فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{رِجَالٞ لَّا تُلۡهِيهِمۡ تِجَٰرَةٞ وَلَا بَيۡعٌ عَن ذِكۡرِ ٱللَّهِ وَإِقَامِ ٱلصَّلَوٰةِ وَإِيتَآءِ ٱلزَّكَوٰةِ يَخَافُونَ يَوۡمٗا تَتَقَلَّبُ فِيهِ ٱلۡقُلُوبُ وَٱلۡأَبۡصَٰرُ} (37)

36

قيل : خص الرجال بالذكر في هذه المساجد لأن النساء ليس عليهن حضور المساجد لجمعة ولا لجماعة .

{ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ } هذه صفة لرجال ، أي لا يشغلهم التجارة في السفر ، والبيع في الحضر ، وخص التجارة بالذكر لأنها أعظم ما يشتغل به الإنسان ، وقال الفراء ، التجارة لأهل الجلب ، والبيع ما باعه الرجل على يديه ، وخص قوم التجارة ههنا بالشراء لذكر البيع بعدها ، وبمثل قول الفراء ، قال الواقدي فقال التجار هم الجلاب المسافرون ، والباعة هم المقيمون .

ومعنى { عَن ذِكْرِ اللَّهِ } هو ما تقدم في قوله : { يذكر فيها اسمه } ، أي باللسان والقلب ، وقيل المراد الأذان ، وقيل ذكره بأسمائه الحسنى ، أي يوحدونه ويمجدونه ، وقيل المراد الصلاة ، ويرده ذكر الصلاة بعد الذكر هنا .

وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه ، عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الآية قال : ( هم الذين يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله ) وأخرج ابن مردويه والديلمي ، عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : ( الذين يبتغون من فضل الله ) .

وعن ابن عباس قال : كانوا رجالا يبتغون من فضل الله يشترون ويبيعون فإذا سمعوا النداء بالصلاة ألقوا ما في أيديهم ، وقاموا إلى المسجد فصلوا ، وعنه في الآية قال : ضرب الله هذا المثل قوله : { كمشكاة } لأولئك القوم الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ، وكانوا أتجر الناس عنه قال : عن ذكر الله عن شهود الصلاة ، وعن ابن عمر أنه كان في السوق ، فأقيمت الصلاة فأغلقوا حوانيتهم ثم دخلوا المسجد فقال ابن عمر : فيهم نزلت { رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ } .

وعن ابن مسعود أنه رأى ناسا من أهل السوق سمعوا الأذان فتركوا أمتعتهم فقال : هؤلاء الذين قال الله فيهم { لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ } وأخرج البيهقي ، وابن أبي حاتم وغيرهما ، عن أسماء بنت يزيد قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( يجمع الله يوم القيامة الناس في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر ، فيقوم مناد فينادي أين الذين كانوا يحمدون الله في السراء والضراء فيقومون وهم قليل فيدخلون الجنة بغير حساب ثم يعود فينادي أين الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع ؟ فيقومون وهم قليل فيدخلون الجنة بغير حساب ، ثم يعود فينادي ليقم الذين كانوا لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله فيقومون وهم قليل فيدخلون الجنة بغير حساب ثم يقوم سائر الناس فيحاسبون ) {[1304]} وأخرجه الحاكم وصححه وابن مردويه عن عقبة بن عامر مرفوعا نحوه .

{ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ } أي إقامتها لمواقيتها من غير تأخير ، وأدائها في وقتها جماعة لأن مؤخر الصلاة عن وقتها لا يكون من مقيمي الصلاة ، وحذفت التاء لأن الإضافة تقوم مقامها في ثلاث كلمات جمعها الشاعر في قوله :

ثلاثة تحذف تاآتها مضافة عند جميع النحاة

وهي إذا شئت أبو عذرها وليت شعري وإقام الصلاة

وقيل الرابع عد الأمر ، أي عدة الأمر ، وقيل في توجيه حذفها غير ذلك وقد احتاج من حمل ذكر الله على الصلاة المفروضة أن يحمل إقام الصلاة على تأديتها في أوقاتها فرارا من التكرار ولا ملجئ إلى ذلك ، بل يحمل الذكر على معناه الحقيقي كما قدمنا .

{ وإِيتَاء الزَّكَاةِ } المفروضة ؛ وقيل المراد طاعة الله والإخلاص إذ ليس لكل مؤمن مال { يَخَافُونَ يَوْمًا } أي يوم القيامة والنصب على أنه مفعول للفعل لا ظرف له يعني أن هؤلاء الرجال وإن بالغوا في ذكر الله تعالى والطاعات فإنهم مع ذلك وجلون خائفون لعلمهم بأنهم ما عبدوا الله حق عبادته ، ثم وصف هذا اليوم بقوله :

{ تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ } أي تضطرب وتتحول من الهول والفزع . وقيل المراد انتزاعها من أماكنها إلى الحناجر فلا ترجع إلى أماكنها ولا تخرج { وَ } تشخص { الْأَبْصَار } من هول ذلك اليوم ، وقيل المراد بتقلبها هو أن تصير عميا بعد أن كانت مبصرة ، وقيل المراد بتقلب القلوب أنها تكون متقلبة بين الطمع في النجاة والخوف من الهلاك ، وأما تقلب الأبصار فهو نظرها من أي ناحية يؤخذون وإلى أي ناحية يصيرون ، وقيل المراد تحول قلوبهم وأبصارهم عما كانت عليه من الشك إلى اليقين ومثله قوله : { فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد } فما كان يراه في الدنيا غيا يراه في الآخرة رشدا ، وقيل المراد التقلب على جمر جهنم وقيل غير ذلك .


[1304]:الحاكم، كتاب التفسير 2/399.