تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَيۡتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحۡمَ ٱلۡخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِۦ لِغَيۡرِ ٱللَّهِۖ فَمَنِ ٱضۡطُرَّ غَيۡرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ} (173)

ولما ذكر تعالى إباحة الطيبات ذكر تحريم الخبائث فقال { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ } وهي : ما مات بغير تذكية شرعية ، لأن الميتة خبيثة مضرة ، لرداءتها في نفسها ، ولأن الأغلب ، أن تكون عن مرض ، فيكون زيادة ضرر{[118]}  واستثنى الشارع من هذا العموم ، ميتة الجراد ، وسمك البحر ، فإنه حلال طيب .

{ وَالدَّمَ } أي : المسفوح كما قيد في الآية الأخرى .

{ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ } أي : ذبح لغير الله ، كالذي يذبح للأصنام والأوثان من الأحجار ، والقبور ونحوها ، وهذا المذكور غير حاصر للمحرمات ، جيء به لبيان أجناس الخبائث المدلول عليها بمفهوم قوله : { طَيِّبَاتِ } فعموم المحرمات ، تستفاد من الآية السابقة ، من قوله : { حَلَالًا طَيِّبًا } كما تقدم .

وإنما حرم علينا هذه الخبائث ونحوها ، لطفا بنا ، وتنزيها عن المضر ، ومع هذا { فَمَنِ اضْطُرَّ } أي : ألجئ إلى المحرم ، بجوع وعدم ، أو إكراه ، { غَيْرَ بَاغٍ } أي : غير طالب للمحرم ، مع قدرته على الحلال ، أو مع عدم جوعه ، { وَلَا عَادٍ } أي : متجاوز الحد في تناول ما أبيح له ، اضطرارا ، فمن اضطر وهو غير قادر على الحلال ، وأكل بقدر الضرورة فلا يزيد عليها ، { فَلَا إِثْمَ } [ أي : جناح ] عليه ، وإذا ارتفع الجناح الإثم{[119]}  رجع الأمر إلى ما كان عليه ، والإنسان بهذه الحالة ، مأمور بالأكل ، بل منهي أن يلقي بيده إلى التهلكة ، وأن يقتل نفسه .

فيجب ، إذًا عليه الأكل ، ويأثم إن ترك الأكل حتى مات ، فيكون قاتلا لنفسه .

وهذه الإباحة والتوسعة ، من رحمته تعالى بعباده ، فلهذا ختمها بهذين الاسمين الكريمين المناسبين غاية المناسبة فقال : { إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }

ولما كان الحل مشروطا بهذين الشرطين ، وكان الإنسان في هذه الحالة ، ربما لا يستقصي تمام الاستقصاء في تحقيقها - أخبر تعالى أنه غفور ، فيغفر ما أخطأ فيه في هذه الحال ، خصوصا وقد غلبته الضرورة ، وأذهبت حواسه المشقة .

وفي هذه الآية دليل على القاعدة المشهورة : " الضرورات تبيح المحظورات " فكل محظور ، اضطر إليه الإنسان ، فقد أباحه له ، الملك الرحمن . [ فله الحمد والشكر ، أولا وآخرا ، وظاهرا وباطنا ] .


[118]:- في ب: مرض.
[119]:- في أ: (وإذا ارتفع الجناح) وفوق كلمة الجناح كلمة (الإثم) وفي ب، وردت الجملة هكذا (وإذا ارتفع الاثم).
 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَيۡتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحۡمَ ٱلۡخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِۦ لِغَيۡرِ ٱللَّهِۖ فَمَنِ ٱضۡطُرَّ غَيۡرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ} (173)

وقوله - تعالى - { إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمَ الخنزير وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله } بيان لما حرمه الله - تعالى - علينا من المطاعم رعاية لمنفعتنا .

و { الميتة } في عرف الشرع : ما مات حتف أنفه ، أو قتل على هيئة غير مشروعة ، فيدخل فيها : المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما عدا عليها السبع ، ويدخل في حكم الميتة ما قطع من جسم الحيوان الحي للحديث الذي أخرجه أبو داود والترمذي عن أبي واقد الليثي ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميتة " .

وكان الأكل من الميتة محرماً ، لفساد جسمها بذبول أجزائه وتعفنها ، ولأنها أصبحت بحالة تعافها الطباع السليمة لقذارتها وضررها .

قال الآلوسي : وأضاف - سبحانه - الحرمة إلى العين - مع أن الحرمة من الأحكام الشرعية التي هي صفات فعل المكلف وليست مما تتعلق بالأعيان - إشارة إلى حرمة التصرف في الميتة من جميع الوجوه بأخصر طريق وأوكده ، حيث جعل العين غير قابلة لتعلق فعل المكلف بها إلا ما خصه الدليل كالتصرف بالمدبوغ ، وخرج عن حكم الميتة السمك والجراد ، للحديث الذي أخرجه ابن ماجه والحاكم من حديث ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أحلت لنا ميتتان ودمان : السمك والجراد والكبد والطحال " وللعرف أيضاً ، فإنه إذا ما قال القائل : أكل فلان الميتة لم يسبق الوهم إليهما نعم حرم بعضهم ميتة السمك الطافي وما مات من الجراد بغير سبب ، واستدل بعموم الآية على تحريم الأجنة وتحريم ما لا نفس له سائلة خلافاً لمن أباحه " .

والدم المحرم : ما يسيل من الحيوان الحي كثيراً كان أم قليلا وكذلك يحرم من دم الحيوان ما جرى منه بعد تذكيته ، وهو الذي عبر عنه القرآن بالمسفوح في قوله - تعالى - : { قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً . . . } والدم المسفوح : هو الدم الجاري المهراق من البهيمة بعد ذبحها .

أما الدم المتبقي في أجزاء لحم البهيمة بعد تذكيتها فلا شيء فيه .

قال القرطبي : وأما الدم فمحرم ما لم تعم به البلوي ، ومعفو عما تعم به البلوي . والذي تعم به البلوي هو الدم في اللحم وعروقه . . . وقد روت عائشة - رضي الله عنها - قالت : كنا نطبخ البرمة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم تعلوها الصفرة من الدم فنأكل ولا ننكره لأن التحفظ من هذا إصر وفيه مشقة ، والإصر والمشقة في الدين موضوع ، وهذا أصل في الشرع .

وقد عرف عن بعض العرب في الجاهلية أنهم كانوا يأخذون الدم من البهائم عند ذبحها ، فيضعونه في أمعائها ثم يشوونها بالنار ويأكلونها ويسمون ذلك بالفصد .

قال بعضهم : والحكمة في تحريم الدم أنه تستقذره النفوس الكريمة ، ويفضي شربه أو أكله إلى الإِضرار بالنفس ، وفضلا عن ذلك فإن تعاطيه يورث ضراروة في الإِنسان ، وغلظة في الطباع فيصير كالحيوان المفترس ، وهذا مناف لمقصد الشريعة التي جاءت لإتمام مكارم الأخلاق .

وحرمة الخنزير شاملة للحمة وشحمه وجلده . وإنما خص لحمه بالذكر ، لأنه الذي يقصد بالأكل ، ولأن سائر أجزاء الخنزير كالتابعة للحمه . وبعض الفقهاء يرى أنه لا بأس من الانتفاع بشعر الخنزير في الخرازة - أي : خياطة الجلود وغيرها - ، وبعضهم كره ذلك .

ومن الحكم في تحريم لحم الخنزير قذاراته ، واشتماله على دودة تضر ببدن آكله وقد أثبت ذلك العلم الحديث .

وما يقوله قوم من أن وسائل العلم الحديث قد تقدمت ، وصار في الإِمكان التغلب على ما في لحم الخنزير من أضرار هذا القول مردود بأن العلم الحديث قد احتاج إلى ثلاثة عشر قرناً ليكتشف آفة واحدة في لحم الخنزير ، فمن ذا الذي يجزم بأنه ليس هناك آفات أخرى في هذا اللحم لم يعرفها العلم حتى الآن ؟

إن الشريعة التي سبقت العلم الحديث بأكثر من ثلاثة عشر قرناً أولى بالاتباع ، وأجدر بالطاعة فيما أحلته وحرمته مما يقوله الناس ، لأنها من عند الله العليم بشئون عباده ، الخبير بما ينفعهم وبما يضرهم .

وقوله : { وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله } معطوف على ما قبله من المحرمات . و { أُهِلَّ } من الإِهلال ، وهو رفع الصوت عند رؤية الهلال ، ثم استعمل لرفع الصوت مطلقاً ، ومنه إهلال الصبي ، والإِهلال بالحج . وكانوا في الجاهلية إذا أرادوا ذبح ما قربوه إلى آلهتهم سموا عليها أسماءها - كاللات والعزى - ورفعوا بها أصواتهم ، وسمى ذلك إهلالا .

فالمراد بما أهل به لغير الله : ما ذبح للأصنام وغيرها ، ومنه ما يذبحه المجوسي للنار . ومنه عند جمهور العلماء : ذبائح أهل الكتاب إذا ذكر عليها اسم عزير أو عيسى ، لأنها مما أهل به لغير الله .

وذهب جماعة من التابعين إلى تخصيص الغير بالأصنام ، وإلى حل ذبائح أهل الكتاب مطلقاً ، لعموم قوله - تعالى - في سورة المائدة سوهي من آخر سورة نزولا : ( وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ ) أي ذبائحهم ، وهو - سبحانه - يعلم ما يقولون .

وروى الحسن عن علي - رضي الله عنه - أنه قال : إذا ذكر الكتابي اسم غير الله على ذبيحته وأنت تسمع فلا تأكل ، فإن غاب عنك فكل ، فإن الله قد أحل ذبائحهم وهو يعلم ما يقولون .

وقد روى البخاري عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : " إن قوماً قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : إن قوماً يأتوننا باللحم لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا ؟ فقال : سموا عليه أنتم وكلوه . قالت : وكانوا حديثي عهد بكفر " .

فكأن المحرم ليس ما لم يعلم أن اسم الله ذكر عليه ، بل المحرم ما علم أن غير اسم الله من الأوثان والأنداد ونحو ذلك قد ذكر عليه .

فأنت ترى أن تحريم الميتة والدم ولحم الخنزير كان لاستقذار الأكل من هذه الثلاثة ، أي : لعله ذاتية فيها ، أما تحريم ما أهل به لغير الله فليس لعلة فيه ، ولكن للتوجه به إلى غير الله .

وهي علة روحية تنافي سلامة القلب ، وطهارة الروح ، ووحدة المتجه فما ذكر عليه سوى اسم الله من الذبائح ملقح بالنجاسة المادية والقذارة الحقيقية ، وفي ذلك حض للناس على إخلاص العبادة لله - تعالى - ، وزجدر لهم عن التقرب إلى أحد سواه .

وقوله - تعالى : { فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فلا إِثْمَ عَلَيْهِ } بيان لحالات الضرورة التي يباح للإِنسان فيها أن يأكل من تلك المحرمات .

و { اضطر } من الاضطرار وهو الاحتياج إلى الشيء . يقال : اضطره إلى هذا الشيء . أي : أحوجه وألجأه إليه مأخوذ من الإضرار ، وهو حمل الإِنسان على أمر بكرهه ، وقهره عليه بقوة يناله بدفعها الهلاك .

و { بَاغٍ } من البغاء وهو الطلب . تقول : بغيته بغاء وبغيا وبغية أي : طلبته .

و { عَادٍ } اسم فاعل بمعنى متعد ، تقول . عدا طوره إذا تجاوز حده وتعداه إلى غير فهو عاد ، ومنه قوله - تعالى - في شأن قوم لوط { بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ } و { غَيْرَ } منصوب على الحال من الضمير المستتر في { اضطر } وهي هنا بمعنى النفي ولذا عطف عليها لا .

والمعنى : فمن ألجأته ضرورة إلى أكل شيء من هذه المحرمات : حالة كونه غير باغ : أي غير طالب للمحرم وهو يجد غيره ، أو غير طالب له لإِشباع لذته ، أو غير طالب له على جهة الاستئثار به على مضطر آخر ، أو غير ساع في فساد { وَلاَ عَادٍ } أي : وغير متجاوز ما يسد الجوع ، ويحفظ الحياة { فلا إِثْمَ عَلَيْهِ } أي : فلا إثم عليه في أكله من هذه المحرمات .

وبهذا نرى لونا من ألوان سماحهة الإِسلام ويسره في تشريعاته ، التي أقامها الله - تعالى - على رفع الحرج ، ودفع الضرر ، قال - تعالى - { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ } وقال - تعالى - : { يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر } وقوله : { إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } تذييل قصد به الامتنان . أي : إن الله - تعالى - موصوف بهذين الوصفين الجليلين ، ومن كان كذلك كان من شأنه أن يعفو عن الخطايا ، ويغفر الذنوب ، ويشرع لعباده ما فيه يسر لا ما فيه عسر .

هذا ، وظاهر هذه الآية الكريمة يقتضي أنه ليس هناك محرم من المطعومات سوى هذه الأربعة ، لكنا نعلم في الشرع أن هناك مطعومات أخرى قد حرم على المسلم تناولها كلحوم الحمر الأهلية ، فعلى هذا تكون لفظة " إنما " متروكة الظاهر في العمل - كما قال الإِمام الرازي - أي : أن الحصر فيها غير مقصود وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - في سورة الأنعام :

{ قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَيۡتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحۡمَ ٱلۡخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِۦ لِغَيۡرِ ٱللَّهِۖ فَمَنِ ٱضۡطُرَّ غَيۡرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ} (173)

158

ثم يبين لهم المحرمات من المآكل نصا وتحديدا باستعمال أداة القصر " ( إنما ) . .

( إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله ) . .

والميتة تأباها النفس السليمة وكذلك الدم ، فضلا على ما أثبته الطب - بعد فترة طويلة من تحريم القرآن والتوراة قبله بإذن الله - من تجمع الميكروبات والمواد الضارة في الميتة وفي الدم ، ولا ندري إن كان الطب الحديث قد استقصى ما فيهما من الأذى أم إن هناك أسبابا أخرى للتحريم لم يكشف عنها بعد للناس .

فأما الخنزير فيجادل فيه الآن قوم . . والخنزير بذاته منفر للطبع النظيف القويم . . ومع هذا فقد حرمه الله منذ ذلك الأمد الطويل ليكشف علم الناس منذ قليل أن في لحمه ودمه وأمعائه دودة شديدة الخطورة [ الدودة الشريطية وبويضاتها المتكيسة ] . ويقول الآن قوم : إن وسائل الطهو الحديثة قد تقدمت ، فلم تعد هذه الديدان وبويضاتها مصدر خطر لأن إبادتها مضمونة بالحرارة العالية التي توافرها وسائل الطهو الحديثة . . وينسى هؤلاء الناس أن علمهم قد احتاج إلى قرون طويلة ليكشف آفة واحدة . فمن ذا الذي يجزم بأن ليس هناك آفات أخرى في لحم الخنزير لم يكشف بعد عنها ؟ أفلا تستحق الشريعة التي سبقت هذا العلم البشري بعشرات القرون أن نثق بها ، وندع كلمة الفصل لها ، ونحرم ما حرمت ، ونحلل ما حللت ، وهي من لدن حكيم خبير !

أما ما أهل به لغير الله . أي ما توجه به صاحبه لغير الله . فهو محرم ، لا لعلة فيه ، ولكن للتوجه به لغير الله . محرم لعلة روحية تنافي صحة التصور ، وسلامة القلب ، وطهارة الروح ، وخلوص الضمير ، ووحدة المتجه . . فهو ملحق بالنجاسة المادية والقذارة الحقيقية على هذا المعنى المشترك للنجاسة . وهو ألصق بالعقيدة من سائر المحرمات قبله . وقد حرص الإسلام على أن يكون التوجه لله وحده بلا شريك . .

ومن هنا تتجلى علاقة التحليل والتحريم في هذه الآيات ، بالحديث عن وحدانية الله ورحمته كذلك في الآيات السابقة . فالصلة قوية ومباشرة بين الاعتقاد في إله واحد ، وبين التلقي عن أمر الله في التحليل والتحريم . . وفي سائر أمور التشريع . .

ومع هذا فالإسلام يحسب حساب الضرورات ، فيبيح فيها المحظورات ، ويحل فيها المحرمات بقدر ما تنتفي هذه الضرورات ، بغير تجاوز لها ولا تعد لحدودها :

( فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه . إن الله غفور رحيم ) . .

وهو مبدأ عام ينصب هنا على هذه المحرمات . ولكنه بإطلاقه يصح أن يتناول سواها في سائر المقامات . فأيما ضرورة ملجئة يخشى منها على الحياة ، فلصاحبها أن يتفادى هذا الحرج بتناول المحظور في الحدود التي تدفع هذه الضرورة ولا زيادة . على أن هناك خلافا فقهيا حول مواضع الضرورة . . هل فيها قياس ؟ أم هي الضرورات التي نص عليها الله بأعيانها . . وحول مقدار ما تدفع به الضرورة ؟ هل هو أقل قدر من المحظور أم أكلة أو شربة كاملة . . ولا ندخل نحن في هذا الخلاف الفقهي . وحسبنا هذا البيان في ظلال القرآن .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَيۡتَةَ وَٱلدَّمَ وَلَحۡمَ ٱلۡخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ بِهِۦ لِغَيۡرِ ٱللَّهِۖ فَمَنِ ٱضۡطُرَّ غَيۡرَ بَاغٖ وَلَا عَادٖ فَلَآ إِثۡمَ عَلَيۡهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٌ} (173)

القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّمَا حَرّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ فَمَنِ اضْطُرّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلآ إِثْمَ عَلَيْهِ إِنّ اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ }

يعني تعالى ذكره بذلك : لا تحرّموا على أنفسكم ما لم أحرّمه عليكم أيها المؤمنون بالله وبرسوله من البحائر والسوائب ونحو ذلك ، بل كلوا ذلك فإني لم أحرّم عليكم غير الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهلّ به لغيري .

ومعنى قوله : إنمَا حَرّمَ عَلَيْكُمُ الَميْتَةَ : ما حرم عليكم إلا الميتة : «وإنما » : حرف واحد ، ولذلك نصبت الميتة والدم ، وغير جائز في الميتة إذا جعلت «إنما » حرفا واحدا إلا النصب ، ولو كانت «إنما » حرفين وكانت منفصلة من «إنّ » لكانت الميتة مرفوعة وما بعدها ، وكان تأويل الكلام حينئذٍ : إن الذي حرّم الله عليكم من المطاعم الميتةُ والدم ولحم الخنزير لا غير ذلك .

وقد ذكر عن بعض القراء أنه قرأ ذلك كذلك على هذا التأويل . ولست للقراءة به مستجيزا ، وإن كان له في التأويل والعربية وجه مفهوم ، لاتفاق الحجة من القراء على خلافه ، فغير جائز لأحد الاعتراض عليهم فيما نقلوه مجمعين عليه ، ولو قرىء في «حرّم » بضم الحاء من «حرم » لكان في الميتة وجهان من الرفع : أحدهما من أن الفاعل غير مسمى ، و«إنما » حرف واحد . والاَخر «إن » و«ما » في معنى حرفين ، و«حرم » من صلة «ما » ، والميتة خبر «الذي » مرفوع على الخبر ، ولست وإن كان لذلك أيضا وجه مستجيزا للقراءة به لما ذكرت .

وأما الميتة فإن القراء مختلفة في قراءتها ، فقرأها بعضهم بالتخفيف ومعناه فيها التشديد ، ولكنه يخففها كما يخفف القائلون : هو هيْن لّين الهيْن الليْن ، كما قال الشاعر :

ليسَ مَنْ ماتَ فاسْترَاحَ بمَيْتٍ إنّمَا المَيْتُ مَيّتُ الأحْياء

فجمع بين اللغتين في بيت واحد في معنى واحد . وقرأها بعضهم بالتشديد وحملوها على الأصل ، وقالوا : إنما هو «مَيْوت » ، فيعل من الموت ، ولكن الياء الساكنة والواو المتحركة لما اجتمعتا والياء مع سكونها متقدمة قلبت الواو ياء وشددت فصارتا ياء مشددة ، كما فعلوا ذلك في سيد وجيد . قالوا : ومن خففها فإنما طلب الخفة . والقراءة بها على أصلها الذي هو أصلها أولى .

والصواب من القول في ذلك عندي أن التخفيف والتشديد في ياء الميتة لغتان معروفتان في القراءة وفي كلام العرب ، فبأيهما قرأ ذلك القارىء فمصيب لأنه لا اختلاف في معنييهما .

وأما قوله : وَما أُهِلّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ فإنه يعني به : وما ذبح للاَلهة والأوثان يسمى عليه بغير اسمه أو قصد به غيره من الأصنام . وإنما قيل : وَما أُهِلّ بِهِ لأنهم كانوا إذا أرادوا ذبح ما قرّبوه لاَلهتهم سمّوُا اسم آلهتهم التي قرّبوا ذلك لها وجهروا بذلك أصواتهم ، فجرى ذلك من أمرهم على ذلك حتى قيل لكل ذابح يسمي أو لم يسم جهر بالتسمية أو لم يجهر : «مهلٌ » ، فرفعهم أصواتهم بذلك هو الإهلال الذي ذكره الله تعالى فقال : وَما أُهِلّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ ومن ذلك قيل للملبي في حجة أو عمرة مهلّ ، لرفعه صوته بالتلبية ومنه استهلال الصبيّ : إذا صاح عند سقوطه من بطن أمه ، واستهلال المطر : وهو صوت وقوعه على الأرض ، كما قال عمرو بن قميئة :

ظَلَم البِطاحَ لَهُ انْهِلالُ حَرِيصَةٍ فَصَفا النّطافُ لهُ بُعَيْدَ المُقْلَعِ

واختلف أهل التأويل في ذلك ، فقال بعضهم : يعني بقوله : وَما أُهِلّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ ما ذبح لغير الله . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وَما أُهِلّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ قال : ما ذبح لغير الله .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : وَما أُهِلّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ قال : ما ذبح لغير الله مما لم يسمّ عليه .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن نجيح ، عن مجاهد : وَما أُهِلّ بِه لِغَيْرِ اللّهِ ما ذبح لغير الله .

حدثنا القاسم قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قال ابن عباس في قوله : وَما أُهِلّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ قال : ما أهل به للطواغيت .

حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن جويبر ، عن الضحاك قال : وَما أُهِلّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ قال : ما أهل به للطواغيت .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : وَما أُهِلّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ يعني ما أهلّ للطواغيت كلها ، يعني ما ذبح لغير الله من أهل الكفر غير اليهود والنصارى .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن عطاء في قول الله : وَما أُهِلّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ قال : هو ما ذبح لغير الله .

وقال آخرون : معنى ذلك : ما ذكر عليه غير اسم الله . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : وَما أُهِلّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ يقول : ما ذكر عليه غير اسم الله .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، وسألته عن قول الله : وَما أُهِلّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ قال : ما يذبح لاَلهتهم الأنصاب التي يعبدونها ، أو يسمون أسماءها عليها . قال : يقولون باسم فلان ، كما تقول أنت باسم الله . قال : فذلك قوله : وَما أُهِلّ بِهِ لِغَيْرِ الله .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : حدثنا حيوة ، عن عقبة بن مسلم التجيبي ، وقيس بن رافع الأشجعي أنهما قالا : أحلّ لنا ما ذبح لعيد الكنائس ، وما أهدي لها من خبز أو لحم ، فإنما هو طعام أهل الكتاب . قال حيوة : قلت : أرأيت قول الله : وَما أُهِلّ بِهِ لِغْيِر اللّهِ ؟ قال : إنما ذلك المجوس وأهل الأوثان والمشركون .

القول في تأويل قوله تعالى : فَمَنِ اضْطُرّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إْثمَ عَلَيْهِ .

يعني تعالى ذكره : فَمَنِ اضْطُرّ فمن حلت به ضرورة مجاعة إلى ما حرّمت عليكم من الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله ، وهو بالصفة التي وصفنا ، فلا إثم عليه في أكله إن أكله . وقوله : فَمَنِ اضْطرّ افتعل من الضرورة ، «وغير باغ » نصب على الحال من «مَن » ، فكأنه قيل : فمن اضطرّ لا باغيا ولا عاديا فأكله ، فهو له حلال .

وقد قيل : إن معنى قوله : فَمَنِ اضْطُرّ فمن أكره على أكله فأكله ، فلا إثم عليه . ذكر من قال ذلك :

حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن سالم الأفطس ، عن مجاهد قوله : فَمَنِ اضْطُرّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ قال : الرجل يأخذه العدوّ فيدعونه إلى معصية الله .

وأما قوله : غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فإن أهل التأويل في تأويله مختلفون ، فقال بعضهم : يعني بقوله : غَيْرَ باغٍ غير خارج على الأئمة بسيفه باغيا عليهم بغير جور ، ولا عاديا عليهم بحرب وعدوان فمفسد عليهم السبيل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، قال : سمعت ليثا عن مجاهد : فَمَنِ اضْطّرّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ قال : غير قاطع سبيل ، ولا مفارق جماعة ، ولا خارج في معصية الله ، فله الرخصة .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فَمَنِ اضْطّرّ غَيْرَ باغٍ وَلا عاد يقول : لا قاطعا للسبيل ، ولا مفارقا للأئمة ، ولا خارجا في معصية الله ، فله الرخصة . ومن خرج باغيا أو عاديا في معصية الله ، فلا رخصة له وإن اضطرّ إليه .

حدثنا هناد بن السريّ ، قال : حدثنا شريك ، عن سالم ، عن سعيد : غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ قال : هو الذي يقطع الطريق ، فليس له رخصة إذا جاع أن يأكل الميتة وإذا عطش أن يشرب الخمر .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد بن نصر ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن شريك ، عن سالم : يعني الأفطس ، عن سعيد في قوله : فَمَنِ اضْطُرّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ قال الباغي العادي : الذي يقطع الطريق فلا رخصة له ولا كرامة .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحماني ، قال : حدثنا شريك ، عن سالم ، عن سعيد في قوله : فَمَنِ اضْطُرّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ قال : إذا خرج في سبيل من سبل الله فاضطرّ إلى شرب الخمر شرب ، وإن اضطرّ إلى الميتة أكل ، وإذا خرج يقطع الطريق فلا رخصة له .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثني حفص بن غياث ، عن الحجاج ، عن القاسم بن أبي بزة ، عن مجاهد ، قال : غَيْرَ باغٍ على الأئمة وَلا عادٍ قال : قاطع السبيل .

حدثنا هناد ، قال : حدثنا ابن أبي زائدة ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : فَمَنِ اضْطُر غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ قال : غير قاطع السبيل ، ولا مفارق الأئمة ، ولا خارج في معصية الله فله الرخصة .

حدثنا هناد ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن حجاج ، عن الحكم ، عن مجاهد : فَمَنِ اضْطرّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ قال : غير باغ على الأئمة ، ولا عاد على ابن السبيل .

وقال آخرون في تأويل قوله غَيْرَ باغٍ وَلا عاد : غير باغ الحرام في أكله ، ولا معتد الذي أبيح له منه . ذكر من قال ذلك .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة قوله : فَمَنِ اضْطرّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ قال : غير باغ في أكله ، ولا عاد أن يتعدى حلالاً إلى حرام وهو يجد عنه مندوحة .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الحسن في قوله : فَمَنِ اضْطُرّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادً قال : غير باغ فيها ولا معتد فيها بأكلها وهو غنيّ عنها .

حدثنا المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عمن سمع الحسن يقول ذلك .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو نميلة ، عن أبي حمزة ، عن جابر ، عن مجاهد وعكرمة قوله : فَمَنِ اضْطُرّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ غير باغ يبتغيه ، ولا عاد يتعدى على ما يمسك نفسه .

حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : فَمَنِ اضْطُرّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ يقول : من غير أن يبتغي حراما ويتعداه ، ألا ترى أنه يقول : فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأولَئِكَ هُمُ العادُون .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : فَمَنِ اضْطُرّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ قال : أن يأكل ذلك بغيا وتعديا عن الحلال إلى الحرام ، ويترك الحلال وهو عنده ، ويتعدى بأكل هذا الحرام هذا التعدي ، ينكر أن يكونا مختلفين ، ويقول هذا وهذا واحد .

وقال آخرون : تأويل ذلك فَمَنِ اضْطُرّ غَيْرَ باغٍ في أكله شهوة وَلا عادٍ فوق ما لا بد له منه . ذكر من قال ذلك :

حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : فَمَنِ اضْطُرَ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ أما باغ فيبتغي فيه شهوته ، وأما العادي : فيتعدى في أكله ، يأكل حتى يشبع ، ولكن يأكل منه قدر ما يمسك به نفسه حتى يبلغ به حاجته .

وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية قول من قال : فَمَنِ اضْطّرّ غَيّرَ باغٍ بأكله ما حرم عليه من أكله وَلا عاد في أكله ، وله عن ترك أكله بوجود غيره مما أحله الله له مندوحة وغنى ، وذلك أن الله تعالى ذكره لم يرخص لأحد في قتل نفسه بحال ، وإذ كان ذلك كذلك فلا شك أن الخارج على الإمام والقاطع الطريق وإن كانا قد أتيا ما حرّم الله عليهما من خروج هذا على من خرج عليه وسعي هذا بالإفساد في الأرض ، فغير مبيح لهما فعلهما ما فعلا مما حرّم الله عليهما ما كان حرّم الله عليهما قبل إتيانهما ما أتيا من ذلك من قتل أنفسهما ، بل ذلك من فعلهما وإن لم يؤدهما إلى محارم الله عليهما تحريما فغير مرخص لهما ما كان عليهما قبل ذلك حراما ، فإن كان ذلك كذلك ، فالواجب على قطاع الطريق والبغاة على الأئمة العادلة ، الأوبةُ إلى طاعة الله ، والرجوع إلى ما ألزمهما الله الرجوع إليه ، والتوبة من معاصي الله لا قتل أنفسهما بالمجاعة ، فيزدادان إلى إثمهما إثما ، وإلى خلافهما أمر الله خلافا .

وأما الذي وجه تأويل ذلك إلى أنه غير باغ في أكله شهوة ، فأكل ذلك شهوة لا لدفع الضرورة المخوف منها الهلاك مما قد دخل فيما حرّمه الله عليه ، فهو بمعنى ما قلنا في تأويله ، وإن كان للفظه مخالفا .

فأما توجيه تأويل قوله : وَلا عادٍ ولا آكل منه شبعه ولكن ما يمسك به نفسه فإن ذلك بعض معاني الاعتداء في أكله ، ولم يخصص الله من معاني الاعتداء في أكله معنى فيقال عنى به بعض معانيه . فإذا كان ذلك كذلك ، فالصواب من القول ما قلنا من أنه الاعتداء في كل معانيه المحرّمة .

وأما تأويل قوله : فَلا إثْمَ عَلَيْهِ يقول : من أكل ذلك على الصفة التي وصفنا فلا تبعة عليه في أكله ذلك كذلك ولا حرج .

القول في تأويل قوله تعالى : إنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ .

يعني بقوله تعالى ذكره : إنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ إن الله غفور إن أطعتم الله في إسلامكم فاجتنبتم أكل ما حرّم عليكم وتركتم اتباع الشيطان فيما كنتم تحرّمونه في جاهليتكم ، طاعة منكم للشيطان واقتفاء منكم خطواته ، مما لم أحرّمه عليكم لما سلف منكم في كفركم وقبل إسلامكم في ذلك من خطأ وذنب ومعصية ، فصافح عنكم ، وتارك عقوبتكم عليه ، رحيم بكم إن أطعتموه .