فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِٱلۡجُنُودِ قَالَ إِنَّ ٱللَّهَ مُبۡتَلِيكُم بِنَهَرٖ فَمَن شَرِبَ مِنۡهُ فَلَيۡسَ مِنِّي وَمَن لَّمۡ يَطۡعَمۡهُ فَإِنَّهُۥ مِنِّيٓ إِلَّا مَنِ ٱغۡتَرَفَ غُرۡفَةَۢ بِيَدِهِۦۚ فَشَرِبُواْ مِنۡهُ إِلَّا قَلِيلٗا مِّنۡهُمۡۚ فَلَمَّا جَاوَزَهُۥ هُوَ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مَعَهُۥ قَالُواْ لَا طَاقَةَ لَنَا ٱلۡيَوۡمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِۦۚ قَالَ ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَٰقُواْ ٱللَّهِ كَم مِّن فِئَةٖ قَلِيلَةٍ غَلَبَتۡ فِئَةٗ كَثِيرَةَۢ بِإِذۡنِ ٱللَّهِۗ وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّـٰبِرِينَ} (249)

فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين 249

( فلما فصل طالوت بالجنود ) فصل معناه خرج بهم يقال فصلت الشيء فانفصل أي قطعته فانقطع ، وأصله متعد يقال فصل نفسه ثم استعمل استعمال اللازم كانفصل ، وقيل يستعمل لازما ومتعديا ، يقال فصل عن البلد فصولا وفصل نفسه فصلا ، والمعنى قطع مستقره شاخصا إلى غيره ، فخرج طالوت من بيت المقدس بالجنود وهم سبعون ألف مقاتل ، وقيل ثمانية ألفا وقيل مائة وعشرون ألفا ولم يتخلف عنه إلا كبير لكبره أو مريض لمرضه أو معذور لعذره ، وكان مسيرهم في حر شديد فشكوا إلى طالوت قلة الماء بينهم وبين عدوهم ، وقالوا إن المياه لا تحملنا فادع الله أن يجري لنا نهرا .

( قال ) طالوت ( إن الله مبتليكم بنهر ) أي مختبركم والابتلاء الاختبار ، والنهر قيل هو بين الأردن وفلسطين ، وأردن موضع ذو رمل قريب من بيت المقدس ، والمراد بهذا الابتلاء اختبار طاعتهم فمن أطاع في ذلك الماء أطاع فيما عداه ومن عصى في هذا وغلبته نفسه فهو في العصيان في سائر الشدائد أحرى .

( فمن شرب منه ) قليلا كان أو كثيرا ( فليس مني ) أي ليس من أهل ديني وطاعتي ( ومن لم يطعمه ) أي لم يذقه يعني الماء أصلا لا قليلا ولا كثيرا ( فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده ) رخص لهم في الغرفة ليرتفع عنهم أذى العطش بعض الارتفاع وليكسروا نزاع النفس في هذه الحال .

وفيه أن الغرفة تكف سورة العطش عند الصابرين على شظف العيش الدافعين أنفسهم عن الرفاهية .

فالمراد بقوله ( فمن شرب منه ) أي كرع ولم يقتصر على الغرفة ، ومعنى ليس مني ليس من أصحابي ، من قولهم فلان من فلان كأنه بعضه لاختلاطهما وطول صحبتهما ، وهذا في كلام العرب معروف ، يقال طعمت الشيء أي ذقته ، وأطعمته الماء أي أذقته .

وفيه دليل على أن الماء يقال له طعام ، والاغتراف الأخذ من الشيء باليد أو بآلة ، والغرف مثل الاغتراف ، والغرفة المرة الواحدة ، وقد قرئ بفتح الغين وضمها فالفتح للمرة والضم اسم للشيء المغترف ، وقيل بالفتح الغرفة الواحدة بالكف وبالضم الغرفة بالكفين ، وقيل هما لغتان بمعنى واحد .

( فشربوا منه ) أي من النهر ( إلا قليلا منهم ) وهم المذكورون في قوله ( ومن لم يطعمه ) قال القرطبي : إن القليل لم يشرب أصلا ، قال سعيد بن جبير : القليل ثلثمائة وبضعة عشر رجلا عدة أهل بدر .

وعن البراء قال : كنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم نتحدث أن أصحاب بدر على عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر ، ولم يجاوز معه إلا بضعة عشر وثلثمائة وعن قتادة قال : ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لأصحابه يوم بدر : أنتم بعدة أصحاب طالوت يوم لقي جالوت{[250]} .

وعن ابن عباس قال : كانوا ثلثمائة ألف وثلاثة آلاف وثلثمائة وثلاثة عشر فشربوا منه كلهم إلا ثلثمائة وثلاثة عشر رجلا عدة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر فردهم طالوت ومضى ثلثمائة وثلاثة عشر ، وقرئ إلا قليل ، ولا وجه له إلا ما قيل من أنه من هجر اللفظ إلى جانب المعنى أي لم يطعمه إلا قليل وهو تعسف .

( فلما جاوزه هو ) أي جاوز النهر طالوت ( والذين آمنوا معه ) وهم القليل الذين أطاعوه واقتصروا على الغرفة وقال القرطبي : هم الذين لم يذوقوا الماء أصلا ( قالوا ) أي الذين شربوا ( لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده ) أي بمحاربتهم ومقاومتهم فضلا عن أن يكون لنا غلبة عليهم لما شاهدوا منهم من الكثرة والشدة ، قال القرطبي : قيل وكانوا مائة ألف رجل شاكي السلاح وأكثر المفسرين على أنهم قالوا هذا القول بعدما عبروا النهر مع طالوت ، ورأوا جالوت وجنوده فرجعوا منهزمين قائلين هذه المقالة .

وبعض المفسرين على أن العصاة لم يعبروا النهر بل وقفوا بساحله وقالوا معتذرين عن التخلف منادين ومسمعين لطالوت والمؤمنين الذين معه لا طاقة لنا اليوم الخ ، والجند الأنصار والأعوان والجمع أجناد الواحد جندي .

فالياء للوحدة مثل روم ورومي .

و ( قال الذين يظنون ) أي يتيقنون ردا على المتخلفين ( أنهم ملاقوا الله ) أي أنهم يستشهدون عما قريب فيلقون الله ، صرح به القاضي كالكشاف ( كم من فئة قليلة ) الفئة الجماعة لا واحد له من لفظه والقطعة منهم من فأوت رأسه بالسيف أي قطعته ( غلبت فئة كثيرة بإذن الله ) أي بقضاء الله وإرادته ( والله مع الصابرين ) بالنصر والعون ، وهذه من جملة مقولهم ، ويحتمل أنها من كلام الله تعالى أخبر بها عن حال الصابرين فلا محل لها من الاعراب .


[250]:رواه ابن جرير عن قتادة قال:ذكر لنا ان نبي الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم بدر، فذكره. واخرج احمد والبخاري وغيره عن البراء بن عازب قال: كنا اصحاب محمد تتحدث ان اصحاب بدر على عدة اصحاب طالوت الذين جاوزوا معه النهر- ولم يجاوز معه الا مؤمن- بضعة عشر وثلاثمائة.