فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱتَّقُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفۡسٖ وَٰحِدَةٖ وَخَلَقَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا وَبَثَّ مِنۡهُمَا رِجَالٗا كَثِيرٗا وَنِسَآءٗۚ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِي تَسَآءَلُونَ بِهِۦ وَٱلۡأَرۡحَامَۚ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلَيۡكُمۡ رَقِيبٗا} (1)

مقدمة السورة:

سورة النساء

هي مدنية كلها . قال القرطبي : إلا آية واحدة نزلت بمكة عام الفتح في عثمان بن طلحة الحجبي ، وهي قوله تعالى { إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها } على ما سيأتي إن شاء الله ، قال النقاش : وقيل : نزلت عند هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة ، وعلى ما تقدم عن بعض أهل العلم أن قوله تعالى { يا أيها الناس } حيثما وقع ، فإنه مكي يلزم أن يكون هذه السورة مكياً ، وبه قال علقمة وغيره . وقال النحاس : هذه الآية مكية . قال القرطبي : والصحيح الأول ، فإن في صحيح البخاري عن عائشة أنها قالت : ما نزلت سورة النساء إلا وأنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم . يعني قد بنى بها . ولا خلاف بين العلماء أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما بنى بعائشة بالمدينة ، ومن تبين أحكامها علم أنها مدنية لا شك فيها . قال : وأما من قال : { يا أيها الناس } مكي حيث وقع فليس بصحيح ، فإن البقرة مدنية وفيها { يا أيها الناس } في موضعين . وقد أخرج ابن الضريس في فضائله والنحاس في ناسخه وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال : نزلت سورة النساء بالمدينة ، وفي إسناده العوفي وهو ضعيف ، وكذا أخرجه ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير وزيد بن ثابت ، وأخرجه ابن المنذر عن قتادة .

وقد ورد في فضل هذه السورة ما أخرجه الحاكم في مستدركه عن عبد الله بن مسعود قال : إن في سورة النساء لخمس آيات ما يسرني أن لي بها الدنيا وما فيها { إن الله لا يظلم مثقال ذرة } الآية ، { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه } الآية ، و{ إن الله لا يغفر أن يشرك به } الآية ، { ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم } الآية . ثم قال : هذا إسناد صحيح إن كان عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود سمع من أبيه ، وقد اختلف في ذلك . وأخرجه عبد الرزاق عن معمر عن رجل عن ابن مسعود قال : خمس آيات من النساء هن أحب إلي من الدنيا جميعاً { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه } الآية { وإن تك حسنة يضاعفها } الآية { إن الله لا يغفر أن يشرك به } الآية { من يعمل سوءاً أو يظلم نفسه } الآية { والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم } الآية . ورواه ابن جرير . ثم روي من طريق صالح المري عن قتادة عن ابن عباس قال : ثمان آيات نزلت في سورة النساء هن خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت ، وذكر ما ذكره ابن مسعود ، وزاد { يريد الله ليبين لكم } الآية { والله يريد أن يتوب عليكم } الآية { يريد الله أن يخفف عنكم } الآية . وأخرج أحمد وابن الضريس ومحمد بن نصر والحاكم وصححه والبيهقي عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { من أخذ السبع فهو حبر } وأخرج البيهقي في الشعب عن واثلة بن الأسقع قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أعطيت مكان التوراة السبع الطوال والمئين كل سورة بلغت مائة فصاعدا " والمثاني كل سورة دون المئين وفوق المفصل . وأخرج أو يعلى وابن خزيمة وابن حبان والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن أنس قال : " وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة شيئا فلما أصبح قيل : يا رسول الله إن أثر الوجع عليك لبين ، قال : أما أني على ما ترون بحمد الله قد قرأت السبع الطوال " وأخرج أحمد عن حذيفة قال : " قمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ السبع الطوال في سبع ركعات " وأخرج عبد الرزاق عن بعض أهل النبي صلى الله عليه وسلم " أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ بالسبع الطوال في ركعة واحدة " . وأخرج الحاكم عن ابن عباس أنه قال : " سلوني عن سورة النساء فإني قرأت القرآن وأنا صغيرة " قال الحاكم صحيح علىشرط الشيخين ولم يخرجاه . وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف عنه قال : " من قرأ سورة النساء فعلم ما يحجب مما لا يحجب علم الفرائض " .

المراد بالناس : الموجودون عند الخطاب من بني آدم ، ويدخل من سيوجد بدليل خارجي ، وهو الإجماع على أنهم مكلفون بما كلف به الموجودون ، أو تغليب الموجودين على من لم يوجد ، كما غلب الذكور على الإناث في قوله : { اتقوا رَبَّكُمُ } لاختصاص ذلك بجمع المذكر . والمراد بالنفس الواحدة هنا : آدم . وقرأ ابن أبي عبلة ، «واحد » بغير هاء على مراعاة المعنى ، فالتأنيث باعتبار اللفظ ، والتذكير باعتبار المعنى . قوله : { وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا } قيل : هو معطوف على مقدر يدل عليه الكلام ، أي : خلقكم من نفس واحدة خلقها أولاً ، وخلق منها زوجها ، وقيل : على خلقكم ، فيكون الفعل الثاني داخلاً مع الأوّل في حيز الصلة . والمعنى : وخلق من تلك النفس التي هي عبارة عن آدم زوجها ، وهي حواء . وقد تقدم في البقرة معنى التقوى ، والربّ ، والزوج ، والبث ، والضمير في قوله : { مِنْهَا } راجع إلى آدم وحواء المعبر عنهما بالنفس ، والزوج . وقوله : { كَثِيراً } وصف مؤكد لما تفيده صيغة الجمع لكونها من جموع الكثرة وقيل : هو نعت لمصدر محذوف ، أي : بثاً كثيراً . وقوله : { وَنِسَاء } أي : كثيرة ، وترك التصريح به استغناء بالوصف الأوّل . قوله : { واتقوا الله الذى تَسَاءلُونَ بِهِ والأرحام } قرأ أهل الكوفة بحذف التاء الثانية ، وأصله تتساءلون تخفيفاً لاجتماع المثلين . وقرأ أهل المدينة ، وابن كثير ، وأبو عمرو ، وابن عامر بإدغام التاء في السين ؛ والمعنى : يسأل بعضكم بعضاً بالله والرحم ، فإنهم كانوا يقرنون بينهما في السؤال ، والمناشدة ، فيقولون : أسألك بالله والرحم ، وأنشدك الله والرحم ، وقرأ النخعي ، وقتادة ، والأعمش ، وحمزة : { والأرحام } بالجر . وقرأ الباقون بالنصب .

وقد اختلف أئمة النحو في توجيه قراءة الجر ، فأما البصريون ، فقالوا : هي لحن لا تجوز القراءة بها . وأما الكوفيون ، فقالوا هي قراءة قبيحة . قال سيبويه في توجيه هذا القبح : إن المضمر المجرور بمنزلة التنوين ، والتنوين لا يعطف عليه . وقال الزجاج ، وجماعة : بقبح عطف الاسم الظاهر على المضمر في الخفض إلا بإعادة الخافض كقوله تعالى { فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأرض } [ القصص : 81 ] وجوز سيبويه ذلك في ضرورة الشعر ، وأنشد :

فاليوم قرّبت تهجونا وتمدحنا *** فاذهب فما بك والأيام من عجب

ومثله قول الآخر :

تعلق في مثل السوارى سيوفنا *** وما بينها والكعب بهو نفانف

بعطف الكعب على الضمير في بينها . وحكى أبو علي الفارسي أن المبرد قال : لو صليت خلف إمام يقرأ : «واتقوا الله الذى تَسَاءلُونَ بِهِ والأرحام » بالجر ، لأخذت نعلي ، ومضيت . وقد ردّ الإمام أبو نصر القشيري ما قاله القادحون في قراء الجرّ ، فقال : ومثل هذا الكلام مردود عند أئمة الدين ، لأن القراءات التي قرأ بها أئمة القراء أثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم تواتراً ، ولا يخفى عليك أن دعوى التواتر باطلة ، يعرف ذلك من يعرف الأسانيد التي رووها بها ، ولكن ينبغي أن يحتج للجواز بورود ذلك في أشعار العرب ، كما تقدم ، وكما في قول بعضهم :

وحسبك والضحاك سيف مهند *** . . .

وقول الآخر :

وقد رام آفاق السماء فلم يجد *** له مصعداً فيها ولا الأرض مقعداً

وقول الآخر :

ما إن بها ولا الأمور من تلف *** . . .

وقول الآخر :

أكر على الكتيبة لست أدري *** أحتفي كان فيها أم سواها

فسواها في موضع جرّ عطفاً على الضمير في فيها ، ومنه قوله تعالى : { وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا معايش وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ برازقين } [ الحجر : 30 ] . وأما قراءة النصب ، فمعناها واضح جليّ ؛ لأنه عطف الرحم على الاسم الشريف ، أي : اتقوا الله واتقوا الأرحام فلا تقطعوها ، فإنها مما أمر الله به أن يوصل وقيل إنه عطف على محل الجار والمجرور في قوله { بِهِ } كقولك مررت بزيد وعمراً ، أي : اتقوا الله الذي تساءلون به ، وتتساءلون بالأرحام . والأوّل أولى . وقرأ عبد الله بن يزيد ، «والأرحام » بالرفع على الابتداء ، والخبر مقدّر ، أي : والأرحام صلوها ، أو والأرحام أهل أن توصل ، وقيل : إن الرفع على الإغراء عند من يرفع به ، ومنه قول الشاعر :

إن قوماً منهم عمير وأشبا *** هُ عمير ومنهم السفاح

لجديرون باللقاء إذا قا *** ل أخ النجدة السلاح السلاح

و { الأرحام } اسم لجميع الأقارب من غير فرق بين المحرم وغيره ، لا خلاف في هذا بين أهل الشرع ، ولا بين أهل اللغة . وقد خصص أبو حنيفة ، وبعض الزيدية الرحم بالمحرم ، في منع الرجوع في الهبة ، مع موافقتهم على أن معناها أعم ، ولا وجه لهذا التخصيص . قال القرطبي : اتفقت الملة على أن صلة الرحم واجبة ، وأن قطيعتها محرّمة ، انتهى . وقد وردت بذلك الأحاديث الكثيرة الصحيحة . والرقيب : المراقب ، وهي صيغة مبالغة ، يقال رقبت أرقب رقبة ورقباناً : إذا انتظرت .

/خ4