِ } . . . إلى قوله : { وَمَنْ يَلْعَنِ اللّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصيرا } . ثم قال للمشركين : { لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ } فقرأ حتى بلغ : { وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ } رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه { فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الجَنّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرا } . قال : ووعد الله المؤمنين أن يكفّر عنهم سيئاتهم ، ولم يَعِد أولئك ، وقرأ : { وَالّذِين آمَنُوا وَعمِلُوا الصّالِحاتِ لَنُكَفّرَنّ عَنْهُمْ سَيّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنّهُمْ أحْسَنَ الّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ } .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن أبي بَزّة ، عن مجاهد في قوله : { لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ } قال : قالت قريش : لن نُبعث ولن نُعذّب .
وقال آخرون : عُني به أهل الكتاب خاصة . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن أبي أسيد ، قال : سمعت الضحاك يقول : { لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ } . . . الاَية ، قال : نزلت في أهل الكتاب حين خالفوا النبيّ صلى الله عليه وسلم .
قال أبو جعفر : وأولى التأويلين بالصواب في ذلك ، ما قال مجاهد من أنه عنى بقوله : { لَيْسَ بأمانِيّكُمْ } مشركي قريش . وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب ، لأن المسلمين لم يجر لأمانيهم ذكر فيما مضى من الاَي قبل قوله : { لَيْسَ بأمانِيّكُمْ } وإنما جرى ذكر أمانيّ نصيب الشيطان المفروض ، وذلك في قوله : { وَلأُمَنّيَنّهُمْ وَلاَمُرَنّهُمْ فَلَيُبَتّكُنّ آذَانَ الأنْعامِ } وقوله : { يَعِدُهُمْ ويُمَنّيهِمْ } فإلحاق معنى قوله : { لَيْسَ بأمانِيّكُمْ } بما قد جري ذكره قبل أحقّ وأولى من ادّعاء تأويل فيه ، لا دلالة عليه من ظاهر التنزيل ، ولا أثر عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولا أجماع من أهل التأويل . وإذ كان ذلك كذلك ، فتأويل الاَية إذن : ليس الأمر بأمانيكم يا معشر أولياء الشيطان وحزبه التي يمنيكموها وليكم عدوّا لله من إنقاذكم ممن أرادكم بسوء ، ونصرتكم عليه ، وإظفاركم به ، ولا أماني أهل الكتاب الذين قالوا اغترارا بالله وبحلمه عنهم : لن تمسنا النار إلا أياما معدودة ، ولن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ، فإن الله مجازي كل عامل منكم جزاء عمله ، من يعمل منكم سوء ، أو من غيركم يجز به ، ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا ، ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة .
ومما يدلّ أيضا على صحة ما قلنا في تأويل ذلك ، وأنه عُني بقوله : { لَيْسَ بأمانِيّكُمْ } مشركو العرب كما قال مجاهد : إن الله وصف وعد الشيطان ما وعد أولياءه ، وأخبر بحال وعده ، الصادق بقوله : { وَالّذِينَ آمَنُوا وَعمِلُوا الصّالِحاتِ سَنُدْ خِلُهُمْ جَنّاتٍ تَجْري مِنْ تَحْتِها الأنهارُ خالِدِينَ فِيها أبَدا وَعْدَ اللّهِ حَقّا } وقد ذكر جلّ ثناؤه مع وصفه وعد الشيطان أولياءه ، وتمنيته إياهم الأماني بقوله : { يَعِدُهُمْ ويُمَنّيهِمْ } كما ذكر وعد إياهم ، فالذي هو أشبه أن يتبع تمنيته إياهم من الصفة ، بمثل الذي أتبع عدّته إياهم به من الصفة . وإذ كان ذلك كذلك صحّ أن قوله : { لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ ، مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ } . . . الاَية ، إنما هو خبر من الله عن أمانيّ أولياء الشيطان وما إليه صائرة أمانيهم مع سيىء أعمالهم من سوء الجزاء ، وما إليه صائرة أعمال أولياء الله من حسن الجزاء . وإنما ضمّ جلّ ثناؤه أهل الكتاب إلى المشركين في قوله : { لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ } لأن أماني الفريقين من تمنية الشيطان إياهم التي وعدهم أن يمنيهموها بقوله : { وَلأُضِلّنّهُمْ وَلأُمَنّيَنّهُمْ ولاَمُرْنّهُمْ } .
القول في تأويل قوله تعالى : { مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ } .
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : عنى بالسوء كلّ معصية لله ، وقالوا : معنى الاَية : من يرتكب صغيرة أو كبيرة من مؤمن أو كافر من معاصي الله ، يجازه الله بها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : أن زياد بن الربيع سأل أبيّ بن كعب عن هذه الاَية : { مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ } فقال : ما كنت أراك إلا أفقه مما أرى ! النكبة والعود والخدش .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا غندر ، عن هشام الدستوائي ، قال : حدثنا قتادة ، عن الربيع بن زياد ، قال : قلت لأبيّ بن كعب ، قول الله تبارك وتعالى : { مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ } والله إن كان كل ما عملنا جزينا به هلكنا ! قال : والله إن كنت لأراك أفقه مما أرى ! لا يصيب رجلاً خدش ولا عثرة إلا بذنب ، وما يعفو الله عنه أكثر ، حتى اللدغة والنفحة .
حدثنا القاسم بن بشر بن معرور ، قال : حدثنا سليمان بن حرب ، قال : حدثنا حماد بن زيد ، عن حجاج الصوّاف ، عن أيوب ، عن أبي قلابة ، عن أبي المهلب ، قال : دخلت على عائشة كي أسألها عن هذه الاَية : { لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ } قالت : ذاك ما يصيبكم في الدنيا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني خالد أنه سمع مجاهدا يقول في قوله : { مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ } قال : يجز به في الدنيا ، قال : قلت : وما تبلغ المصيبات ؟ قال : ما تكره .
وقال آخرون : معنى ذلك : من يعمل سوءا من أهل الكفر يجز به . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يزيد بن هارون ، عن حماد بن سلمة ، عن حميد ، عن الحسن : { مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ } قال : الكافر . ثم قرأ : { وَهَلْ نُجازي إلاّ الكَفُورُ } قال : من الكفار .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا سهل ، عن حميد ، عن الحسن ، مثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو همام الأهوازيّ ، عن يونس بن عبيد ، عن الحسن ، أنه كان يقول : { مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ } و{ وهَلْ نُجازي إلاّ الكَفُورُ } يعني بذلك : الكفار ، لا يعني بذلك أهل الصلاة .
حدثني الحارث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا مبارك ، عن الحسن ، في قوله : { مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ } قال : والله ما جازى الله عبدا بالخير والشرّ إلا عذّبه ، قال : { لِيَجْزِيَ الّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيجْزِيَ الّذِينَ أحْسَنُوا بِالحُسْنَى } قال : أما والله لقد كانت لهم ذنوب ، ولكنه غفرها لهم ، ولم يجازهم بها ، إن الله لا يجازي عبده المؤمن بذنب ، إذًا توبقه ذنوبه .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : سمعت ابن زيد يقول في قوله : { مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ } قال : وعد الله المؤمنين أن يكفر عنهم سيئاتهم ، ولم يعد أولئك ، يعني المشركين .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن عاصم ، عن الحسن : { مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ } قال : إنما ذلك لمن أراد الله هوانه¹ فأما من أراد كرامته فإنه من أهل الجنة { وَعْدَ الصّدْقِ الّذِي كانوا يُوعَدُونَ } .
حدثني يحيى بن أبي طالب ، قال : أخبرنا يزيد ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك : { مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ } يعني بذلك : اليهود والنصارى والمجوس وكفار العرب ، ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا .
وقال آخرون : معنى السوء في هذا الموضع : الشرك . قالوا : وتأويل قوله : { مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ } : من يشرك بالله يجز بشركه ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : { مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ } يقول : من يشرك يجز به ، وهو السوء ، { ولا يَجِدْ له مِنْ دُونِ الله وَلِيّا ولا نَصِيرا } إلا أن يتوب قبل موته ، فيتوب الله عليه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن ابن أبي ليلى ، عن المنهال بن عمرو ، عن سعيد بن جبير : { مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ } قال : الشرك .
قال أبو جعفر : وأولى التأويلات التي ذكرناها بتأويل الاَية ، التأويل الذي ذكرناه عن أبيّ بن كعب وعائشة ، وهو أن كل من عمل سوءا صغيرا أو كبيرا من مؤمن أو كافر ، جوزي به . وإنما قلنا ذلك أولى بتأويل الاَية ، لعموم الاَية كل عامل سوء ، من غير أن يخص أو يستثنى منهم أحد ، فهي على عمومها إذ لم يكن في الاَية دلالة على خصوصها ولا قامت حجة بذلك من خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم .
فإن قال قائل : وأين ذلك من قول الله : { إنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفّرْ عَنْكُمْ سَيّئاتِكُمْ } وكيف يجوز أن يجازي على ما قد وعد تكفيره ؟ قيل : إنه لم يعد بقوله : { نُكَفّرْ عَنْكُمْ سَيّئاتِكُمْ } ترك المجازاة عليها ، وإنما وَعَد التكفير بترك الفضيحة منه لأهلها في معادهم ، كما فضح أهل الشرك والنفاق . فأما إذا جازاهم في الدنيا عليها بالمصائب ليكفرها عنهم بها ليوافوه ولا ذنب لهم ، يستحقون المجازاة عليه ، فإنما وفي لهم بما وعدهم بقوله : { نُكَفّرْ عَنْكُمْ سَيّئاتِكُمْ } وأنجز لهم ما ضمن لهم بقوله : { والّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ سَنْدْخِلُهُمْ جَنّاتٍ تجْرِي مِنْ تَحْتِها الأنهارُ } .
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، تظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . ذكر الأخبار الواردة بذلك :
حدثنا أبو كريب ، وسفيان بن وكيع ونصر بن عليّ وعبد الله بن أبي زياد القَطَواني ، قالوا : حدثنا سفيان بن عيينة ، عن ابن محيصن ، عن محمد بن قيس بن مخرمة ، عن أبي هريرة ، قال : لما نزلت هذه الاَية : { مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ } شقّت على المسلمين ، وبلغت منهم ما شاء الله أن تبلغ ، فشكَوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : «قَاربوا وسَدّدُوا ، ففي كل ما يُصَابُ به المسلم كَفّارَةٌ ، حتّى النّكْبَة يُنْكَبُها ، أو الشوكة يُشَاكّها » .
حدثني عبد الله بن أبي زياد وأحمد بن منصور الرمادي ، قالا : حدثنا يزيد بن حيان ، قالا : حدثنا عبد الملك بن الحسن الحارثي ، قال : حدثنا محمد بن زيد بن قنفذ ، عن عائشة ، عن أبي بكر ، قال : لما نزلت : { مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ } قال أبو بكر : يا رسول الله ، كلّ ما نعمل نؤاخذ به ؟ فقال : «يا أبا بَكْرٍ ألَيْس يُصِيبُك كَذَا وكَذَا ؟ فَهُوَ كَفّارتُهُ » .
حدثني إبراهيم بن سعيد الجوهريّ ، قال : حدثنا عبد الوهاب بن عطاء ، عن زياد الجصاص ، عن عليّ بن زيد ، عن مجاهد ، قال : ثني عبد الله بن عمر ، أنه سمع أبا بكر يقول : سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول «مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ في الدّنْيا » .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن إسماعيل ، عن أبي بكر بن أبي زهير ، عن أبي بكر الصديق أنه قال : يا نبيّ الله كيف الصلاح بعد هذه الاَية ؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «أيّةُ آيَةٍ ؟ » قال : يقول الله : { لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ } فما عملناه جزينا به ؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «غَفَر اللّهُ لكَ يا أبا بَكْرٍ ! ألَسْتَ تَمْرَضُ ، ألَسْتَ تَحْزَنُ ، ألَسْتَ تُصِيبُكَ الّلأْوَاءُ ؟ » قال : «فَهُوَ ما تُجْزَوْنَ بهِ » .
حدثنا يونس ، قال : حدثنا سفيان ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، قال : أظنه عن أبي بكر الثقفي ، عن أبي بكر قال : لما نزلت هذه الاَية : { مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ } قال أبو بكر : كيف الصلاح ؟ ثم ذكر نحوه ، إلا أنه زاد فيه «ألَسْتَ تُنْكَبُ ؟ » .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : حدثنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي بكر بن أبي زهير ، أن أبا بكر قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم : كيف الصلاح ؟ فذكر نحوه .
حدثني محمد بن عبيد المحاربي ، قال : حدثنا أبو الجنبيّ ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي بكر ابن أبي زهير الثقفي ، قال : قال أبو بكر : يا رسول الله ، فذكر نحوه ، إلا أنه قال : فكلّ سوء عملناه جزينا به ؟ وقال أيضا : «ألَسْتَ تَمْرَضُ ، ألَست تنصَب ، ألَسْتَ تَحْزَنُ ، ألَيْسَ تُصِيبُكَ الّلأْوَاءُ ؟ » قال : بلى . قال : «هُوَ ما تُجْزَوْنَ بهِ » .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن ابن أبي خالد ، عن أبي بكر بن أبي زهير الثقفي ، قال : لما نزلت هذه الاَية : { لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ } قال : قال أبو بكر : يا رسول الله ، وإنا لنجزى بكلّ شيء نعمله ؟ قال : «يا أبا بَكْرٍ ألَسْتَ تَنْصَبُ ، ألَسْتَ تَحْزَنُ ، ألَسْتَ تُصِيبُكَ الّلأْوَاءُ ؟ فَهَذَا مِمّا تُجْزَوْنَ بِهِ » .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، قال : حدثنا ابن أبي خالد ، قال : ثني أبو بكر بن أبي زهير الثقفي ، عن أبي بكر ، فذكر مثل ذلك .
حدثنا أبو السائب وسفيان بن وكيع ، قالا : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن مسلم ، قال : قال أبو بكر : يا رسول الله ، ما أشدّ هذه الاَية : { مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ } ! قال : «يا أبا بَكْرٍ إنّ المُصِيبَةَ فِي الدّنْيا جَزَاءُ » .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا روح بن عبادة ، قال : حدثنا أبو عامر الخراز ، عن ابن أبي مليكة ، عن عائشة قالت : قلت : إني لأعلم أيّ آية في كتاب الله أشدّ ! فقال لي النبيّ صلى الله عليه وسلم : «أيّ آية ؟ » فقلت : { مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ } قال : «إنّ المؤمِنَ ليُجَازَى بأَسْوَإ عَمَلِهِ في الدّنْيا » ، ثم ذكر أشياء منهنّ المرض والنصب ، فكان آخره أن ذكر النكبة ، فقال : «كُلّ ذِي عمل يُجْزَى بِعَمَلِهِ يا عائِشَةُ ، إنّهُ لَيْسَ أحَدٌ يُحاسَبُ يَوْمَ القِيامَةِ إلاّ يُعَذّبُ » . فقلت : أليس يقول الله : { فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِسابا يَسِيرا } ؟ فقالَ : «ذَاكِ عِنْدَ العَرْض ، إنّهُ مِنْ نُوقِشَ الحِسابَ عُذّبَ » ، وقال بيده على إصبعه كأنه ينكت .
حدثني القاسم بن بشر بن معرور ، قال : حدثنا سليمان بن حرب ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن عليّ بن زيد ، عن أمية ، قالت : سألت عائشة عن هذه الاَية : { وَإنْ تُبْدُوا ما فِي أنْفُسِكُمْ أوْ تُخْفُوه يُحاسِبْكُمْ بِهِ الله ، و{ لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ } قالت : ما سألني عنها أحد منذ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها ، فقال : «يا عائِشَةُ ذَاكِ مَثابَةُ اللّهِ العَبْدَ بمَا يُصِيبُهُ مِنَ الحُمّى والكِبَرِ ، وَالبِضَاعَةِ يَضَعُها فِي كُمّه فَيَفْقِدُها ، فَيَفْزَعُ لَهَا فَيَجِدُها فِي كُمّهِ ، حتى إنّ المُؤمِنَ لَيَخْرُجُ مِنْ ذُنُوبِهِ كمَا يَخْرُجُ التّبْرُ الأْحمَرُ مِنَ الكِيرِ » .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا أبو عامر الخراز ، قال : حدثنا ابن أبي مليكة عن عائشة ، قالت : قلت : يا رسول الله ، إني لأعلم أشدّ آية في القرآن ، فقال : «ما هِيَ يا عائشة ؟ » قلت : هي هذه الاَية يا رسول الله : { مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ } فقال : «هُوَ ما يُصِيبُ العَبْدَ المُؤْمِنَ ، حتى النّكْبَةَ يُنْكَبُها » .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن الربيع بن صبح ، عن عطاء ، قال : لما نزلت { لَيْسَ بأمانِيّكُمْ وَلا أمانِيّ أهْلِ الكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءا يُجْزَ بِهِ } قال أبو بكر : يا رسول الله ، ما أشدّ هذه الاَية ! قال : «يا أبا بَكْرٍ أنّكَ تَمْرَضُ ، وَإنّكَ تَحْزَنُ ، وَإنّكَ يُصِيبُكَ أذًى ، فَذَاكَ بذَاكَ » .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني عطاء بن أبي رباح ، قال : لما نزلت ، قال أبو بكر : جاءت قاصمة الظهر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنّمَا هِيَ المُصِيباتُ فِي الدّنْيا » .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللّهِ وَلِيّا وَلا نَصَيرا } .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : { وَلا يَجِدِ } الذي يعمل سوءا من معاصي الله وخلاف ما أمره به ، { مِنْ دُونِ اللّهِ } يعني : من بعد الله وسواه ، { وَلِيّا } يلي أمره ، ويحمي عنه ما ينزل به من عقوبة الله ، { وَلا نَصِيرا } يعني : ولا ناصرا ينصره مما يحلّ به من عقوبة الله وأليم نكاله .
{ ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب } أي ليس ما وعد الله من الثواب ينال بأمانيكم أيها المسلمون ، ولا بأماني أهل الكتاب ، وإنما ينال بالإيمان والعمل الصالح . وقيل ليس الإيمان بالتمني ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل . روي أن المسلمين وأهل الكتاب افتخروا . فقال أهل الكتاب : نبينا قبل نبيكم وكتابنا قبل كتابكم ونحن أولي بالله منكم ، وقال المسلمون : نحن أولى منكم نبينا خاتم النبيين ، وكتابنا يقضي على الكتب المتقدمة ) فنزلت . وقيل : الخطاب مع المشركين ويدل عليه تقدم ذكرهم أي : ليس الأمر بأماني المشركين ، وهو قولهم لا جنة ولا نار ، وقولهم إن كان الأمر كما يزعم هؤلاء لنكونن خيرا منهم وأحسن حالا ، ولا أماني أهل الكتاب وهو قولهم : { لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى } وقولهم : { لن تمسنا النار إلا أياما معدودة } ثم قرر ذلك وقال : { من يعمل سوءا يجز به } عاجلا أو آجلا لما روي ( أنها لما نزلت قال أبو بكر رضي الله تعالى عنه : فمن ينجو مع هذا يا رسول الله فقال عليه الصلاة والسلام : " أما تحزن أما تمرض أما يصيبك الأراء ؟ قال : بلى يا رسول الله ، قال : هو ذاك ) . { ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا } ولا يجد لنفسه إذا جاوز موالاة الله ونصرته من يواليه وينصره في دفع العذاب عنه .
اسم { ليس } مضمر{[4293]} ، و «الأماني » : جمع أمنوية ، وزنها أفعولة ، وهي : ما يتمناه المرء ويطيع نفسه فيه ، وتجمع على أفاعيل ، فتجتمع ياءان فلذلك تدغم إحداهما في الأخرى فتجيء مشددة وهي قراءة الجمهور ، وقرأ الحسن بن أبي الحسن وأبو جعفر بن القعقاع وشيبة بن نصاح والحكم والأعرج ، «ليس بأمانيكم » ساكنة الياء ، وكذلك في الثانية{[4294]} ، قال الفراء : هذا جمع على فعاليل ، كما يقال قراقير وقراقر إلى غير ذلك . واختلف الناس فيمن المخاطب بهذه الآية ؟ فقال ابن عباس والضحاك وأبو صالح ومسروق وقتادة والسدي وغيرهم : الخطاب لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وقال بعضهم : وسبب الآية أن المؤمنين اختلفوا مع قوم من أهل الكتاب ، فقال أهل الكتاب : ديننا أقدم من دينكم وأفضل ، ونبينا قبل نبيكم ، فنحن أفضل منكم ، وقال المؤمنون : كتابنا يقضي على الكتب ، ونبينا خاتم النبيين ، أو نحو هذا من المحاورة ، فنزلت الآية ، وقال مجاهد وابن زيد : بل الخطاب لكفار قريش ، وذلك أنهم قالوا : لن نبعث ولا نعذب ، وإنما هي حياتنا الدنيا لنا فيها النعيم ثم لا عذاب ، وقالت اليهود { نحن أبناء الله وأحباؤه } [ المائدة : 18 ] ، إلى نحو هذا من الأقوال ، كقولهم { لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى }{[4295]} ، وغيره ، فرد الله تعالى على الفريقين بقوله { ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب } ثم ابتدأ الخبر الصادق من قبله بقوله { من يعمل سوءاً يجز به } وجاء هذا اللفظ عاماً في كل سوء فاندرج تحت عمومه الفريقان المذكوران ، واختلف المتأولون في تعميم لفظ هذا الخبر ، فقال الحسن بن أبي الحسن : هذه الآية في الكافر ، وقرأ { وهل يجازى إلا الكفور }{[4296]} قال : والآية يعني بها الكفار ، ولا يعني بها أهل الصلاة ، وقال : والله ما جازى الله أحداً بالخير والشر إلا عذبه ، ولكنه يغفر ذنوب المؤمنين ، وقال ابن زيد : في قوله تعالى { من يعمل سوءاً يجز به } وعد الله المؤمنين أن يكفر عنهم سيئاتهم ، ولم يعد أولئك يعني المشركين ، وقال الضحاكَ { ومن يعمل سوءاً يجز به } يعني بذلك اليهود والنصارى والمجوس وكفار العرب .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق : فهذا تخصيص للفظ الآية ، ورأى هؤلاء أن الكافر يجزى على كل سوء يعمله وأن المؤمن قد وعده الله تكفير سيئاته ، وقال ابن عباس وسعيد بن جبير : قوله تعالى : { من يعمل سوءاً } معناه ، من يك مشركاً والسوء هنا الشرك فهو تخصيص لعموم اللفظ من جهة أخرى ، لأن أولئك خصصوا لفظ { من } ، وهذان خصصا لفظ ( السوء ) وقال جمهور الناس : لفظ الآية عام ، والكافر والمؤمن مجازى بالسوء يعمله ، فأما مجازاة الكافر فالنار ، لأن كفره أوبقه ، وأما المؤمن فبنكبات الدنيا ، قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه : لما نزلت { من يعمل سوءاً يجز به } قلت يا رسول الله ما أشد هذه الآية ، فقال : يا أبا بكر أما تحزن أما تمرض أما تصيبك اللأواء ؟ فهذا بذلك{[4297]} ، وقال عطاء بن أبي رباح : لما نزلت هذه الآية ، قال أبو بكر : جاءت قاصمة الظهر ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إنما هي المصيبات في الدنيا ){[4298]} ، وقالت بمثل هذا التأويل عائشة رضي الله عنها{[4299]} ، وقال أبيّ بن كعب ، وسأله الربيع بن زياد عن معنى الآية وكأنه خافها ، فقال له أبيّ : ما كنت أظنك إلا أفقه مما رأى ، ما يصيب الرجل خدش ولا غيره إلا بذنب ، وما يعفو الله عنه أكثر .
قال القاضي أبو محمد - رحمه الله - : فالعقيدة في هذا : أن الكافر مجازى والمؤمن يجازى في الدنيا غالباً ، فمن بقي له سوء إلى الآخرة فهو في المشيئة ، يغفر الله لمن يشاء ، ويجازي من يشاء ، وقرأ الجمهور «ولا يجدْ » بالحزم عطفاً على { يجز } ، وروى ابن بكار عن ابن عامر : «ولا يجدُ » بالرفع على القطع ، وقوله { من دون } لفظة تقتضي عدم المذكور بعدها من النازلة ، ويفسرها بعض المفسرين بغير ، وهو تفسير لا يطرد .
الأظهر أنّ قوله : { ليس بأمانيكم } استئناف ابتدائي للتنويه بفضائل الأعمال ، والتشويه بمساويها ، وأنّ في ( ليس ) ضميراً عائداً على الجزاء المفهوم من قوله : { يجز به } ، أي ليس الجزاء تابعاً لأماني الناس ومشتهاهم ، بل هو أمر مقدّر من الله تعالى تقديراً بحسب الأعمال ، وممّا يؤيّد أن يكون قوله : { ليس بأمانيكم } استئنافاً ابتدائياً أنّه وقع بعد تذييل مُشعر بالنهاية وهو قوله : { ومن أصْدق من الله قيلاً } [ النساء : 122 ] . ومِمّا يرجّحه أنّ في ذلك الاعتبار إبهاماً في الضمير ، ثم بياناً له بالحملة بعده ، وهي : { من يعمل سوءاً يجز به } ؛ وأنّ فيه تقديم جملة { ليس بأمانيكم } عن موقعها الذي يُترقّب في آخر الكلام ، فكان تقديمها إظهاراً للاهتمام بها ، وتهيئةً لإبهام الضمير . وهذه كلّها خصائص من طرق الإعجاز في النظم . وجملة { من يعمل سوءاً يجز به } استئناف بياني ناشىء عن جملة { ليس بأمانيكم } لأنّ السامع يتساءل عن بيان هذا النفي المجمل . ولهذا الاستئناف موقع من البلاغة وخصوصية تفوت بغير هذا النظم الذي فسّرناه . وجعل صاحب « الكشاف » الضمير المستتر عائداً على وعد الله ، أي ليس وعدّ الله بأمانيّكم ؛ فتكون الجملة من تكملة الكلام السابق حالاً من { وعْدَ الله } [ النساء : 122 ] ، وتكون جملة { من يعمل سوءاً يجز به } استئنافاً ابتدائياً محضاً .
روي الواحدي في أسباب النزول بسنده إلى أبي صالح ، وروى ابن جرير بسنده إلى مسروق ، وقتادةَ ، والسدّي ، والضحاك ، وبعضُ الروايات يزيد على بعض ، أنّ سبب نزولها : أنّه وقع تحاجّ بين المسلمين وأهل الكتاب : اليهود والنصارى ، كلّ فريق يقول للآخرين : نحن خير منكم ، ويحتجّ لذلك ويقول : لن يدخل الجنة إلاّ من كان على ديننا . فأنزل الله { ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب } الآيات مبين أن كلّ من اتّبع هدى الله فهو من أهل الجنة وكلّ من ضلّ وخالف أمر الله فهو مجازى بسوء عمله ، فالذين آمنوا من اليهود قبل بعثة عيسى وعملوا الصالحات هم من أهل الجنة وإن لم يكونوا على دين عيسى ، فبطل قول النصارى : لن يدخل الجنة إلا من كان على ديننا والذين آمنوا بموسى وعيسى قبل بعثه محمد صلى الله عليه وسلم وعملوا الصالحات يدخلون الجنّة ، فبطل قول المسلمين واليهود : لن يدخل الجنّة إلاّ من كان على ديننا فكانت هذه الآية حكماً فصلاً بين الفرق ، وتعليماً لهم أن ينظروا في توفّر حقيقة الإيمان الصحيح ، وتوفّر العمل الصالح معه ، ولذلك جمع الله أماني الفرق الثلاث بقوله : { ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب } . ثم إنّ الله لَوّح إلى فلج حجّة المسلمين بإشارة قوله : { وهو مؤمن } فإن كان إيمان اختلّ منه بعض ما جاء به الدين الحقّ ، فهو كالعدم ، فعقّب هذه الآية بقوله : { ومن أحسن دينا ممّن أسلم وجهه الله وهو محسن واتّبع ملّة إبراهيم حنيفاً }
[ النساء : 125 ] . والمعنى أنّ الفوز في جانب المسلمين ، لا لأنّ أمانيّهم كذلك ، بل لأنّ أسباب الفوز والنجاة متوفّرة في دينهم . وعن عكرمة : قالت اليهود والنصارى : لن يدخل الجنّة إلاّ من كان منّا . وقال المشركون : لا نُبْعث .
والباء في قوله : { بأمانيكم } للملابسة ، أي ليس الجزاء حاصلاً حصولاً على حسب أمانيّكم ، وليست هي الباء التي تزاد في خبر ليس لأنّ أمانيّ المخاطبين واقعة لا منفية .
والأمانيّ جمع أمنية ، وهي اسم للتمنّي ، أي تقدير غير الواقع واقعاً . والأمنية بوزن أفعولة كالأعجوبة . وقد تقدّم ذلك في تفسير قوله تعالى : { لا يعلمون الكتاب إلاّ أمانيّ } في سورة البقرة ( 78 ) . وكأنَّ ذكر المسلمين في الأماني لقصد التعميم في تفويض الأمور إلى ما حكم الله ووعد ، وأنّ ما كان خلاف ذلك لا يعتدّ به . وما وافقه هو الحقّ ، والمقصد المهمّ هو قوله : { ولا أمانيّ أهل الكتاب } على نحو : { وإنّا أو إيّاكم لعلى هدى أو في ضلال مبين } [ سبأ : 24 ] فإنّ اليهود كانوا في غرور ، يقولون : لن تمسنّا النار إلاّ أيّاماً معدودة . وقد سمّى الله تلك أماني عند ذكره في قوله : { وقالوا لن تمسنّا النار إلاّ أيّاماً معدودة } [ البقرة : 80 ] { تلك أمانيّهم } [ البقرة : 111 ] . أمّا المسلمون فمُحاشون من اعتقاد مثل ذلك .
وقيل : الخطاب لكفار العرب ، أي ليس بأمانيّ المشركين ، إذ جعلوا الأصنام شفعاءهم عند الله ، ولا أمانيّ أهل الكتاب الذين زعموا أنّ أنبياءهم وأسلافهم يغنون عنهم من عذاب الله ، وهو محمل للآية .
وقوله : { ولا يجد له من دون الله ولياً ولا نصيراً } زيادة تأكيد ، لردّ عقيدة من يتوهّم أنّ أحداً يغني عن عذاب الله .
والوليّ هو المولى ، أي المشارك في نسب القبيلة ، والمراد به المدافع عن قريبه ، والنصيرُ الذي إذا استنجدته نصرَك ، أو الحليف ، وكان النصر في الجاهلية بأحد هذين النوعين .