سورة ( ق ) سورة مكية ، وآياتها 45 آية ، نزلت بعد سورة المرسلات .
كان صلى الله عليه وسلم يخطب خطبة الجمعة بسورة ( ق ) ، حتى قالت النساء : ما حفظنا سورة ( ق ) إلا من خطبة النبي صلى الله عليه وسلم بها ، وهي سورة تحمل أصول التوحيد ، وتلفت النظر إلى دلائل القدرة في خلق السماء والأرض ، وآثار الله الملموسة في إنزال المطر وإنبات النبات ، وترشد إلى سنن الله في إهلاك الظالمين ، واستحقاق الوعيد للمكذبين ، وتجول بالإنسان داخل نفسه ، وتستعرض مشاهد القيامة ، وجزاء المتقين في الجنة وجزاء العصاة في النار .
وقد سلكت السورة في عرض معانيها أسلوبا رائعا أخاذا ، له سيطرته على النفس والحس ، وطريقته الفذة في هز أوتار القلوب .
سورة ( ق ) سورة رهيبة ، شديدة الوقع بحقائقها ، شديدة الإيقاع ببنائها التعبيري ، وصورها وظلالها وجرس فواصلها ، تأخذ على النفس أقطارها ، وتلاحقها في خطراتها وحركاتها ، وتتعقبها في سرها وجهرها ، وفي باطنها وظاهرها ، تتعقبها برقابة الله التي لا تدعها لحظة واحدة من المولد إلى الممات ، إلى البعث إلى الحشر إلى الحساب ، وهي رقابة شديدة دقيقة رهيبة ، تطبق على هذا المخلوق الإنساني الضعيف إطباقا كاملا شاملا ، فهو في القبضة التي لا تغفل عنه أبدا ، ولا تغفل من أمره دقيقا ولا جليلا ، ولا تفارقه كثيرا ولا قليلا ، كل نفس معدود ، وكل هاجسة معلومة ، وكل لفظ مكتوب ، وكل حركة محسوبة ، والرقابة الكاملة الرهيبة مضروبة في وساوس القلب ، كما هي مضروبة على حركة الجوارح ، ولا حجاب ولا ستار دون هذه الرقابة النافذة المطلعة على السر والنجوى اطلاعها على العمل والحركة ، في كل وقت وفي كل حال .
وكل هذه حقائق معلومة ، ولكنها تعرض في الأسلوب الذي يبديها وكأنها جديدة ، تروع الحس روعة المفاجأة ، وتهز النفس هزا ، وترجها رجا ، وتثير فيها رعشة الخوف ، وروعة الإعجاب ، ورجفة الصحو من الغفلة على الأمر المهول الرهيب .
وذلك كله إلى صور الحياة ، وصور الموت ، وصور البلى ، وصور البعث ، وصور الحشر ، وإلى إرهاص الساعة في النفس ، وتوقعها في الحس ، وإلى الحقائق الكونية المتجلية في السماء والأرض ، وفي الماء والنبات ، وفي التمر والطلع . 1
{ تبصرة وذكرى لكل عبد منيب } . ( ق : 8 ) .
تبدأ سورة ( ق ) بهذا الحرف المفرد : ق .
وقد بدأت بعض سور القرآن بهذه الأحرف المقطعة ، فمنها ما بدأ بحرف واحد مثل : { ص والقرآن ذي الذكر } . ومثل : { ق والقرآن المجيد } . ومثل : { ن والقلم وما يسطرون } .
ومنها ما بدأ بحرفين مثل : { طه } . ومثل : { يس } . ومثل : { حم } .
ومنها ما بدأ بثلاثة أحرف مثل : { ألر } . { ألم } . { طسم } .
ومنها ما بدأ بأربعة أحرف مثل : { المص } . { المر } .
ومنها ما بدأ بخمسة أحرف مثل : { كهيعص } . ومثل : { حم * عسق } .
هناك رأيان في معنى هذه الفواتح :
الرأي الأول : إنها مما استأثر الله تعالى بعلمه ، ولذلك نجد في تفسير الجلالين ، وهو تفسير مختصر : ق : الله أعلم بمراده به .
الرأي الثاني : أن لها معنى ، وقد ذهبوا في معناها مذاهب شتى :
1- فمنهم من قال : هي أسماء للسور التي بدئت بها .
2- ومنهم من قال : هي إشارة إلى أسماء الله تعالى أو صفاته ، وروى عن الضحاك في معنى ( ألر ) : أنا الله أرفع .
4- ومنهم من قال : هي حروف للتنبيه ، كالجرس الذي يقرع فينبه التلاميذ لدخول المدرسة .
5- ومنهم من قال : هي حروف للتحدي وبيان إعجاز القرآن .
6- وقيل : إن هذه الأحرف قد اشتملت على جميع المعاني التي ذكرها العلماء في تفسيرها ، فهي أسماء للسور ، وهي إشارة إلى أسماء الله تعالى وصفاته ، وهي للقسم ، وهي أدوات للتنبيه ، وهي حروف للتحدي والإعجاز ، وهي أيضا مما استأثر الله بعلمه .
هذه سورة مكية عنيت بسوق الحجج والأدلة على قدرة الله وعلى تأكيد البعث والجزاء .
وقد بدأت السورة بمواجهة المشركين ، وعرض أفكارهم وعجبهم أن يكون الرسول بشرا مثلهم ، كما أنهم أنكروا البعث والحشر بعد الموت ، واستدلوا بدليل ساذج هو تفسخ الأجسام وصيرورتها ترابا .
والقرآن يوضح قدرة الله وعلمه الشامل بما تأكله الأرض من أجسامهم ، فهم لا يذهبون ضياعا إذا ماتوا وكانوا ترابا ، أما إعادة الحياة إلى هذا التراب فقد حدثت من قبل ، وهي تحدث من حولهم في عمليات الإحياء المتجددة التي لا تنتهي . ( الآيات : 1-5 ) .
ويلفت القرآن نظر الناس إلى آثار قدرة الله ، فالسماء سقف مرفوع ، والأرض بساط تحفظه الجبال ، وتجري فيه الأنهار ، وتنمو فيه صنوف النبات ، والمطر ينزل فيبعث البركة والنماء ، وينبت الحب والنخيل والأعناب ، ويبعث الحياة في الزرع والأرض ، وبمثل هذه القدرة العالية يحيي الله الموتى ويبعثهم من قبورهم ، بعد جمع ما تفرق من أجزائهم الأصلية . ( الآيات : 6-11 ) .
ويلفت القرآن النظر إلى عبرة التاريخ ويذكر الناس بما أصاب قوم نوح من الغرق ، وما أصاب المكذبين من الوعيد والهلاك ، ومنهم أصحاب الرس ( والرس هي البئر ) وأصحاب الرس بقية من ثمود ، كانت لهم بئر فكذبوا نبيهم ودسوه في البئر . وأصحاب الأيكة : وهم قوم شعيب ، والأيكة : الغيضة ، وهي الشجر الملتف الكثيف . وقوم تبع ، وتبع لقب لملوك حمير باليمن .
إن هؤلاء الأقوام أنكروا الرسالة الإلهية ، وكذبوا رسل الله إليهم ، فاستحقوا عذاب السماء ، وهذا العذاب يصيب كل مكذب بالله وأنبيائه . ( الآيات : 12-15 ) .
خلق الله الإنسان بيده ، ونفخ فيه من روحه ، وصانع الآلة أدرى بتركيبها وأسرارها ، فهو سبحانه عليم بخفايا الصدور ، مطلع على هواجس النفوس ، قريب من عباده لا يغيب عنهم أينما كانوا ، ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة ، وهناك ملائكة تسجل أعمال العباد ، نؤمن بها ونفوض حقيقة المراد منها إلى الله تعالى ، ولقد عرفنا نحن البشر وسائل للتسجيل ، تسجل الحركة والنبرة ، كالأشرطة الناطقة وأشرطة السينما والتليفزيون ، فليس ببعيد على الله أن يجعل من ملائكته شهود عيان يحصون على الإنسان أقواله وأفعاله بالحق والعدل . ( الآيات : 16-18 ) .
قال تعالى : { كراما كاتبين * يعلمون ما تفعلون } . ( الانفطار : 11 ، 12 ) .
تحدثت السورة عن البعث والحشر ، ولفتت الأنظار إلى آثار الله في الآفاق ، وإلى سنته في التاريخ ، وإلى عجيب صنعه في حنايا البشرية . ومن إعجاز القرآن أنه ينتقل بالمشاهد من الماضي إلى الحاضر ، ويلون في أسلوب العرض ، ويعرض النفس الإنسانية لسائر المؤثرات ، رغبة في الهداية والإصلاح . قال تعالى : { وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا } . ( طه : 113 ) .
وقد عرضت سورة ( ق ) لمشاهد القيامة ، وفي مقدمتها حضور سكرة الموت فجأة بلا مقدمات ، والموت طالب لا يمل الطلب ، ولا يبطئ الخطأ ولا يخلف الميعاد ، { ذلك ما كنت منه تحيد } . ( ق : 19 ) . أي : تهرب وتفزع ، والآن تعلم أنه حق لا مهرب منه ولا مفر ، وتنتقل الآيات من سكرة الموت إلى وهلة الحشر وهول الحساب ، وهي مشاهد تزلزل الكبرياء الجامح ، وتحارب الغرور والطغيان ، وتدعو للتقي والإيمان ، فملك الموت ينفخ في الصور ، فيقوم الناس من القبور ويهرع الجميع إلى الحساب ، وتأتي كل نفس ومعها سائق يسوقها وشاهد يشهد عليها ، وقد يكونان الملكين الكاتبين الحافظين لها في الدنيا ، وقد يكونان غيرهما ، والأول أرجح ، عندئذ يتقين المنكر ، ويرى البعث والحشر والجزاء مشاهدا أمامه ، ينظر إليه ببصر حديد نافذ لا يحجبه حجاب من الغفلة أو التهاون . ( الآيات : 19-22 ) .
ويشتد غضب الجبار على العصاة المعاندين ، فيأمر الله الملكين -السائق والشهيد- أن يلقيا في النار كل كفور عنيد ، مناع للخير متجاوز للحدود شاك في الدين ، الذي جعل مع الله إلها آخر ، فاستحق العذاب الشديد .
ويشتد الخصام بين الشيطان وأتباعه من العصاة ، يحاول كل أن يتنصل من تبعة جرائمه ، وينتهي الحوار بين المجرمين بظهور جهنم تتلمظ غيظا على من عصا الله ، ويلقى فيها العصاة ، ولكنها تزداد نهما وشوقا لعقاب المخالفين ، وتقول في كظة الأكول النهم : { هل من مزيد } . ( الآيات : 24-30 ) .
وعلى الضفة الأخرى من هذا الهول مشهد آخر وديع أليف رضّى جميل ، إنه مشهد الجنة تقرب من المتقين حتى تتراءى لهم من قريب ، مع الترحيب والتكريم . ( الآيات : 31-35 ) .
في الآيات الأخيرة من السورة ( الآيات : 38-45 ) نجد ختاما مؤكدا للمعاني السابقة ، كأنه الإيقاع الأخير في اللحن ، يعيد أقوى نغماته في لمس سريع ، فيه لمسة التاريخ ومصارع الغابرين ، وفيه لمسة الكون المفتوح وكتابه المبين ، وفيه لمسة البعث والحشر في مشهد جديد ، ومع هذه اللمسات التوجيه الموحي للمشاعر والقلوب : { فاصبر على ما يقولون وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل الغروب } . ( ق : 39 ) . وطلوع الشمس وغروبها ومشهد الليل الذي يعقب الغروب كلها ظواهر مرتبطة بالسماوات والأرض ، والقرآن يربط إليها التسبيح والحمد والسجود ، ويضم إليها الصبر والأمل في الله القوي القادر ، فعليك يا محمد أن تبلغ القرآن للناس علهم يتعظون أو يخافون : { نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد } . ( ق : 45 ) . وفي هذا تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم ، وتثبيت لفؤاده ، وتهديد ووعيد للعصاة والكافرين .
مقصود سورة ( ق ) : إثبات النبوة للرسول صلى الله عليه وسلم ، وبيان حجة التوحيد ، والإخبار عن إهلاك القرون الماضية ، وعلم الحق تعالى بضمائر الخلق وأسرارهم ، وذكر الملائكة الموكلين على الخلق المشرفين على أقوالهم ، وذكر بعث القيامة ، وذل العصاة يومئذ ، ومناظرة المنكرين بعضهم بعضا في ذلك اليوم ، وتغيظ الجحيم على أهلها ، وتشرف الجنة بأهلها ، والخبر عن تخليق السماء والأرض ، وذكر نداء إسرافيل بنفخه في الصور ، وتكليف الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعظ الخلق بالقرآن المجيد2 .
ق : حروف افتتح الله بها بعض السور للتحدي والإعجاز ، وجذب الانتباه ، كالجرس الذي يقرع فيتنبه التلاميذ إلى دخول المدرسة .
والقرآن المجيد : المجيد ذي المجد والشرف على سائر الكتب ، لكثرة ما فيه من الخير الدنيوي والأخروي .
حروف بدأ الله بها بعض السور للتحدي والإعجاز ، وبيان أن القرآن مكون من حروف عربية تنطقون بها ، وكثيرا ما يأتي ذكر القرآن بلفظه أو بمحتواه بعد هذه الأحرف ، مما يدل على أن من أهدافها التحدي بهذا الكتاب ، والتنبيه إلى أهميته وفضله ، وهذه الأحرف :
1- منها ما هو مكون من حرف واحد ، مثل : ق . ن . ص .
2- منها ما هو مكون من حرفين ، مثل : حم . طه . يس .
3- منها ما هو مكون من ثلاثة أحرف ، مثل : طسم . الر . الم .
4- منها ما هو مكون من أربعة أحرف ، مثل : المص ، المر .
5- منها ما هو مكون من خمسة أحرف ، مثل : كهيعص . حم * عسق .
وقد أقسم الله تعالى بأمور كثيرة لبيان فضلها ، أو لفت الأنظار إليها ، أو بيان العظمة الإلهية في خلقها وتسخيرها ، ومما أقسم الله به ما يأتي مفردا أي مرة واحدة ، وأحيانا يقسم بأمرين ، وأحيانا بثلاثة أمور ، وأحيانا بأربعة أمور ، وبخمسة أمور ، ومثل ذلك ما يأتي :
1- القسم بأمر واحد مثل : { والعصر } ( العصر : 1 ) ، ومثل : { والنجم إذا هوى } . ( النجم : 1 ) .
2- القسم بأمرين مثل : { والضحى * والليل إذا سجى } . ( الضحى : 1 ، 2 ) ، ومثل : { والسماء والطارق } . ( الطارق : 1 ) .
3- القسم بثلاثة أمور ، مثل : { والصافات صفا * فالزاجرات زجرا * فالتاليات ذكرا * إن إلهكم لواحد } . ( الصافات : 1-4 ) .
4- القسم بأربعة أمور ، مثل : { والذاريات ذروا * فالحاملات وقرا * فالجاريات يسرا * فالمقسمات أمرا * إنما توعدون لصادق * وإن الدين لواقع } . ( الذاريات : 1-6 ) .
ومثل : { والسماء ذات البروج * واليوم الموعود * وشاهد ومشهود } . ( البروج : 1-3 ) .
ومثل : { والتين والزيتون * وطور سنين * وهذا البلد الأمين * لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم } . ( التين : 1-4 ) .
5- القسم بخمسة أمور مثل : { والطور * وكتاب مسطور * في رق منشور * والبيت المعمور * والسقف المرفوع * والبحر المسجور } . ( الطور : 1-6 ) .
وفي ( والمرسلات . . . ) ، وفي ( والنازعات ) ، وفي ( والفجر . . . ) .
ولم يقسم بأكثر من خمسة أشياء إلا في سورة واحدة ، وهي : { والشمس وضحاها * والقمر إذا تلاها * والنهار إذا جلاها * والليل إذا يغشاها * والسماء وما بناها * والأرض وما طحاها * ونفس وما سواها * فألهمها فجورها وتقواها * قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساها } . ( الشمس : 1-10 ) .
وأقسم بالقرآن صاحب المجد والشرف ، والكرم والسعة ، الذي يجد فيه كل طالب حاجته ، والذي هيمن على الكتب السماوية السابقة ، ووضح صوابها ، وما فيها من تحريف أو تبديل ، والذي ختم الله به الكتب ، وجعله مشتملا على أصول التشريع والآداب ، والقصص والتاريخ ، وسنن الكون ، ونواميس الوجود ، وأخبار القيامة والبعث والحشر ، والجزاء والعقاب ، والجنة والنار ، مع سلامة اللفظ ورشاقة المعنى ، وقوة السبك ، وجزالة الأداء ، مع الاشتمال على صنوف الإعجاز ، وعجز العلوم مع تقدمها عن أن تنقض أي حكم من أحكامه ، واشتماله على الإعجاز الغيبي ، والإعجاز التشريعي ، والإعجاز البلاغي ، والإعجاز اللفظي ، والإعجاز العلمي ، وموافقته لكل زمان ومكان ، وهو ناسخ لما سبقه ، غير منسوخ إلى يوم الدين .
قال تعالى : { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } . ( الحجر : 9 ) .
ومعنى الآية : أقسم ب ق ، وأقسم بالقرآن المجيد ، وجواب القسم محذوف دل عليه ما بعده ، وتقديره : إنك أيها الرسول لصادق فيما تبلغه عن ربك من أن البعث حق ، والحساب حق ، والجزاء حق ، ولكن الجاحدين لم يؤمنوا بذلك .
وهي مكية وأطلق الجمهور ذلك وفي التحرير عن ابن عباس وقتادة أنها مكية إلا قوله تعالى : { ولقد خلقنا السماوات والأرض } الآية فهي مدنية نزلت في اليهود وآيها خمس وأربعون بالأجماع ولما أشار سبحانه في آخر السورة السابقة إلى أن إيمان أولئك الأعراب لم يكن إيمانا حقا ويتضمن ذلك إنكار النبوة وإنكار البعث افتتح عز وجل هذه السورة بما يتعلق بذلك وكان صلى الله تعالى عليه وسلم كثيرا ما يقرؤها في صلاة الفجر كما في حديث مسلم وغيره عن جابر بن سمرة وفي رواية ابن ماجة وغيره عن قبطة بن مالك أنه عليه الصلاة والسلام كان يقرؤها في الركعة الأولى من صلاة الفجر وأخرج أحمد ومسلم وأبو داود وابن ماجه والترمذي والنسائي عن أبي واقد الليثي أنه صلى الله تعالى عليه وسلم كان يقرأ في العيد بقاف واقتربت وأخرج أبو داود والبيهقي وابن ماجه وابن أبي شيبة عن أم هشام ابنة حارثة قالت : ما أخذت { ق والقرآن المجيد } إلا من في رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان يقرأ بها في كل جمعة على المنبر إذا خطب الناس وفي حديث ابن مردويه عن أبي العلاء رضي الله تعالى عنه مرفوعا تعلموا ق والقرآن المجيد وكل ذلك يدل على أنها من أعظم السور .
{ ق والقرءان المجيد } ذي المجد والشرف من باب النسب كلابن وتامر وإلا فالمعروف وصف الذات الشريفة به ، وصنيع بعضهم ظاهر في اختيار هذا الوجه ، وأورد عليه أن ذلك غير معروف في فعيل كما قاله ابن هشام في { إن رحمت الله قريب } [ الأعراف : 56 ] وأنت تعلم أن من حفظ حجة على من لم يحفظ ، وشرفه على هذا بالنسبة لسائر الكتب ، أما غير الإلهية فظاهر ، وأما الإلهية فلا عجازه وكونه غير منسوخ بغيره واشتماله مع إيجازع على أسرار يضيق عنها كل واحد منها ، وقال الراغب : المجد السعة في الكرم وأصله مجدت الإبل إذا وقعت في مرعى كثير واسع ، ووصف القرآن به لكثرة ما يتضمن من المكارم الدنيوية والأخروية ، ويجوز أن يكون وصفه بذلك لأنه كلام المجيد فهو وصف بصفة قائله . فالإسناد مجازي كما في القرآن الحكيم أو لأن من علم معانيه وعمل بما فيه مجد عند الله تعالى وعند الناس ، فالكلام بتقدير مضاف حذف فارتفع الضمير المضاف إليه ، أو فعيل فيه بمعنى مفعل كبديع بمعنى مبدع لكن في مجيء فعيل وصفا من الإفعال كلام ، وأكثر أهل اللغة والعربية لم يثبته ، وأكثر ما تقدم في قوله تعالى : { ص والقرءان ذي الذكر } [ ص : 1 ] يجري ههنا حتى أنه قيل : يجوز أن يكون { ق } أمراً من مفاعلة قفا أثره أي تبعه ، والمعنى اتبع القرآن واعلم بما فيه ، ولم يسمع مأثوراً ، ومثله ما قيل : إنه أمر بمعنى قف أي قف عندما شرع لك ولا تجاوزه .
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس قال : خلق الله تعالى من وراء هذه الأرض بحراً محيطاً بها ومن وراء ذلك جبلاً يقال له قاف السماء الدنيا مترفرفة عليه ثم خلق من وراء ذلك الجبل أرضاً مثل تلك الأرض سبع مرات ثم خلق من وراء ذلك بحراً محيطاً بها ثم خلق وراء ذلك جبلاً يقال له قاف السماء الثانية مترفرفة عليه حتى عد سبع أرضين وسبعة أبحر وسبعة أجبل ثم قال : وذلك قوله تعالى : { والبحر يمده سبعة أبحر } [ لقمان : 27 ] وأخرج ابن أبي الدنيا في العقوبات » وأبو الشيخ عنه أيضاً أنه قال : خلق الله تعالى جبلاً يقال له قاف محيطاً بالعالم وعروقه إلى الصخرة التي عليها الأرض فإذا أراد الله تعالى أن يزلزل قرية أمر ذلك الجبل فحرك العرق الذي يلي تلك القرية فيزلزلها ويحركها فمن ثم تحرك القرية دون القرية . وأخرج ابن المنذر . وأبو الشيخ في العظمة » . والحاكم . وابن مردويه عن عبد الله بن بريدة أنه قال في الآية : قاف جبل من زمرد محيط بالدنيا عليه كنفا السماء . وأخرج عبد الرزاق عن مجاهد أنه أيضاً قال : هو جبل محيط بالأرض ، وذهب القرافي إلى أن جبل قاف لا وجود له وبرهن عليه بما برهن ثم قال : ولا يجوز اعتقاد ما لا دليل عليه .
وتعقبه ابن حجر الهيتمي فقال : يرد ذلك ما جاء عن ابن عباس من طرق خرجها الحفاظ وجماعة منهم ممن التزموا تخريج الصحيح ، وقول الصحابي ذلك ونحوه مما لا مجال للرأي فيه حكمه حكم المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن وراء أرضنا بحراً محيطاً ثم جبلاً يقال له قاف إلى آخر ما تقدم ، ثم قال : وكما يندفع بذلك قوله : لا وجود له يندفع قوله : ولا يجوز اعتقاد الخ لأنه إن أراد بالدليل مطلق الإمارة فهذه عليه أدلة أو الإمارة القطعية فهذا مما يكفي فيه الظن كما هو جلي انتهى ، والذي أذهب إليه ما ذهب إليه القرافي من أنه لا وجود لهذا الجبل بشهادة الحس فقد قطعوا هذه الأرض برها وبحرها على مدار السرطان مرات فلم يشاهدوا ذلك ، والطعن في صحة هذه الأخبار وإن كان جماعة من رواتها ممن التزم تخريج الصحيح أهون من تكذيب الحس ، وليس ذلك من باب نفي الوجود لعدم الوجدان كما لا يخفى على ذوي العرفان ، وأمر الزلزلة لا يتوقف على ذلك الجبل بل هي من الأبخرة وطلبها الخروج مع صلابة الأرض وإنكار ذلك مكابرة عند من له أدنى عرق من الإنصاف والله تعالى أعلم .
واختلف في جواب القسم فقيل : محذوف يشعر به الكلام كأنه قيل : والقرآن المجيد إنا أنزلناه لتنذر به الناس ، وقدره أبو حيان إنك جئتهم منذراً بالبعث ونحو ما قيل : هو إنك لمنذر ؛ وقيل : ما ردوا أمرك بحجة .
وقال الأخفش : والمبرد . والزجاج : تقديره لتبعثن ، وقيل : هو مذكور ، فعن الأخفش { قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأرض مِنْهُمْ } [ ق : 4 ] وحذفت اللام لطول الكلام ، وعنه أيضاًوعن ابن كيسان { ما يلفظ من قول } [ ق : 18 ] وقيل : { إن في ذلك لذكرى } [ ق : 37 ] وهو اختيار محمد بن علي الترمذي ، وقيل : { مَا يُبَدَّلُ القول لَدَىَّ } [ ق : 29 ] وعن نحاة الكوفة هو قوله تعالى : { بَلْ عَجِبُواْ أَن جَاءهُمْ مُّنذِرٌ مّنْهُمْ }
ومنهم من يجعل { ق } إشارة إلى الوجود الحق المحيط بجميع الموجودات { والله من ورائهم محيط } [ ق : 20 ] وقيل : هو إشارة إلى مقامات القرب ، وقيل : غير ذلك ، وطبق بعضهم سائر آيات السورة على ما في الأنفس وهو مما يعلم بأدنى التفات ممن له أدنى ممارسة لكلامهم والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل .