تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته [إخفاء]  
{ٱلنَّبِيُّ أَوۡلَىٰ بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ مِنۡ أَنفُسِهِمۡۖ وَأَزۡوَٰجُهُۥٓ أُمَّهَٰتُهُمۡۗ وَأُوْلُواْ ٱلۡأَرۡحَامِ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلَىٰ بِبَعۡضٖ فِي كِتَٰبِ ٱللَّهِ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُهَٰجِرِينَ إِلَّآ أَن تَفۡعَلُوٓاْ إِلَىٰٓ أَوۡلِيَآئِكُم مَّعۡرُوفٗاۚ كَانَ ذَٰلِكَ فِي ٱلۡكِتَٰبِ مَسۡطُورٗا} (6)

{ النبيء أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا كان ذلك في الكتاب مسطورا( 6 ) وإذ أخذنا من النبيئين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى وابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا( 7 ) ليسئل الصادقين عن صدقهم وأعد للكافرين عذابا أليما( 8 ) }

المفردات :

أولى : أحق .

أمهاتهم : مثل أمهاتهم في التحريم واستحقاق التعظيم .

أولوا الأرحام : أصحاب القرابات .

بعضهم أولى ببعض : بعضهم أحق ببعض في التوارث .

إلى أوليائكم : إلى حلفائكم من المهاجرين والأنصار .

معروفا : برا كالتوصية .

كان ذلك : كان ما ذكر من الأحكام في الآيات السابقة .

مسطورا : في اللوح المحفوظ .

التفسير :

{ النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين . . . }

سورة الأحزاب نزلت في السنة الخامسة للهجرة ، وكانت أوضاع المسلمين قد استقرت بعض الشيء ولذلك اشتملت على تشريعات مناسبة ، فقد كان التوارث في بداية الهجرة على أخوة الدين حيث هاجر المسلمون من مكة فرارا بدينهم وتركوا أموالهم وأزواجهم وملاعب الصبا وأوطانهم الحبيبة إيثارا لدين الله ودعوته وكان الأنصار أهل المدينة نعم الأهل والعشيرة ، أحبوا المهاجرين ورغبوا في إكرامهم وأخوتهم فما نزل مهاجري على أنصاري إلا بقرعة ، إذ كان عدد المهاجرين أقل من عدد الأنصار وبهذه الأخوة في الإسلام كان الأخ يرث أخاه إذا مات ويعقل عنه إذا جنى ، وكانت أخوة حقيقية ثبتت دعائم الإسلام وباركت فكرته في النفوس قال تعالى : وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم . ( الأنفال : 63 ) .

وبعد أن جاءت الغنائم وعادت الأمور إلى وضعها الطبيعي عاد الميراث على طبيعته فأصبح التوارث على القرابة .

ومعنى الآية : النبي محمد صلى الله عليه وسلم يبلع عن الله وهو القدوة العملية للمسلمين وهو حامل وحي السماء فالواجب على المسلمين محبته وطاعته فهو أولى بالطاعة من أبنائهم وأمهاتهم وأولى بالمحبة من حبهم لأنفسهم كما ينبغي أن يكون حكمه نافذا فيهم مقدما على ما يختارون لأنفسهم .

قال تعالى : فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما . ( النساء : 65 ) .

{ وأزواجه أمهاتهم . . . } أي هن بمنزلة الأمهات في الحرمة والاحترام والتوقير والإكرام وفيما عدا ذلك هن كالأجنبيات فلا يحل النظر إليهن ولا إرثهن ولا نحو ذلك .

{ وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين . . . } وأصحاب القرابة أولى بالتوارث فيما بينهم فذلك حق موجود ثابت في كتاب الله تعالى أو في اللوح المحفوظ وهذا الحق – وهو التوارث بين الأقارب- أولى من التوارث بين المؤمنين بحق الدين والمهاجرين بحق الهجرة .

لقد كان التوارث بين المهاجرين والأنصار أمرا عارضا دعت إليه ظروف الهجرة فلما استقرت الأحوال عاد التشريع إلى الأصل وهو التوارث بحق القرابة ، وهذا التوارث بحق القرابة هو الأصل في كتاب الله وقد عدل عنه لضرورة طارئة ، فلما استقرت الأحوال عاد التشريع إلى الأصل ثم استثنى من الميراث بحق القرابة أن يتطوع إنسان فيوصي لإخوانه في الدين أو لأي فرد من الناس فيجب تنفيذ الوصية وتقديمها على الميراث وكذلك الدين يقدم على الميراث .

حيث قال تعالى في سورة النساء : من بعد وصية يوصى بها أو دين . . . ( النساء : 12 ) .

{ إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا كان ذلك في الكتاب المسطور . . . } أي إن التوارث على القرابة لا يمنعكم من ان تقدموا لأوليائكم من الأنصار والمهاجرين وغيرهم معروفا وبرا سوى الميراث كالوصية والهبة والهدية والصدقة وما تقدم من الأحكام في هذه السورة كان مسطورا ومسجلا في كتاب الله وهو القرآن أو اللوح المحفوظ فهو واجب التنفيذ والطاعة والامتثال .

ملاحق بالآية

1- آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أبي بكر وخارجة بن زيد وآخى بين عمر وشخص آخر وآخى بين الزبير وكعب بن مالك ، فكان التوارث على هذه الأخوة حتى نسخ الله ذلك بقوله تعالى : وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين .

2- روى البخاري عن أبي هريرة قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة اقرءوا إن شئتم : النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم . . . فأيما مؤمن ترك مالا فلترثه عصبته من كانوا ومن ترك دينا أو ضياعا ( عيالا ) فليتأنى فأنا مولاه " . 15

قال العلماء : كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يصلي على أحد وعليه دين فلما فتح الله عليه الفتوح قال : " أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن توفي وعليه دين فعلي قضاؤه ومن ترك مالا فلورثته " . 16

3- استنبط الفقهاء من هذا الحديث السابق أنه يجب على الإمام أن يقضي من بيت المال دين الفقراء اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم .

4-المراد من كتاب الله اللوح المحفوظ أو القران الكريم ومن لفظ المؤمنين الأنصار ومن لفظ ( المعروف ) الوصية أو الهداية أو الهبة أو ما أشبه ذلك ، ومن ( الأولياء ) الأصدقاء من المؤمنين ويدخل فيه المهاجرون والأنصار فإن الوصية تصح لكل مؤمن ومؤمنة ، وتقدم على الميراث بالقرابة والمصاهرة .

 
التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز [إخفاء]  
{ٱلنَّبِيُّ أَوۡلَىٰ بِٱلۡمُؤۡمِنِينَ مِنۡ أَنفُسِهِمۡۖ وَأَزۡوَٰجُهُۥٓ أُمَّهَٰتُهُمۡۗ وَأُوْلُواْ ٱلۡأَرۡحَامِ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلَىٰ بِبَعۡضٖ فِي كِتَٰبِ ٱللَّهِ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُهَٰجِرِينَ إِلَّآ أَن تَفۡعَلُوٓاْ إِلَىٰٓ أَوۡلِيَآئِكُم مَّعۡرُوفٗاۚ كَانَ ذَٰلِكَ فِي ٱلۡكِتَٰبِ مَسۡطُورٗا} (6)

قوله تعالى : { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا }

يبين الله م كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من بالغ الشفقة والرحمة بأمته وما كان عليه من شديد الحرص عليهم والنصح لهم . لا جرم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشد العالمين حدبا ورأفة واهتماما بالمسلمين ، بل بالبشرية كافة . وهو عليه الصلاة والسلام حريص على هداية الناس وإيمانهم ؛ لكي يستقيموا وتصلح حالهم ، فتكتب لهم النجاة والسلامة والصلاح في الدنيا والآخرة ؛ فهو بذلك أولى بالمؤمنين من أنفسهم فضلا عن كونه أولى بهم من غيرهم ، فوجب على المسلمين بذلك أن يطيعوه فوق طاعتهم لأنفسهم ؛ وأن يقدموه فيما دعاهم إليه ، ويؤخروا ما دعتهم إليه أنفسهم ، وأن يحبوه أعظم الحب أكثر من حبهم أنفسهم . وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكونَ أحبَّ إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين " وكذلك جاء في الصحيح أن عمر ( رضي الله عنه ) قال : يا رسول الله والله لأنت أحب إليّ من كل شيء إلا من نفسي فقال صلى الله عليه وسلم : " لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك " فقال : يا رسول الله لأنت أحبُّ إلي من كل شيء حتى من نفسي . فقال صلى الله عليه وسلم : " الآن يا عمر " .

وروى البخاري عن أبي هريرة ( رضي الله عنه ) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة . اقرؤوا إن شئتم { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ } فأيما مؤمن ترك مالا فليرثه عصبته من كانوا . وإن ترك دينا أو ضياعا فليأتني فأنا مولاه " .

وأخرج الإمام أحمد عن جابر بن عبد الله ( رضي الله عنه ) عن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول : " أنا أولى مؤمن من نفسه ، فأيما رجل مات وترك دينا فإليّ ، ومن ترك مالا فهو لورثته " .

قوله : { وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } ذلك تشريف من الله لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم ؛ إذ جعلهن أمهات المؤمنين . وذلك في وجوب التوقير والاحترام والإعظام وحرمة النكاح على الرجال . لكن لا تجوز الخلوة بهن ، ولا ينتشر التحريم إلى بناتهن وأخواتهن بالإجماع ، بل إن هذه الأمومة لا توجب ميراثا كأمومة النبي .

قوله : { وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ } المراد بكتاب الله ، القرآن أو هو حكم الله . والمعنى : أن أولي القرابات أولى بالتوارث في حكم الله ، من المهاجرين والأنصار وهذا نسخ للتوارث بالهجرة ؛ فقد كانوا من قبل يتوارثون بالحِلف ، والمؤاخاة في الدين ، التي كانت بينهم . قال ابن عباس في ذلك : كان المهاجري يرث الأنصاري دون قرابته وذوي رحمه ؛ للأخوة التي آخى بينهما رسول الله صلى الله عليه وسلم . وكذا قال آخرون من السلف والخلف . فقد روي عن الزبير بن العوام ( رضي الله عنه ) قال : أنزل الله عز وجل فينا خاصة معشر قريش والأنصار { وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ } وذلك أنا معشر قريش لما قدمنا ولا أموال لنا ، فوجدنا الأنصار نِعْمَ الإخوانُ ، فواخيناهم ووارثناهم . فآخى أبو بكر ( رضي الله عنه ) خارجة بنت زيد ، وآخى عمر ( رضي الله عنه ) فلانا ، وآخى عثمان ( رضي الله عنه ) رجلا من بني زريق ، حتى أنزل الله تعالى هذه الآية فينا معشر قريش والأنصار خاصة فرجعنا إلى مواريثنا .

قوله : { إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا } يعني ، إلا أن توصوا لذوي قراباتكم من غير أهل الإيمان والهجرة . فقد ذهب الميراث ، وبقي البر والإحسان والصلة والوصية . وقيل : نزلت في إجازة الوصية لليهودي والنصراني . أي يُفعل هذا مع الولي القريب وإن كان كافرا . فالمشرك وليّ في النسب لا في الدين فيوصى له بوصية .

قوله : { كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا } المراد بالكتاب اللوح المحفوظ . وقيل : القرآن . و { مَسْطُورًا } يعني مكتوب . سطرت الكتاب سطرا أي كتبته . ويجمع السطر على أسطر وسطور{[3695]} .

والمعنى : أن هذا الحكم وهو أن أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض مكتوب ومُثبت من الله في كتابه الأزلي الذي فيه علم الأولين والآخرين ، فهو لا يأتي عليه التغيير أو التبديل{[3696]}

وتخصيص أولي الأرحام والقرابات بالميراث ، مراعاة حقيقة وكبرى لفطرة الإنسان الذي جُبل على حب ذويه أولي القربى والميل إليهم بشدة واحترار . والإنسان قد جُعلت في أعماقه مودة مطبوعة ؛ لأقربائه من البنين والبنات والآباء والأمهات والأجداد والجدات والأعمام والعمات والأخوال والخالات . أولئك يميل الطبع البشري إليهم ؛ ليفيض عليهم بالرأفة والرقة والحدْب والتحتان . فلا جرم أن هذه مزية أصلية ومفطورة من مزايا الإسلام العظيم ، وهي خِصِّيصة من خصائص الإسلام تشهد له بالصلوح للبشرية في كل زمان .


[3695]:المصباح المنير ج 1 ص 296.
[3696]:تفسير ابن كثير ج 3 ص 468 وتفسير القرطبي ج 14 ص 126.