29- { فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين } .
لم تحزن عليهم السماء ولا الأرض ، لظلمهم وعدوانهم وتجبرهم ، حيث كانوا نغمة نشازا في هذا الكون ، الذي يخضع لأمر الله ويطيع أمره ، أما الظالم المتحير فهو يسير عكس الاتجاه ، حيث قال سبحانه للسماء والأرض عندما أراد خلقهما : { ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين } . ( فصلت : 11 ) .
فالمؤمن الصالح متوافق مع هذا الكون ، تدعو له الملائكة ، ويسلم عليه الصالحون في كل تشهد للصلاة ، ومن دعاء التشهد : ( السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ) .
وفي الحديث النبوي الشريف : ( أن العبد الصالح إذا مات بكاه من الأرض موضع سجوده ، ومن السماء مصعد عمله ) ، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم : { فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين } .
{ فما بكت عليهم السماء والأرض . . . }
قال الزمخشري : إذا مات رجل خطير ، قالت العرب في تعظيم مهلكه : بكت عليه السماء والأرض ، وبكته الريح ، وأظلمت له الشمس .
قال جرير في رثاء عمر بن عبد العزيز :
نعى النعاة أمير المؤمنين لنا *** يا خير من حج بيت الله واعتمروا
حمّلت أمرا عظيما فاصطبرت له *** وقمت فيه بأمر الله يا عمر
فالشمس كاسفة ليست بطالعة *** تبكي عليك نجوم الليل والقمر
وقالت ليلى بنت طريف الشيباني الخارجية ، ترثي أخاها الوليد بن طريف وقد مات قتيلا :
أيا شجر الخابور مالك مورقا *** كأنك لم تجزع على ابن طريف
وذلك على سبيل التمثيل والتخييل ، مبالغة في وجوب الجزع والبكاء عليه .
وعن الحسن : فما بكى عليهم الملائكة والمؤمنون ، بل كانوا بهلاكهم مسرورين ، يعني فما بكى عليهم أهل السماء وأهل الأرض .
أي : مؤخرين بالعقوبة ، بل عوجلوا بها زيادة سخط عليهم8 .
{ فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين } .
أي : لم تكن لهم أعمال صالحة تصعد على أبواب السماء فتبكي على فقدهم ، ولا لهم بقاع في الأرض عبدوا الله فيها ففقدتهم ، فلهذا استحقوا ألا ينظروا ولا يؤخروا . اه .
قوله تعالى : { فما بكت عليهم السماء والأرض } وذلك أن المؤمن إذا مات تبكي عليه السلام والأرض أربعين صباحاً ، وهؤلاء لم يكن يصعد لهم عمل صالح ، فتبكي السماء على فقده ، ولا لهم على الأرض عمل صالح فتبكي الأرض عليه .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أنبأنا أبو إسحاق الثعلبي ، أنبأنا أبو عبد الله الفنجوي ، حدثنا أبو علي المقري ، حدثنا أبو يعلى الموصلي ، حدثنا أحمد بن إسحاق البصري ، حدثنا مكي بن إبراهيم ، حدثنا موسى بن عبيدة الزيدي ، أخبرني يزيد الرقاشي ، عن أنس بن مالك ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ما من عبد إلا له في السماء بابان باب يخرج منه رزقه ، وباب يدخل فيه عمله ، فإذا مات فقداه وبكيا عليه " ثم تلا : { فما بكت عليهم السماء والأرض } . قال عطاء : بكاء السماء حمرة أطرافها . قال السدي : لما قتل الحسين بن علي بكت عليه السماء ، وبكاؤها : حمرتها . { وما كانوا منظرين } لم ينظروا حين أخذهم العذاب لتوبة ولا لغيرها .
قوله تعالى : " فما بكت عليهم السماء والأرض " أي لكفرهم . " وما كانوا منظرين " أي مؤخرين بالغرق . وكانت العرب تقول عند موت السيد منهم : بكت له السماء والأرض ، أي عمت مصيبته الأشياء حتى بكته السماء والأرض والريح والبرق ، وبكته الليالي الشاتيات . قال الشاعر :
فالريح تبكي شَجْوَهَا *** والبرقُ يلمعُ في الغمامة{[13729]}
وقال آخر{[13730]} :
والشمسُ طالعةٌ ليست بكاسفة *** تُبْكِي عليك نجومُ الليل والقمرا
وقالت الخارجية{[13731]} :
أيا شجرَ الخَابُورِ مالكَ مُورِقًا *** كأنك لم تجزع على ابن طَرِيفِ
وذلك على سبيل التمثيل والتخييل مبالغة في وجوب الجزع والبكاء عليه . والمعنى أنهم هلكوا فلم تعظم مصيبتهم ولم يوجد لهم فقد . وقيل : في الكلام إضمار ، أي ما بكى عليهم أهل السماء والأرض من الملائكة ، كقوله تعالى : " واسأل القرية " [ يوسف : 82 ] بل سروا بهلاكهم ، قاله الحسن . وروى يزيد الرقاشي عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما من مؤمن إلا وله في السماء بابان باب ينزل منه رزقه وباب يدخل منه كلامه وعمله فإذا مات فقداه فبكيا عليه - ثم تلا - " فما بكت عليهم السماء والأرض " . يعني أنهم لم يعملوا على الأرض عملا صالحا تبكي عليهم لأجله ، ولا صعد لهم إلى السماء عمل صالح فتبكي فقد ذلك . وقال مجاهد : إن السماء والأرض يبكيان على المؤمن أربعين صباحا . قال أبو يحيى : فعجبت من قوله فقال : أتعجب ! وما للأرض لا تبكي على عبد يعمرها بالركوع والسجود ! وما للسماء لا تبكي على عبد كان لتسبيحه وتكبيره فيها دوي كدوي النحل ! . وقال علي وابن عباس رضي الله عنهما : إنه يبكي عليه مصلاه من الأرض ومصعد عمله من السماء . وتقدير الآية على هذا : فما بكت عليهم مصاعد عملهم من السماء ولا مواضع عبادتهم من الأرض . وهو معنى قول سعيد بن جبير . وفي بكاء السماء والأرض ثلاثة أوجه : أحدها أنه كالمعروف من بكاء الحيوان . ويشبه أن يكون قول مجاهد . وقال شريح الحضرمي قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء يوم القيامة قيل : من هم يا رسول الله ؟ قال - هم الذين إذا فسد الناس صلحوا - ثم قال - ألا لا غربة على مؤمن وما مات مؤمن في غربة غائبا عنه بواكيه إلا بكت عليه السماء والأرض - ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم - " فما بكت عليهم السماء والأرض " ثم قال : ألا إنهما لا يبكيان على الكافر ) .
قلت : وذكر أبو نعيم محمد بن معمر قال : حدثنا أبو شعيب الحراني قال حدثنا يحيى بن عبد الله قال حدثنا الأوزاعي قال حدثني عطاء الخراساني قال : ما من عبد يسجد لله سجدة في بقعة من بقاع الأرض إلا شهدت له يوم القيامة وبكت عليه يوم يموت . وقيل : بكاؤهما حمرة أطرافهما ، قاله علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وعطاء والسدي والترمذي محمد بن علي وحكاه عن الحسن . قال السدي : لما قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما بكت عليه السماء ، وبكاؤها حمرتها . وحكى جرير عن يزيد بن أبي زياد قال : لما قتل الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما احمر له آفاق السماء أربعة أشهر . قال يزيد : واحمرارها بكاؤها . وقال محمد بن سيرين : أخبرونا أن الحمرة التي تكون مع الشفق لم تكن حتى قتل الحسين بن علي رضي الله عنهما . وقال سليمان القاضي : مطرنا دما يوم قتل الحسين .
قلت : روى الدارقطني من حديث مالك بن أنس عن نافع عن ابن عمر قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( الشفق الحمرة ) . وعن عبادة بن الصامت وشداد بن أوس قالا : الشفق شفقان : الحمرة والبياض ، فإذا غابت الحمرة حلت الصلاة . وعن أبي هريرة قال : الشفق الحمرة . وهذا يرد ما حكاه ابن سيرين . وقد تقدم في " الإسراء " {[13732]} عن قرة بن خالد قال : ما بكت السماء على أحد إلا على يحيى بن زكريا والحسين بن علي ، وحمرتها بكاؤها . وقال محمد بن علي الترمذي : البكاء إدرار الشيء فإذا أدرت العين بمائها قيل بكت ، وإذا أدرت السماء بحمرتها قيل بكت ، وإذا أدرت الأرض بغبرتها قيل بكت ؛ لأن المؤمن نور ومعه نور الله ، فالأرض مضيئة بنوره وإن غاب عن عينيك ، فان فقدت نور المؤمن اغبرت فدرت باغبرارها ؛ لأنها كانت غبراء بخطايا أهل الشرك ، وإنما صارت مضيئة بنور المؤمن ، فإذا قبض المؤمن منها درت بغبرتها . وقال أنس : لما كان اليوم الذي دخل فيه النبي صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء كل شيء ، فلما كان اليوم الذي قبض فيه أظلم كل شيء ، وإنا لفي دفنه ما نفضنا الأيدي منه حتى أنكرنا قلوبنا . وأما بكاء السماء فحمرتها كما قال الحسن . وقال نصر بن عاصم : إن أول الآيات حمرة تظهر ، وإنما ذلك لدنو الساعة ، فتدر بالبكاء لخلائها من أنوار المؤمنين . وقيل : بكاؤها أمارة تظهر منها تدل على أسف وحزن .
قلت : والقول الأول أظهر ؛ إذ لا استحالة في ذلك . وإذا كانت السماوات والأرض تسبح وتسمع وتتكلم كما بيناه في " الإسراء ومريم وحم فصلت " {[13733]} فكذلك تبكي ، مع ما جاء من الخبر في ذلك والله أعلم بصواب هذه الأقوال .
ولما كان الإهلاك يوجب أسفاً على المهلكين ولو من بعض الناس ولا سيما إذا كانوا جمعاً{[57509]} فكيف إذا كانوا أهل مملكة{[57510]} ولا سيما إذا كانوا في نهاية الرئاسة ، أخبر بأنهم كانوا{[57511]} لهوانهم عنده{[57512]} سبحانه وتعالى على خلاف ذلك ، فسبب عما مضى قوله : { فما بكت عليهم } استعارة لعدم الاكتراث {[57513]}بهم لهوانهم{[57514]} { السماء والأرض } وإذا لم يبك السكن فما ظنك بالساكن الذي هو بعضه ، روى أبو يعلى في مسنده والترمذي{[57515]} في جامعه - وقال : غريب والربذي{[57516]} والرقاشي{[57517]} يضعفان في الحديث - عن أنس رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
" ما من مسلم إلا وله في السماء بابان ، باب يصعد منه عمله وباب ينزل منه رزقه فإذا مات بكيا عليه " وتلا هذه الآية ، وقال علي{[57518]} رضي الله عنه : إن المؤمن إذا مات بكى{[57519]} مصلاه من الأرض ومصعد عمله من السماء .
ولما جرت العادة بأن العدو قد يستمهله عدوه في بعض الأوقات لمثل وصية وقضاء حاجة فيمهله ، أخبر تتميماً لعدم الاكتراث بهم أنهم كانوا دون ذلك فقال : { وما كانوا } ولما كان هذا لكونه{[57520]} خيراً عنهم بعد مضيهم المقصود منه تحذير{[57521]} من بعدهم فقط ، لم يذكر التقييد {[57522]}بذلك الوقت بإذن{[57523]} ونحوها دلالة على أن ما كانوا فيه من طويل الإمهال {[57524]}كان كأنه{[57525]} لم يكن لعظم{[57526]} هذا الأخذ بخلاف ما مر في الحجر من التخويف من إنزال الملائكة عليهم ، فإن تقييد{[57527]} عدم الإنظار بذلك الوقت لرد{[57528]} السامعين عن طلب إنزالهم فقال تعالى : { منظرين * } أي ممهلين عما أنزلنا بهم من المصيبة{[57529]} من ممهل ما{[57530]} لحظه فما فوقها ليتداركوا بعض ما فرطوا فيه وينظروا في شيء مما يهمهم بل كان أخذهم لسهولته علينا في أسرع من اللمح ، لم يقدروا على{[57531]} دفاع ، فنالهم{[57532]} عذاب الدنيا وصاروا {[57533]}إلى عذاب{[57534]} الآخرة فخسروا الدارين وما ضروا غير أنفسهم{[57535]} .