فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{كُتِبَ عَلَيۡكُمۡ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلۡمَوۡتُ إِن تَرَكَ خَيۡرًا ٱلۡوَصِيَّةُ لِلۡوَٰلِدَيۡنِ وَٱلۡأَقۡرَبِينَ بِٱلۡمَعۡرُوفِۖ حَقًّا عَلَى ٱلۡمُتَّقِينَ} (180)

{ كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين } .

{ كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت } قد تقدم معنى كتب قريبا وحضور الموت حضور أسبابه وأماراته وظهور علاماته من العلل والأمراض المخوفة ، وليس المراد منه معاينة الموت ، لأنه في ذلك الوقت يعجز عن الإيصاء ، وإنما لم يؤنث الفعل المسند إلى الوصية وهو كتب لوجود الفاصل بينهما ، وقيل لأنهما بمعنى الإيصاء ، وقد روي جواز إسناد ما لا تأنيث فيه إلى المؤنث مع عدم الفصل ، وقد حكى سيبويه : أقام امرأة وهو خلاف ما أطبق عليه أئمة العربية .

{ إن ترك خيرا } شرط سبحانه ما كتبه من الوصية بأن يترك الموصي خيرا أي مالا . قال الزهري : هو يطلق على القليل والكثير ، فتجب الوصية في الكل وقيل لا يطلق إلا على المال الكثير ، وهو قول الأكثرين .

واختلف أهل العلم في مقدار الخير فقيل ما زاد على سبعمائة دينار ، وقيل ألف دينار ، وقيل وما زاد على خمسمائة دينار ، وقيل ستون دينار فما فوقها . وقيل من خمسمائة إلى ألف ، وقيل إنه المال الكثير الفاضل عن العيال ، والخير هنا المال ويقع في القرآن على وجوه ونبه بتسميته خيرا على أن الوصية تستحب في مال طيب .

{ الوصية } أي الإيصاء ، والوصية في الأصل عبارة عن الأمر بالشيء والعهد به في الحياة وبعد الموت وهي هنا عبارة عن الأمر بالشيء بعد الموت ، وقد اتفق أهل العلم على وجوب الوصية على من عليه دين أو عنده وديعة أو نحوها وأما من لم يكن كذلك فذهب أكثرهم إلى أنها غير واجبة عليه سواء كان فقيرا أو غنيا ، وقالت طائفة إنها واجبة .

{ { للوالدين والأقربين } لم يبين الله سبحانه ها هنا القدر الذي كتب الوصية به للوالدين والأقربين فقيل الخمس وقيل الربع وقيل الثلث ، وقد اختلف أهل العلم في هذه الآية هل هي محكمة أو منسوخة فذهب جماعة إلى أنها محكمة ، وقالوا هي وإن كانت عامة فمعناها الخصوص ، والمراد بها من الوالدين من لا يرث كالأبوين الكافرين ، ومن هو في الرق ، ومن الأقربين من عدا الورثة منهم .

قال ابن المنذر : أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على أن الوصية للوالدين اللذين لا يرثان والأقرباء الذين لا يرثون جائزة وقال كثير من أهل العلم أنها منسوخة بآيات المواريث مع قوله صلى الله عليه وسلم ( لا وصية لوارث ) {[163]} وهو حديث صححه بعض أهل الحديث وروي من غير وجه ، وللشيخ سعد التفتازاني فيه مناقشة ، وقال بعض أهل العلم إنه نسخ الوجوب وبقي الندب ، روي ذلك عن الشعبي والنخعي ومالك .

{ بالمعروف } أي بالعدل لا وكس فيه ولا شطط وقد أذن الله للميت بالثلث دون ما زاد عليه فلا يزيد على الثلث ، ولا يوصي للغني ويدع الفقير وعن علي لأن أوصي بالخمس أحب إلي من أن أوصي بالربع ، لأن أوصي بالربع أحب إلي من أن أوصي بالثلث فمن أوصي بالثلث فلم يترك وقيل قبله معناه الثبوت والوجوب ، وقيل ثبوت ندب لا ثبوت فرض ووجوب { على المتقين } أي على الذين يتقون الشرك .


[163]:رواه أحمد وأبو داوود والترمذي وابن ماجة وحسنه أحمد والترمذي من حديث أبي أمامة الباهلي به مرفوعا وقواه ابن خزيمة وابن الجارود – انظر تمييز الطيب من الخبيث / 1636