فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا تُقۡسِطُواْ فِي ٱلۡيَتَٰمَىٰ فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ ٱلنِّسَآءِ مَثۡنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَۖ فَإِنۡ خِفۡتُمۡ أَلَّا تَعۡدِلُواْ فَوَٰحِدَةً أَوۡ مَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡۚ ذَٰلِكَ أَدۡنَىٰٓ أَلَّا تَعُولُواْ} (3)

قوله : { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِى اليتامى فانكحوا } وجه ارتباط الجزاء بالشرط أن الرجل كان يكفل اليتيمة لكونه ولياً لها ويريد أن يتزوجها ، فلا يقسط لها في مهرها ، أي : يعدل فيه ، ويعطيها ما يعطيها غيره من الأزواج ، فنهاهم الله أن ينكحوهنّ إلا أن يقسطوا لهنّ ، ويبلغوا بهنّ أعلى ما هو لهنّ من الصداق ، وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهنّ من النساء سواهنّ ، فهذا سبب نزول الآية كما سيأتي ، فهو نهي يخص هذه الصورة . وقال جماعة من السلف : إن هذه الآية ناسخة لما كان في الجاهلية ، وفي أوّل الإسلام من أن للرجل أن يتزوج من الحرائر ما شاء ، فقصرهم بهذه الآية على أربع ، فيكون وجه ارتباط الجزاء بالشرط أنهم إذا خافوا ألا يقسطوا في اليتامى ، فكذلك يخافون ألا يقسطوا في النساء ، لأنهم كانوا يتحرجون في اليتامى ، ولا يتحرجون في النساء ، والخوف من الأضداد ، فإن المخوف قد يكون معلوماً ، وقد يكون مظنوناً ، ولهذا اختلف الأئمة في معناه في الآية ، فقال أبو عبيدة : { خِفْتُمْ } بمعنى أيقنتم . وقال آخرون : { خِفْتُمْ } بمعنى ظننتم . قال ابن عطية : وهو الذي اختاره الحذاق ، وأنه على بابه من الظن لا من اليقين ، والمعنى : من غلب على ظنه التقصير في العدل لليتيمة ، فليتركها ، وينكح غيرها .

وقرأ النخعي وابن وثاب : " تُقْسِطُوا " بفتح التاء من قسط : إذا جار ، فتكون هذه القراءة على تقدير زيادة " لا " ، كأنه قال : وإن خفتم أن تقسطوا . وحكى الزجاج أن أقسط يستعمل استعمال قسط ، والمعروف عند أهل اللغة أن أقسط بمعنى عدل ، وقسط بمعنى جار . و«ما » في قوله : { مَا طَابَ } موصولة ، وجاء " بما " مكان " من " . لأنهما قد يتعاقبان ، فيقع كل واحد منهما مكان الآخر كما في قوله : { والسماء وَمَا بناها } [ الشمس : 5 ] { فَمِنْهُمْ من يَمْشِي على بَطْنِهِ } { وَمِنهُمْ من يَمْشِي على أَرْبَع } [ النور : 45 ] . وقال البصريون : إن «ما » تقع للنعوت كما تقع لما لا يعقل ، يقال ما عندك ؟ فيقال ظريف وكريم ، فالمعنى : فانكحوا الطيب من النساء ، أي : الحلال ، وما حرّمه الله ، فليس بطيب ، وقيل : إن «ما » هنا مدّية ، أي : ما دمتم مستحسنين للنكاح ، وضعفه ابن عطية . وقال الفراء : إن «ما » ها هنا مصدرية . قال النحاس : وهذا بعيد جداً . وقرأ ابن أبي عبلة : { فانكحوا منْ طَابَ } . وقد اتفق أهل العلم على أن هذا الشرط المذكور في الآية لا مفهوم له ، وأنه يجوز لمن لم يخف أن يقسط في اليتامى أن ينكح أكثر من واحدة ، و«من » في قوله : { منَ النساء } إما بيانية ، أو تبعيضية ، لأن المراد غير اليتائم . قوله : { مثنى وثلاث وَرُبَاعَ } في محل نصب على البدل من «ما » كما قاله أبو علي الفارسي . وقيل : على الحال ، وهذه الألفاظ لا تنصرف للعدل والوصفية ، كما هو مبين في علم النحو ، والأصل : انكحوا ما طاب لكم من النساء اثنتين اثنتين ، وثلاثاً ثلاثاً ، وأربعاً أربعاً .

وقد استدل بالآية على تحريم ما زاد على الأربع ، وبينوا ذلك بأنه خطاب لجميع الأمة ، وأن كل ناكح له أن يختار ما أراد من هذا العدد ، كما يقال للجماعة : اقتسموا هذا المال ، وهو ألف درهم ، أو هذا المال الذي في البدرة درهمين درهمين ، وثلاثة ثلاثة ، وأربعة أربعة . وهذا مسلم إذا كان المقسوم قد ذكرت جملته ، أو عين مكانه ، أما لو كان مطلقاً ، كما يقال : اقتسموا الدراهم ، ويراد به ما كسبوه ، فليس المعنى هكذا . والآية من الباب الآخر لا من الباب الأوّل . على أن من قال لقوم يقتسمون مالاً معيناً كثيراً اقتسموه مثنى وثلاث ورباع ، فقسموا بعضه بينهم درهمين درهمين ، وبعضه ثلاثة ثلاثة ، وبعضه أربعة أربعة ، كان هذا هو المعنى العربيّ ، ومعلوم أنه إذا قال القائل جاءني القوم مثنى ، وهم مائة ألف . كان المعنى أنهم جاؤوه اثنين اثنين ، وهكذا في جاء القوم ثلاث ورباع ، والخطاب للجميع بمنزلة الخطاب لكل فرد فرد ، كما في قوله تعالى : { اقتلوا المشركين } [ التوبة : 5 ] { أَقِيمُوا الصلاة } [ النور : 56 ] ، { آتَوا الزكاة } [ النور : 56 ] ونحوها ، فقوله : { فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ منَ النساء مثنى وثلاث وَرُبَاعَ } معناه لينكح كل فرد منكم ما طاب له من النساء اثنتين اثنتين ، وثلاثاً ثلاثاً ، وأربعاً أربعاً ، هذا ما تقتضيه لغة العرب .

فالآية تدلّ على خلاف ما استدلوا بها عليه ، ويؤيد هذا قوله تعالى في آخر الآية : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فواحدة } فإنه وإن كان خطاباً للجميع ، فهو بمنزلة الخطاب لكل فرد فرد . فالأولى أن يستدل على تحريم الزيادة على الأربع بالسنة لا بالقرآن .

وأما استدلال من استدّل بالآية على جواز نكاح التسع باعتبار الواو الجامعة ، فكأنه قال : انكحوا مجموع هذا العدد المذكور ، فهذا جهل بالمعنى العربي ، ولو قال : انكحوا اثنتين وثلاثاً وأربعا كان هذا القول له وجه ، وأما مع المجيء بصيغة العدل فلا ، وإنما جاء سبحانه بالواو الجامعة دون «أو » ، لأن التخيير يشعر بأنه لا يجوز إلا أحد الأعداد المذكورة دون غيره ، وذلك ليس بمراد من النظم القرآني . وقرأ النخعي ، ويحيى بن وثاب «ثلث وربع » بغير ألف .

قوله : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فواحدة } فانكحوا واحدة ، كما يدل على ذلك قوله : { فانكحوا مَا طَابَ } وقيل : التقدير فالزموا ، أو فاختاروا واحدة . والأول أولى ، والمعنى : فإن خفتم ألا تعدلوا بين الزوجات في القسم ، ونحوه ، فانكحوا واحدة ، وفيه المنع من الزيادة على الواحدة لمن خاف ذلك . وقرئ بالرفع على أنه مبتدأ والخبر محذوف . قال الكسائي : أي فواحدة تقنع . وقيل التقدير : فواحدة فيها كفاية ، ويجوز أن تكون واحدة على قراءة الرفع خبر مبتدأ محذوف ، أي : فالمقنع واحدة . قوله : { أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانكم } معطوف على واحدة ، أي : فانكحوا واحدة ، أو انكحوا ما ملكت أيمانكم من السراري ، وإن كثر عددهنّ ، كما يفيده الموصول . والمراد : نكاحهن بطريق الملك لا بطريق النكاح ، وفيه دليل على أنه لا حق للمملوكات في القسم ، كما يدل على ذلك جعله قسيماً للواحدة في الأمن من عدم العدل ، وإسناد الملك إلى اليمين ، لكونها المباشرة لقبض الأموال ، وإقباضها ، ولسائر الأمور التي تنسب إلى الشخص في الغالب ، ومنه :

إذا ما راية نصبت لمجد *** تلقاها عرابة باليمين

قوله : { ذلك أدنى أَلاَّ تَعُولُوا } أي : ذلك أقرب إلى ألا تعولوا ، أي : تجوروا ، من عال الرجل يعول : إذا مال وجار ، ومنه قولهم عال السهم عن الهدف : مال عنه ، وعال الميزان إذا مال ، ومنه :

قالوا اتبعنا رسول الله واطرحوا *** قول الرسول وعالوا في الموازين

ومنه قول أبى طالب :

بميزان صدق لا يغل شعيرة *** له شاهد من نفسه غير عائل

ومنه أيضاً :

فنحن ثلاثة وثلاث ذود *** لقد عال الزمان على عيال

والمعنى : إن خفتم عدم العدل بين الزوجات ، فهذه التي أمرتم بها أقرب إلى عدم الجور ، ويقال عال الرجل يعيل : إذا افتقر ، وصار عالة ، ومنه قوله تعالى :

{ وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً } [ التوبة : 28 ] ، ومنه قول الشاعر :

وما يدري الفقير متى غناه *** وما يدري الغنيّ متى يعيل

وقال الشافعي : { أَلاَّ تَعُولُوا } ألا تكثر عيالكم . قال الثعلبي : وما قال هذا غيره ، وإنما يقال أعال يعيل : إذا كثر عياله . وذكر ابن العربي أن عال تأتي لسبعة معان : الأوّل عال : مال . الثاني زاد . الثالث جار . الرابع افتقر الخامس أثقل ، السادس قام بمؤونة العيال ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : «وابدأ بمن تعول » ، السابع عال غلب ، ومنه عيل صبري ، قال : ويقال أعال الرجل : كثر عياله . وأما عال بمعنى كثر عياله ، فلا يصح ، ويجاب عن إنكار الثعلبي لما قاله الشافعي ، وكذلك إنكار ابن العربي لذلك ، بأنه قد سبق الشافعي إلى القول به زيد بن أسلم وجابر بن زيد ، وهما إمامان من أئمة المسلمين لا يفسران القرآن هما ، والإمام الشافعي بما لا وجه له في العربية . وقد أخرج ذلك عنهما الدارقطني في سننه . وقد حكاه القرطبي عن الكسائي ، وأبي عمر الدوري ، وابن الأعرابي ، وقال أبو حاتم : كان الشافعي أعلم بلغة العرب منا ، ولعله لغة . وقال الثعلبي : قال أستاذنا أبو القاسم بن حبيب : سألت أبا عمر الدوري عن هذا ، وكان إماماً في اللغة غير مدافع ، فقال : هي لغة حمير ، وأنشد :

وإن الموت يأخذ كل حي *** بلا شك وإن أمشي وعالا

أي : وإن كثرت ماشيته وعياله . وقرأ طلحة بن مصرف : «أَن لا تعيلوا » قال ابن عطية : وقدح الزجاج في تأويل عال من العيال بأن الله سبحانه قد أباح كثرة السراري ، وفي ذلك تكثير العيال ، فكيف يكون أقرب إلى أن لا يكثروا ، وهذا القدح غير صحيح ، لأن السراري إنما هي مال يتصرف فيه بالبيع ، وإنما العيال الحرائر ذوات الحقوق الواجبة . وقد حكى ابن الأعرابي أن العرب تقول : عال الرجل إذا كثر عياله ، وكفى بهذا .

وقد ورد عال لمعان غير السبعة التي ذكرها ابن العربي ، منها عال : اشتدّ وتفاقم ، حكاه الجوهري ، وعال الرجل في الأرض : إذا ضرب فيها ، حكاه الهروي ، وعال : إذا أعجز ، حكاه الأحمر ، فهذه ثلاثة معان غير السبعة والرابع عال كثر عياله ، فجملة معاني عال أحد عشر معنى .

/خ4