ثم قال تعالى جوابا لقول المكذبين : { مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ } { وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ في الْأَسْوَاقِ } فما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما جعلناهم ملائكة ، فلك فيهم أسوة ، وأما الغنى والفقر فهو فتنة وحكمة من الله تعالى كما قال : { وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً } الرسول فتنة للمرسل إليهم واختبار للمطيعين من العاصين{[576]} والرسل فتناهم بدعوة الخلق ، والغنى فتنة للفقير والفقير فتنة للغني ، وهكذا سائر أصناف الخلق في هذه الدار دار الفتن والابتلاء والاختبار .
والقصد من تلك الفتنة { أَتَصْبِرُونَ } فتقومون بما هو وظيفتكم اللازمة الراتبة فيثيبكم مولاكم{[577]} أم لا تصبرون فتستحقون المعاقبة ؟
{ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا } يعلم أحوالكم ، ويصطفي من يعلمه يصلح لرسالته ويختصه بتفضيله ويعلم أعمالكم فيجازيكم عليها إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر .
ثم تعود السورة مرة أخرى إلى تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم وإلى الرد على شبهات أعدائه فتقول : { وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ . . . } .
أى : وما أرسلنا قبلك - أيها الرسول الكريم - أحدا من رسلنا ، إلا وحالهم وشأنهم أنهم يأكلون الطعام الذى يأكله غيرهم من البشر . ويمشون فى الأسواق كما يمشى غيرهم من الناس ، طلبا للرزق .
وإذاً فقول المشركين فى شأنك " مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشى فى الأسواق " قول يدل على جهالاتهم وسوء نياتهم فلا تتأثر به ، ولا تلتفت إليه ، فأنت على الحق وهم على الباطل .
وقوله - تعالى - : { وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً } بيان لسنة من سنن الله - تعالى - فى خلقه ، اقتضتها حكمته ومشيئته .
أى : اختبرنا بعضكم ببعض ، وبلونا بعضكم ببعض ، ليظهر قوى الإيمان من ضعيفه ، إذ أن قوى الإيمان لتصديقه بقضاء الله وقدره يثبت على الحق ويلتزم بما أمره الله - تعالى - به ، أما ضعيف الإيمان فإنه يحسد غيره على ما آتاه الله - تعالى - من فضله . كما حسد المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم على منصب النبوة الذى أعطاه الله - تعالى - إياه { وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ } قال القرطبى : قوله - تعالى - : { وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ } أى : إن الدنيا دار بلاء وامتحان ، فأراد - سبحانه - أن يجعل بعض العبيد فتنة لبعض على العموم فى جميع الناس ، فالصحيح : فتنى للمريض . والغنى : فتنة للفقير . . ومعنى هذا ، أن كل واحد مختبر بصاحبه ، فالغنى ممتحن بالفقير ، فعليه أن يواسيه ولا يسخر منه ، والفقير ممتحن بالغنى ، فعليه أن لا يحسده . ولا يأخذ منه إلا ما أعطاه ، وأن يصبر كل واحد منهما على الحق . . والرسول المخصوص بكرامة النبوة فتنة لأشراف الناس من الكفار فى عصره . . . فالفتنة : أن يحسد المبتلَى المعافَى . والصبر : أن يحبس كلاهما نفسه ، هذا عن البطر وذاك عن الضجر .
والاستفهام فى قوله - تعالى - : { أَتَصْبِرُونَ } للتقرير أى : أتصبرون على هذا الابتلاء والاختبار فتنالوا من الله - تعالى - الأجر ، أم لا تصبرون فيزداد همكم وغمكم ؟
ويصح أن يكون الاستفهام بمعنى الأمر . أى : اصبروا على هذا الابتلاء كما فى قوله - تعالى - : { . . . وَقُلْ لِّلَّذِينَ أُوتُواْ الكتاب والأميين أَأَسْلَمْتُمْ . . . } أى : أسلموا . . . وكما فى قوله - سبحانه - : { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } أى : انتهوا عن الخمر والميسر .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله { وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً } أى : وكان ربك أيها - الرسول الكريم - بصيرا بأحوال النفوس الطاهرة والخفية ، وبتقلبات القلوب وخلجاتها . فاصبر على أذى قومك ، فإن العاقبة لك ولأتباعك المؤمنين .
فهذا التذييل فيه ما فيه من التسلية والتثبيت لفؤاد النبى صلى الله عليه وسلم .
والآن وقد شهدوا وشهد رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] نهاية الافتراء والتكذيب والاستهزاء . ونهاية الاعتراض على بشرية الرسول وأكله الطعام ، مشيه في الأسواق . . الآن يعود إلى الرسول[ صلى الله عليه وسلم ] يسليه ويؤسي ، بأنه لم يكن بدعا من الرسل ، فكلهم يمشون على سواء :
( وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق وجعلنا بعضكم لبعض فتنة . أتصبرون ? وكان ربك بصيرا ) . .
فإذا كان هناك اعتراض فليس هو اعتراضا على شخصه . إنما هو اعتراض على سنة من سنن الله . سنة مقدرة مقصودة لها غايتها المرسومة : ( وجعلنا بعضكم لبعض فتنة ) . ليعترض من لا يدركون حكمة الله وتدبيره وتقديره . وليصبر من يثق بالله وحكمته ونصره . ولتمضي الدعوة تغالب وتغلب بوسائل البشر وطرائق البشر . وليثبت من يثبت على هذا الابتلاء : ( أتصبرون ? ) . . ( وكان ربك بصيرا ) . بصيرا بالطبائع والقلوب ، والمصائر والغايات . ولهذه الإضافة هنا ( وكان ربك )إيحاؤها وظلها ونسمتها الرخية على قلب الرسول[ صلى الله عليه وسلم ] في مقام التأسية والتسلية والإيواء والتقريب . . والله بصير بمداخل القلوب . .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاّ إِنّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبّكَ بَصِيراً } .
وهذا احتجاج من الله تعالى ذكره لنبيه على مشركي قومه الذين قالوا : ما لِهَذَا الرّسُولِ يَأْكُلُ الطّعامَ ويَمْشِي فِي الأسْوَاقِ وجواب لهم عنه ، يقول لهم جلّ ثناؤه : وما أنكر يا محمد هؤلاء القائلون ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ، من أكلك الطعام ومشيك في الأسواق ، وأنت لله رسول فقد علموا أنا ما أرسلنا قبلك من المرسلين إلاّ إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق كالذي تأكل أنت وتمشي ، فليس لهم عليك بما قالوا من ذلك حجة .
فإن قال قائل : فإن «مَنْ » ليست في التلاوة ، فكيف قلت معنى الكلام : إلاّ مَنْ إِنهم ليأكلون الطعام ؟ قيل : قلنا في ذلك معناه : أن الهاء والميم في قوله : «إنهم » ، كناية أسماء لم تُذكر ، ولا بدّ لها من أن تعود على من كُنِي عنه بها ، وإنما ترك ذكر «مَنْ » وإظهاره في الكلام اكتفاء بدلالة قوله : مِنَ المُرْسَلِينَ عليه ، كما اكتفي في قوله : وَما مِنّا إلاّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ من إظهار «مَنْ » ، ولا شكّ أن معنى ذلك : وما منا إلاّ من له مقام معلوم ، كما قيل : وَإنْ مِنْكُمْ إلاّ وَارِدُها ومعناه : وإن منكم إلاّ من هو واردها فقوله : إنّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطّعامَ صلة ل «مَنِ » المتروك ، كما يقال في الكلام : ما أرسلت إليك من الناس إلاّ مَنْ إنه ليبلغك الرسالة ، فإنه «ليبلغك الرسالة » صلة ل «مَنْ » .
وقوله : وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً يقول تعالى ذكره : وامتحنا أيها الناس بعضكم ببعض ، جعلنا هذا نبيّا وخصصناه بالرسالة ، وهذا ملِكا وخصصناه بالدنيا ، وهذا فقيرا وحرمناه الدنيا ، لنختبر الفقير بصبره على ما حُرِم مما أعطيه الغنيّ ، والملك بصبره على ما أعطيه الرسول من الكرامة ، وكيف رضي كل إنسان منهم بما أعطى وقُسِم له ، وطاعته ربه مع ما حرِم مما أعطى غيره . يقول : فمن أجل ذلك لم أعط محمدا الدنيا ، وجعلته يطلب المعاش في الأسواق ، ولأبتليكم أيها الناس ، وأختبر طاعتكم ربكم وإجابتكم رسوله إلى ما دعاكم إليه ، بغير عَرَض من الدنيا ترجونه من محمد أن يعطيكم على اتباعكم إياه لأني لو أعطيته الدنيا ، لسارع كثير منكم إلى اتباعه طمعا في دنياه أن ينال منها .
وبنحو الذي قلنا تأويل في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أبي رجاء ، قال : ثني عبد القدوس ، عن الحسن ، في قوله : وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً . . . الاَية ، يقول هذا الأعمى : لو شاء الله لجعلني بصيرا مثل فلان ، ويقول هذا الفقير : لو شاء الله لجعلني غنيّا مثل فلان ، ويقول هذا السقيم : لو شاء الله لجعلني صحيحا مثل فلان .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، في قوله : وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أتَصْبرُونَ قال : يُمْسك عن هذا ويُوَسّع على هذا ، فيقول : لم يعطني مثل ما أعطى فلانا ، ويُبْتَلَى بالوجع كذلك ، فيقول : لم يجعلني ربي صحيحا مثل فلان في أشباه ذلك من البلاء ، ليعلم من يصبر ممن يجزع .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : ثني ابن إسحاق ، قال : ثني محمد بن أبي محمد ، فيما يروي الطبري ، عن عكرِمة ، أو عن سعيد ، عن ابن عباس ، قال : وأنزل عليه في ذلك من قولهم : ما لِهَذَا الرّسُولِ يَأْكُلُ الطّعامَ ويَمْشِي فِي الأسْوَاقِ . . . الاَية : وَما أرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ المُرْسَلِينَ إلاّ إِنّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطّعامَ ويَمْشُونَ فِي الأسْوَاقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أتَصْبِرُونَ أي جعلت بعضكم لبعض بلاء ، لتصبروا على ما تسمعون منهم ، وترون من خلافهم ، وتتبعوا الهدى بغير أن أعطيهم عليه الدنيا ولو شئت أن أجعل الدنيا مع رسلي فلا يخالفون لفعلت ، ولكني قد أردت أن أبتلي العباد بكم وأبتليكم بهم .
وقوله : وكانَ رَبّكَ بَصِيرا يقول : وربك يا محمد بصير بمن يجزع ومن يصبر على ما امتُحِن به من المحن . كما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج : وكانَ رَبّكَ بَصِيرا إن ربك لبصير بمن يجزع ومن يصبر .