قوله : { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِى اليتامى فانكحوا } وجه ارتباط الجزاء بالشرط أن الرجل كان يكفل اليتيمة لكونه ولياً لها ويريد أن يتزوجها ، فلا يقسط لها في مهرها ، أي : يعدل فيه ، ويعطيها ما يعطيها غيره من الأزواج ، فنهاهم الله أن ينكحوهنّ إلا أن يقسطوا لهنّ ، ويبلغوا بهنّ أعلى ما هو لهنّ من الصداق ، وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهنّ من النساء سواهنّ ، فهذا سبب نزول الآية كما سيأتي ، فهو نهي يخص هذه الصورة . وقال جماعة من السلف : إن هذه الآية ناسخة لما كان في الجاهلية ، وفي أوّل الإسلام من أن للرجل أن يتزوج من الحرائر ما شاء ، فقصرهم بهذه الآية على أربع ، فيكون وجه ارتباط الجزاء بالشرط أنهم إذا خافوا ألا يقسطوا في اليتامى ، فكذلك يخافون ألا يقسطوا في النساء ، لأنهم كانوا يتحرجون في اليتامى ، ولا يتحرجون في النساء ، والخوف من الأضداد ، فإن المخوف قد يكون معلوماً ، وقد يكون مظنوناً ، ولهذا اختلف الأئمة في معناه في الآية ، فقال أبو عبيدة : { خِفْتُمْ } بمعنى أيقنتم . وقال آخرون : { خِفْتُمْ } بمعنى ظننتم . قال ابن عطية : وهو الذي اختاره الحذاق ، وأنه على بابه من الظن لا من اليقين ، والمعنى : من غلب على ظنه التقصير في العدل لليتيمة ، فليتركها ، وينكح غيرها .
وقرأ النخعي وابن وثاب : " تُقْسِطُوا " بفتح التاء من قسط : إذا جار ، فتكون هذه القراءة على تقدير زيادة " لا " ، كأنه قال : وإن خفتم أن تقسطوا . وحكى الزجاج أن أقسط يستعمل استعمال قسط ، والمعروف عند أهل اللغة أن أقسط بمعنى عدل ، وقسط بمعنى جار . و«ما » في قوله : { مَا طَابَ } موصولة ، وجاء " بما " مكان " من " . لأنهما قد يتعاقبان ، فيقع كل واحد منهما مكان الآخر كما في قوله : { والسماء وَمَا بناها } [ الشمس : 5 ] { فَمِنْهُمْ من يَمْشِي على بَطْنِهِ } { وَمِنهُمْ من يَمْشِي على أَرْبَع } [ النور : 45 ] . وقال البصريون : إن «ما » تقع للنعوت كما تقع لما لا يعقل ، يقال ما عندك ؟ فيقال ظريف وكريم ، فالمعنى : فانكحوا الطيب من النساء ، أي : الحلال ، وما حرّمه الله ، فليس بطيب ، وقيل : إن «ما » هنا مدّية ، أي : ما دمتم مستحسنين للنكاح ، وضعفه ابن عطية . وقال الفراء : إن «ما » ها هنا مصدرية . قال النحاس : وهذا بعيد جداً . وقرأ ابن أبي عبلة : { فانكحوا منْ طَابَ } . وقد اتفق أهل العلم على أن هذا الشرط المذكور في الآية لا مفهوم له ، وأنه يجوز لمن لم يخف أن يقسط في اليتامى أن ينكح أكثر من واحدة ، و«من » في قوله : { منَ النساء } إما بيانية ، أو تبعيضية ، لأن المراد غير اليتائم . قوله : { مثنى وثلاث وَرُبَاعَ } في محل نصب على البدل من «ما » كما قاله أبو علي الفارسي . وقيل : على الحال ، وهذه الألفاظ لا تنصرف للعدل والوصفية ، كما هو مبين في علم النحو ، والأصل : انكحوا ما طاب لكم من النساء اثنتين اثنتين ، وثلاثاً ثلاثاً ، وأربعاً أربعاً .
وقد استدل بالآية على تحريم ما زاد على الأربع ، وبينوا ذلك بأنه خطاب لجميع الأمة ، وأن كل ناكح له أن يختار ما أراد من هذا العدد ، كما يقال للجماعة : اقتسموا هذا المال ، وهو ألف درهم ، أو هذا المال الذي في البدرة درهمين درهمين ، وثلاثة ثلاثة ، وأربعة أربعة . وهذا مسلم إذا كان المقسوم قد ذكرت جملته ، أو عين مكانه ، أما لو كان مطلقاً ، كما يقال : اقتسموا الدراهم ، ويراد به ما كسبوه ، فليس المعنى هكذا . والآية من الباب الآخر لا من الباب الأوّل . على أن من قال لقوم يقتسمون مالاً معيناً كثيراً اقتسموه مثنى وثلاث ورباع ، فقسموا بعضه بينهم درهمين درهمين ، وبعضه ثلاثة ثلاثة ، وبعضه أربعة أربعة ، كان هذا هو المعنى العربيّ ، ومعلوم أنه إذا قال القائل جاءني القوم مثنى ، وهم مائة ألف . كان المعنى أنهم جاؤوه اثنين اثنين ، وهكذا في جاء القوم ثلاث ورباع ، والخطاب للجميع بمنزلة الخطاب لكل فرد فرد ، كما في قوله تعالى : { اقتلوا المشركين } [ التوبة : 5 ] { أَقِيمُوا الصلاة } [ النور : 56 ] ، { آتَوا الزكاة } [ النور : 56 ] ونحوها ، فقوله : { فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ منَ النساء مثنى وثلاث وَرُبَاعَ } معناه لينكح كل فرد منكم ما طاب له من النساء اثنتين اثنتين ، وثلاثاً ثلاثاً ، وأربعاً أربعاً ، هذا ما تقتضيه لغة العرب .
فالآية تدلّ على خلاف ما استدلوا بها عليه ، ويؤيد هذا قوله تعالى في آخر الآية : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فواحدة } فإنه وإن كان خطاباً للجميع ، فهو بمنزلة الخطاب لكل فرد فرد . فالأولى أن يستدل على تحريم الزيادة على الأربع بالسنة لا بالقرآن .
وأما استدلال من استدّل بالآية على جواز نكاح التسع باعتبار الواو الجامعة ، فكأنه قال : انكحوا مجموع هذا العدد المذكور ، فهذا جهل بالمعنى العربي ، ولو قال : انكحوا اثنتين وثلاثاً وأربعا كان هذا القول له وجه ، وأما مع المجيء بصيغة العدل فلا ، وإنما جاء سبحانه بالواو الجامعة دون «أو » ، لأن التخيير يشعر بأنه لا يجوز إلا أحد الأعداد المذكورة دون غيره ، وذلك ليس بمراد من النظم القرآني . وقرأ النخعي ، ويحيى بن وثاب «ثلث وربع » بغير ألف .
قوله : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فواحدة } فانكحوا واحدة ، كما يدل على ذلك قوله : { فانكحوا مَا طَابَ } وقيل : التقدير فالزموا ، أو فاختاروا واحدة . والأول أولى ، والمعنى : فإن خفتم ألا تعدلوا بين الزوجات في القسم ، ونحوه ، فانكحوا واحدة ، وفيه المنع من الزيادة على الواحدة لمن خاف ذلك . وقرئ بالرفع على أنه مبتدأ والخبر محذوف . قال الكسائي : أي فواحدة تقنع . وقيل التقدير : فواحدة فيها كفاية ، ويجوز أن تكون واحدة على قراءة الرفع خبر مبتدأ محذوف ، أي : فالمقنع واحدة . قوله : { أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانكم } معطوف على واحدة ، أي : فانكحوا واحدة ، أو انكحوا ما ملكت أيمانكم من السراري ، وإن كثر عددهنّ ، كما يفيده الموصول . والمراد : نكاحهن بطريق الملك لا بطريق النكاح ، وفيه دليل على أنه لا حق للمملوكات في القسم ، كما يدل على ذلك جعله قسيماً للواحدة في الأمن من عدم العدل ، وإسناد الملك إلى اليمين ، لكونها المباشرة لقبض الأموال ، وإقباضها ، ولسائر الأمور التي تنسب إلى الشخص في الغالب ، ومنه :
إذا ما راية نصبت لمجد *** تلقاها عرابة باليمين
قوله : { ذلك أدنى أَلاَّ تَعُولُوا } أي : ذلك أقرب إلى ألا تعولوا ، أي : تجوروا ، من عال الرجل يعول : إذا مال وجار ، ومنه قولهم عال السهم عن الهدف : مال عنه ، وعال الميزان إذا مال ، ومنه :
قالوا اتبعنا رسول الله واطرحوا *** قول الرسول وعالوا في الموازين
بميزان صدق لا يغل شعيرة *** له شاهد من نفسه غير عائل
فنحن ثلاثة وثلاث ذود *** لقد عال الزمان على عيال
والمعنى : إن خفتم عدم العدل بين الزوجات ، فهذه التي أمرتم بها أقرب إلى عدم الجور ، ويقال عال الرجل يعيل : إذا افتقر ، وصار عالة ، ومنه قوله تعالى :
{ وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً } [ التوبة : 28 ] ، ومنه قول الشاعر :
وما يدري الفقير متى غناه *** وما يدري الغنيّ متى يعيل
وقال الشافعي : { أَلاَّ تَعُولُوا } ألا تكثر عيالكم . قال الثعلبي : وما قال هذا غيره ، وإنما يقال أعال يعيل : إذا كثر عياله . وذكر ابن العربي أن عال تأتي لسبعة معان : الأوّل عال : مال . الثاني زاد . الثالث جار . الرابع افتقر الخامس أثقل ، السادس قام بمؤونة العيال ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : «وابدأ بمن تعول » ، السابع عال غلب ، ومنه عيل صبري ، قال : ويقال أعال الرجل : كثر عياله . وأما عال بمعنى كثر عياله ، فلا يصح ، ويجاب عن إنكار الثعلبي لما قاله الشافعي ، وكذلك إنكار ابن العربي لذلك ، بأنه قد سبق الشافعي إلى القول به زيد بن أسلم وجابر بن زيد ، وهما إمامان من أئمة المسلمين لا يفسران القرآن هما ، والإمام الشافعي بما لا وجه له في العربية . وقد أخرج ذلك عنهما الدارقطني في سننه . وقد حكاه القرطبي عن الكسائي ، وأبي عمر الدوري ، وابن الأعرابي ، وقال أبو حاتم : كان الشافعي أعلم بلغة العرب منا ، ولعله لغة . وقال الثعلبي : قال أستاذنا أبو القاسم بن حبيب : سألت أبا عمر الدوري عن هذا ، وكان إماماً في اللغة غير مدافع ، فقال : هي لغة حمير ، وأنشد :
وإن الموت يأخذ كل حي *** بلا شك وإن أمشي وعالا
أي : وإن كثرت ماشيته وعياله . وقرأ طلحة بن مصرف : «أَن لا تعيلوا » قال ابن عطية : وقدح الزجاج في تأويل عال من العيال بأن الله سبحانه قد أباح كثرة السراري ، وفي ذلك تكثير العيال ، فكيف يكون أقرب إلى أن لا يكثروا ، وهذا القدح غير صحيح ، لأن السراري إنما هي مال يتصرف فيه بالبيع ، وإنما العيال الحرائر ذوات الحقوق الواجبة . وقد حكى ابن الأعرابي أن العرب تقول : عال الرجل إذا كثر عياله ، وكفى بهذا .
وقد ورد عال لمعان غير السبعة التي ذكرها ابن العربي ، منها عال : اشتدّ وتفاقم ، حكاه الجوهري ، وعال الرجل في الأرض : إذا ضرب فيها ، حكاه الهروي ، وعال : إذا أعجز ، حكاه الأحمر ، فهذه ثلاثة معان غير السبعة والرابع عال كثر عياله ، فجملة معاني عال أحد عشر معنى .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.