{ 112 - 113 } { وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ * وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ } ،
وهذه القرية هي مكة المشرفة التي كانت آمنة مطمئنة لا يهاج فيها أحد ، وتحترمها الجاهلية الجهلاء حتى إن أحدهم يجد قاتل أبيه وأخيه ، فلا يهيجه مع شدة الحمية فيهم ، والنعرة العربية فحصل لها من الأمن التام ما لم يحصل لسواها ، وكذلك الرزق الواسع .
كانت بلدة ليس فيها زرع ولا شجر ، ولكن يسر الله لها الرزق يأتيها من كل مكان .
والفعل ضرب في قوله - تعالى - : { وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً . . . } متضمن معنى جعل ، ولذا عدى إلى مفعولين .
والمثل - بفتح الثاء - بمعنى المثل - بسكونها - أي : النظير والشبيه . ويطلق على القول السائر المعروف ، لمماثلة مضربه - وهو الذي يضرب فيه لمورده الذي ورد فيه ، ثم استعير للصفة والحال كما في الآية التي معنا .
والمراد بالقرية : أهلها ، فالكلام على تقدير مضاف .
وللمفسرين اتجاهان في تفسير هذه الآية . فمنهم من يرى أن هذه القرية غير معينة ، وإنما هي مثل لكل قوم قابلوا نعم الله بالجحود والكفران .
وإلى هذا المعنى اتجه صاحب الكشاف حيث قال : قوله - تعالى - : { وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً . . . } ، أي : جعل القرية التي هذه حالها مثلا لكل قوم أنعم الله عليهم فأبطرتهم النعمة . فكفروا وتولوا ، فأنزل الله بهم نقمته ، فيجوز أن تراد قرية مقدرة على هذه الصفة ، وأن تكون في قرى الأولين قرية كانت هذه حالها ، فضرب بها الله مثلا لمكة إنذارا من مثل عاقبتها .
ومنهم من يرى أن المقصود بهذه القرية مكة ، وعلى هذا الاتجاه سار الامام ابن كثير حيث قال ما ملخصه : هذا مثل أريد به أهل مكة ، فإنها كانت آمنة مطمئنة مستقرة ، يتخطف الناس من حولها ، ومن دخلها كان آمنا . . . فجحدت آلاء الله عليها ، وأعظمها بعثة محمد صلى الله عليه وسلم فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون .
ويبدو لنا أن الاتجاه الأول أقرب إلى الصواب ، لتنكير لفظ قرية ، ولشموله الاتجاه الثاني ؛ لأنه يتناول كل قرية بدلت نعمة الله كفرا ، ويدخل في ذلك كفار مكة دخولا أوليا .
فيكون المعنى : وجعل الله قرية موصوفة بهذه الصفات مثلا لكل قوم أنعم الله عليهم بهذه النعم ، فلم يشكروا الله - تعالى - عليها ، فأخذهم أخذ عزيز مقتدر .
وقوله : { كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً } ، أي : كانت تعيش في أمان لا يشوبه خوف ، وفي سكون واطمئنان لا يخالطهما فزع أو انزعاج .
وقوله : { يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ } ، بيان لسعة عيشها ، أي : يأتيها ما يحتاج إليه أهلها واسعا لينا سهلا من كل مكان من الأمكنة .
يقال : رَغُد - بضم الغين - عيش القوم ، أي : اتسع وطاب فهو رغد ورغيد . . . وأرغد القوم ، أي : أخصبوا وصاروا في رزق واسع .
فالآية الكريمة قد تضمنت أمهات النعم : الأمان والاطمئنان ورغد العيش . قال بعضهم : ثلاثة ليس لها نهاية . . . الأمن والصحة والكفاية
وقوله - تعالى - : { فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله } ، بيان لموقفها الجحودي من نعم الله - تعالى - أي : فكان موقف أهل هذه القرية من تلك النعم الجليلة ، أنهم جحدوا هذه النعم ، ولم يقابلوها بالشكر ، وإنما قابلوها بالإِشراك بالله - تعالى - مُسدي هذه النعم .
قال القرطبي : " والأنْعُم : جمع النِّعمة . كالأشُد جمع الشِّدة ، وقيل : جمع نعمى ، مثل بُؤسى وأبؤس " .
وقوله - سبحانه - : { فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع والخوف بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } ، بيان للعقوبة الأليمة التي حلت بأهلها بسبب كفرهم وبطرهم .
أي : فأذاق - سبحانه - أهلها لباس الجوع والخوف ، بسبب ما كانوا يصنعونه من الكفر والجحود والعتو عن أمر الله ورسله .
وذلك بأن أظهر أثرهما عليهم بصورة واضحة ، تجعل الناظر إليهم لا يخفى عليه ما هم فيه من فقر مدقع ، وفزع شديد .
ففي الجملة الكريمة تصوير بديع لما أصابهم من جوع وخوف ، حتى لكأن ما هم فيه من هزال وسوء حال ، يبدو كاللباس الذي يلبسه الإِنسان ، ويجعلهم يذوقون هذا اللباس ذوقا يحسون أثره إحساسا عميقا .
ورحم الله صاحب الكشاف فقد أجاد في تصوير هذا المعنى فقال : " فإن قلت : الإِذاقة واللباس استعارتان فما وجه صحتهما ؟ والإِذاقة المستعارة موقعة على اللباس المستعار ، فما وجه صحة إيقاعها عليه ؟ .
قلت : أما الإِذاقة فقد جرت عندهم مجرى الحقيقة لشيوعها في البلايا والشدائد وما يمس الناس منها . فيقولون : ذاق فلان البؤس والضر ، وأذاقه العذاب . شبه مايدرك من أثر الضرر والألم بما يدرك من الطعم المر البشع .
وأما اللباس فقد شبه به لاشتماله على اللابس ، ما غشي الإِنسان والتبس به من بعض الحوادث .
وأما إيقاع الإِذاقة على لباس الجوع والخوف ، فلأنه لما وقع عبارة عما يغشى منهما ويلابس ، فكأنه قيل : فأذاقهم ماغشيهم من الجوع والخوف . . .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.