فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَلَا تَنفَعُ ٱلشَّفَٰعَةُ عِندَهُۥٓ إِلَّا لِمَنۡ أَذِنَ لَهُۥۚ حَتَّىٰٓ إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمۡ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمۡۖ قَالُواْ ٱلۡحَقَّۖ وَهُوَ ٱلۡعَلِيُّ ٱلۡكَبِيرُ} (23)

{ وَلاَ تَنفَعُ الشفاعة عِندَهُ } أي شفاعة من يشفع عنده من الملائكة ، وغيرهم ، وقوله : { إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } استثناء مفرّغ من أعمّ الأحوال ، أي لا تنفع الشفاعة في حال من الأحوال إلاّ كائنة لمن أذن له أن يشفع من الملائكة والنبيين ، ونحوهم من أهل العلم والعمل ، ومعلوم أن هؤلاء لا يشفعون إلاّ لمن يستحق الشفاعة ، لا للكافرين ، ويجوز أن يكون المعنى : لا تنفع الشفاعة من الشفعاء المتأهلين لها في حال من الأحوال إلاّ كائنة لمن أذن له ، أي لأجله ، وفي شأنه من المستحقين للشفاعة لهم ، لا من عداهم من غير المستحقين لها ، واللام في : { لمن } يجوز أن تتعلق بنفس الشفاعة . قال أبو البقاء : كما تقول شفعت له ، ويجوز أن تتعلق بتنفع ، والأولى أنها متعلقة بالمحذوف كما ذكرنا . قيل : والمراد بقوله : { لاَّ تَنفَعُ الشفاعة } أنها لا توجد أصلاً إلاّ لمن أذن له ، وإنما علق النفي بنفعها لا بوقوعها تصريحاً بنفي ما هو غرضهم من وقوعها . قرأ الجمهور { أذن } بفتح الهمزة ، أي أذن له الله سبحانه ، لأن اسمه سبحانه مذكور قبل هذا ، وقرأ أبو عمرو وحمزة ، والكسائي بضمها على البناء للمفعول ، والآذن هو الله سبحانه ، ومثل هذه الآية قوله تعالى : { مَن ذَا الذى يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } [ البقرة : 255 ] ، وقوله : { وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى } [ الأنبياء : 28 ] ، ثم أخبر سبحانه عن خوف هؤلاء الشفعاء والمشفوع لهم ، فقال : { حتى إِذَا فُزّعَ عَن قُلُوبِهِمْ } قرأ الجمهور { فزّع } مبنياً للمفعول ، والفاعل هو الله ، والقائم مقام الفاعل هو الجارّ والمجرور ، وقرأ ابن عامر : ( فزّع ) مبنياً للفاعل ، وفاعله ضمير يرجع إلى الله سبحانه ، وكلا القراءتين بتشديد الزاي ، وفعل معناه السلب ، فالتفزيع إزالة الفزع . وقرأ الحسن مثل قراءة الجمهور إلاّ أنه خفّف الزاي .

قال قطرب : معنى فزّع عن قلوبهم : أخرج ما فيها من الفزع ، وهو : الخوف . وقال مجاهد : كشف عن قلوبهم الغطاء يوم القيامة . والمعنى : أن الشفاعة لا تكون من أحد من هؤلاء المعبودين من دون الله من الملائكة ، والأنبياء والأصنام ، إلاّ أن الله سبحانه يأذن للملائكة والأنبياء ، ونحوهم في الشفاعة لمن يستحقها ، وهم على غاية النزع من الله كما قال تعالى : { وَهُمْ مّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ } [ الأنبياء : 28 ] ، فإذا أذن لهم في الشفاعة فزعوا لما يقترن بتلك الحالة من الأمر الهائل ، والخوف الشديد من أن يحدث شيء من أقدار الله ، فإذا سرّي عليهم { قَالُواْ } للملائكة فوقهم ، وهم الذين يوردون عليهم الوحي بالإذن { مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ } أي ماذا أمر به ، فيقولون لهم : قال : القول { الحق } وهو قبول شفاعتكم للمستحقين لها دون غيرهم { وَهُوَ العلى الكبير } فله أن يحكم في عباده بما يشاء ، ويفعل ما يريد . وقيل : هذا الفزع يكون للملائكة في كل أمر يأمر به الربّ . والمعنى : لا تنفع الشفاعة إلاّ من الملائكة الذين هم فزعون اليوم مطيعون لله ، دون الجمادات والشياطين . وقيل : إن الذين يقولون : ماذا قال ربكم هم المشفوع لهم ، والذين أجابوهم : هم الشفعاء من الملائكة والأنبياء . وقال الحسن وابن زيد ومجاهد : معنى الآية : حتى إذا كشف الفزع عن قلوب المشركين في الآخرة . قالت لهم الملائكة : ماذا قال ربكم في الدنيا ؟ قالوا : الحقّ ، فأقرّوا حين لا ينفعهم الإقرار . وقرأ ابن عمر وقتادة : ( فرّغ ) بالراء المهملة ، والغين المعجمة من الفراغ . والمعنى : فرغ الله قلوبهم : أي كشف عنها الخوف . وقرأ ابن مسعود : ( افرنقع ) بعد الفاء راء مهملة ثم نون ، ثم قاف ثم عين مهملة من الافرنقاع ، وهو التفرّق .

/خ27