فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{فَلَمَّا سَمِعَتۡ بِمَكۡرِهِنَّ أَرۡسَلَتۡ إِلَيۡهِنَّ وَأَعۡتَدَتۡ لَهُنَّ مُتَّكَـٔٗا وَءَاتَتۡ كُلَّ وَٰحِدَةٖ مِّنۡهُنَّ سِكِّينٗا وَقَالَتِ ٱخۡرُجۡ عَلَيۡهِنَّۖ فَلَمَّا رَأَيۡنَهُۥٓ أَكۡبَرۡنَهُۥ وَقَطَّعۡنَ أَيۡدِيَهُنَّ وَقُلۡنَ حَٰشَ لِلَّهِ مَا هَٰذَا بَشَرًا إِنۡ هَٰذَآ إِلَّا مَلَكٞ كَرِيمٞ} (31)

{ فلما سمعت } امرأة العزيز { بمكرهن } أي بغيبتهن إياها سميت الغيبة مكرا لاشتراكهما في الإخفاء وقيل أردن أن يتوسلن بذلك إلى رؤية يوسف فلهذا سمي قولهن مكرا ، وقيل أنها أسرت إليهن فأفشين سرها فسمي ذلك مكرا عن سفيان قال : أي بعلمهن وكل مكر في القرآن فهو العمل .

{ أرسلت إليهن } أي تدعوهن إليها لتقيم عذرها عندهن ولينظرن إلى يوسف حتى يقعن فيما وقعت فيه قيل دعت أربعين امرأة من أشراف مدينتها فيهن هؤلاء اللاتي عيرنها { وأعتدت لهن متكئا } أي أعدت وأحضرت وهيأت لهن مجالس يتكئن عليها من نمارق ومسانيد وأعتدت من الاعتداد وهو كل ما جعلته عدة لشيء وقرئ متكئا مخففا غير مهموز والمتك هو الاترنج بلغة القبط قاله مجاهد : وعن عكرمة : قال هو كل شيء يقطع بالسكين وعن الضحاك مثله وقيل إن ذلك هو لغة أزد شنوأة وقيل حكي ذلك عن الأخفش قال الفراء : إنه ماء الورد .

وقرأ الجمهور متكئا بالهمز والتشديد وأصح ما قيل فيه أنه المجلس وقيل هو الطعام وبه قال ابن جرير وقتادة : وسمي متكئا على الاستعارة قاله الخازن أي للاتكاء عنده على عادة المتكبرين في أكل الفواكه فهو مجاز مرسل وعلاقته المجاورة ، وقيل المتكأ كل ما اتكئ عليه عند طعام أو شراب أو حديث ، وحكى القتيبي أنه يقال اتكأنا عند فلان أي أكلنا .

ويؤيد هذا قوله { وآتت كل واحدة منهن سكينا } فإن ذلك إنما يكون لشيء يأكلنه بعد أن يقطعنه والسكين تذكر وتؤنث قاله الكسائي والفراء قال الجوهري : والغالب عليه التذكير والمراد من إعطائها لكل واحدة سكينا أن يقطعن ما يحتاج إلى التقطيع من الأطعمة قيل وكان من عادتهن أن يأكلن اللحم والفواكه بالسكين وكانت تلك السكاكين خناجر ويمكن أنها أرادت بذلك ما سيقع منهن من تقطيع أيديهن .

{ وقالت } ليوسف { أخرج عليهن } أي في تلك الحالة التي هن عليها من الاتكاء والأكل وتقطيع ما يحتاج إلى التقطيع من الطعام { فلما رأينه أكبرنه } أي أعظمنه قال مجاهد : واحترمنه وهبنه ودهشن عند رؤيته من شدة جماله وقيل أمنين وقيل أمذين ومنه قول الشاعر :

إذا ما رأين الفحل من فوق قلة صهلن وأكبرن المني المقطرا .

وقال الأزهري : أكبرن بمعنى حضن والهاء للسكت يقال أكبرت المرأة أي دخلت في الكبر بالحيض وقال ابن عباس : حضن من الفرح ووقع منهن ذلك دهشا وفزعا لما شاهدناه من جماله الفائق وحسنه الرائق وأنكر ذلك أبو عبيدة وغيره وقالوا ليس ذلك في كلام العرب ، قال الزجاج : يقال أكبرنه ولا يقال حضنه فليس الإكبار بمعنى الحيض وأجاب الأزهري فقال : يجوز أن يكون هاء الوقف لا هاء الكناية .

وقد زيف هذا بأن هاء الوقف تسقط في الوصل قاله ابن الأنباري : أن الهاء كناية عن مصدر الفعل أي أكبرن إكبارا بمعنى حضن حيضا وسمي الحيض إكبارا لكون البلوغ يعرف به كأنه يدخلهم سن الكبر فيكون في الأصل كناية أو مجازا وهذا منقول عن قتادة والسدي .

قال الرازي : وعندي أنه يحتمل وجها آخر هو أنهن إنما أكبرنه لأنهن رأين عليه نور النبوة وسيما الرسالة وشاهدن فيه مهابة ملكية وهي عدم الالتفات إلى المطعوم والمنكوح وعدم الاعتداد بهن فتعجبن من تلك الحالة فلا جرم أكبرنه وأعظمنه وحمل الآية على هذا أولى1ه .

{ وقطعن أيديهن } أي جرحنها حتى سال الدم وليس المراد به القطع الذي تبين من اليد بل المراد به الخدش والحز وذلك معروف في اللغة كما قال النحاس :

يقال قطع يد صاحبه إذا خدشها وقيل المراد هنا أناملهن وقيل أكمامهن والمعنى أنه لما خرج يوسف عليهن أعظمنه ودهشن وراعهن حسنه حتى اضطربت أيديهن فوقع القطع عليها وهن في شغل عن ذلك بما دهمهن مما تطيش عنده الأحلام وتضطرب له الأبدان وتزول العقول قال مجاهد : فما أحسن إلا بالدم وقال قتادة : أبن أيديهن حتى ألقينها والأصح أنه كان قطعا من غير إبانة وعن منبه عن أبيه قال : مات من النسوة اللاتي قطعن أيديهن تسع عشرة امرأة كمدا .

{ وقلن حاش الله } قرئ بإثبات الألف وبحذفها وبإسكان الشين حاش لله وقرئ حاش الإله وحاشا الله قلت إثبات الألف وحذفها قراءتان سبعيتان وهذا بالنظر للنطق وأما رسم المصحف فلا تكتب فيه ألف بعد الشين وإن نطق بها قال الزجاج : أصل الكلمة من الحاشية بمعنى الناحية يقال كنت في حاشية فلان أي في ناحيته فقولك حاشا لزيد من هذا أي تباعد منه وقال أبو علي : هو من المحاشاة وقيل إن حاش حرف وحاشا فعل .

وكلام أهل النحو في هذه الكلمة معروف ومعناها هنا التنزيه كما تقول آسى القوم حاشا زيدا فمعنى حاشا لله براءة لله وتنزيه له أي صفة العجز عن خلق هذا وأمثاله قال مجاهد : حاشا لله معاذ الله .

{ ما هذا بشرا } إعمال { ما } عمل { ليس } هي في لغة أهل الحجاز وبهذا نزل القرآن كهذه وكقوله سبحانه { ما هن أمهاتهم } وأما بنو تميم فلا يعملونها عمل ليس وقال الكوفيون : أصله ما هذا ببشر فلما حذفت الباء انتصب قال أحمد ابن يحيى ثعلب : إذا قلت ما أزيد بمنطلق فموضع الباء موضع نصب وهكذا سائر حروف الخفض .

وأما الخليل وسيبويه وجمهور النحويين فقد أعملوها عمل ليس وبه قال البصريون والبحث مقرر في كتب النحو بشواهده وحججه وقرأ الحسن وما هذا بشرا على أن الباء حرف جر والشين مكسورة أي ما هذا بعبد يشتري وهذه قراءة ضعيفة لا تناسب ما بعدها من قوله إن هذا إلا ملك كريم .

قال الخفاجي : ورد بأنها صحيحة رواية ودراية أما الأول فلأنها رواها في المبهج عن عبد الوارث بسند صحيح ، وأما الثاني : فلأن من قرأ بهذه قرأ ملك بكسر اللام فتصح المقابلة أي ما هذا عبد لئيم بملك بل سيد كريم مالك انتهى .

وإنما نفين عنه البشرية لما شاهدن فيه من الجمال العبقري ولأنه قد برز في صورة قد لبست من الحسن البديع ما لم يعهد على أحد من البشر ولا أبصر المبصرون ما يقاربه في جميع النسمة البشرية ثم لما نفين عنه البشرية لهذه العلة أثبتن له الملكية وإن كن لا يعرفن الملائكة وقلن :

{ إن هذا إلا ملك كريم } على الله لأنه قد تقرر في الطباع وركز في النفوس أنهم على شكل فوق شكل البشر في الذوات والصفات وأن لا شيء أحسن من الملك وأنهم فائقون في كل شيء كما تقرر فيها أن الشياطين على العكس من ذلك ولا أقبح منهم والمقصود من هذا إثبات الحسن العظيم المفرط ليوسف .

واعلم أنه لا يلزم من قول النسوة هذا أن الملائكة صورهم أحسن من صور بني آدم فإنهن لم يقلنه لدليل بل حكمن على الغيب بمجرد الاعتقاد المرتكز في طباعهن وذلك ممنوع فإن الله سبحانه يقول { لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم } وظاهر هذا أنه لم يكن شيء مثله من أنواع المخلوقات في حسن تقويمه وكمال صورته فما قاله صاحب الكشاف في هذا المقام هو من جملة تعصباته لما رسخ في عقله من أقوال المعتزلة .

على أن هذه المسألة أعني مسألة المفاضلة بين الملائكة والبشر ليست من مسائل الدين في ورد ولا صدر فما أغنى عباد الله عنها وأحوجهم إلى غيرها من مسائل التكاليف قال قتادة : قلن ملك من الملائكة من حسنه وغرابة جماله ، وأخرج أحمد وغيره عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أعطى يوسف وأمه شطر الحسن{[966]} وقد وردت روايات عن جماعة من السلف في وصف حسن يوسف والمبالغة ففي بعضها أنه أعطى نصف الحسن وفي بعضها ثلثه وفي بعضها ثلثيه .


[966]:رواه مسلم في كتاب الإيمان باب الإسراء وفرض الصلوات رقم 162 من حديث طويل فيه {فإذا أنا بيوسف {ص} إذا هو قد أعطى شطر الحسن. وأخرجه الإمام أحمد 3/148/286