الأعراب : هم سكان البادية بخاصة ، والأعراب اسم جنس وليس جمعا ، والنسبة إليه أعرابي ، والمراد بهم هنا جماعة منهم لا كلهم ، أما العرب فهم أهل الأمصار ، وهو اسم جنس أيضا ، والنسبة إليه عربي .
آمنا : صدقنا بألسنتنا وقلوبنا .
أسلمنا : صدقنا بألسنتنا دون قلوبنا .
لا يلتكم : لا ينقصكم ، يقال : لاته يلته إذا نقصه ، حكى الأصمعي عن أم هشام السلولية : ( الحمد لله الذي لا يُفات ولا يُلات ولا تُصمُّه الأصوات ) .
14- { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }
وقد استفيد من هذه الآية الكريمة أن الإيمان أخص من الإسلام ، كما هو مذهب أهل السنة والجماعة ، ويدل عليه حديث جبريل حين سأل عن الإسلام ، ثم عن الإيمان . . فترقى من الأعم إلى الأخص .
كما دل هنا على أن هؤلاء الأعراب المذكورين في هذه الآية إنما هم مسلمون ، لم يستحكم الإيمان في قلوبهم ، فادعوا لأنفسهم مقاما أعلى مما وصلوا إليه ؛ فأدبوا بذلك . اه .
ادعت فئة من الأعراب أنهم آمنوا ، أي صدقوا بالله تعالى ربا ، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا ، وبالإسلام دينا ، بينما واقعهم غير ذلك ، فهم أظهروا الإسلام طمعا في المغانم ، فالأموال عندهم أهم من ثواب الآخرة .
{ قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم . . . }
أعلم الله رسوله بحقيقة حالهم ، وأن الإيمان لم يتمكن من قلوبهم .
أي : قل لهم : لم تؤمنوا حين قدمتم إلي ، ولكن ، { قولوا أسلمنا . . . }
أي : سالمناك ولن ننضم إلى قوم يحاربونك ، ولا نقف في حرب ضدك .
{ ولما يدخل الإيمان في قلوبكم . . . }
تفيد لما في النحو قرب وقوع ما بعدها ، تقول : قاربت الوصول إلى بلدتي ولما أدخلها ، أي : أتوقع قريبا دخولها ، والقرآن يشوقهم إلى قرب دخول الإيمان إلى قلوبهم ، والانضمام إلى جماعة المسلمين المخلصين .
{ وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا . . . }
إذا أطعتم الله ورسوله بالدخول الحقيقي في دين الإسلام ، فإن الله لا ينقصكم من ثواب أعمالكم شيئا .
فهو واسع المغفرة ، رحيم بعباده ، يأخذ بأيديهم إلى طاعته ، ويتقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات .
وفي الآية أدب جميل من أدب الخطاب ، وفيها استمالة إلى الإيمان وتحريض عليه ، وفتح أبواب التوبة والمغفرة لهم متى أخلصوا .
{ قالت الأعراب آمنا } من الإيمان ، وهو التصديق مع الثقة وطمأنينة القلب . نزلت في بني أسد ابن خزيمة ، وقد أظهروا الإسلام نفاقا ؛ طعما في المغانم ، وكانوا يمنون على رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامهم . { قل لم تؤمنوا } بقلوبكم{ ولكن قولوا أسلمنا } من الإسلام ، وهو الانقياد الظاهري بالجوارح . والذين أسلموا بظواهرهم ولم يؤمنوا بقلوبهم هم المنافقون . { ولما يدخل الإيمان في قلوبكم }
أي لم يدخل فيها ، ولكنه متوقع منكم ؛ وقد آمنوا كلهم أو بعضهم . { لا يلتكم من أعمالكم شيئا } لا ينقصكم من أجور أعمالكم شيئا من النقص . يقال : لاته حقه – كباعه – نقصه .
آمنا : صدّقنا بما جئت به من الشرائع ، فالإيمان هو التصديق بالقلب .
أسلمنا : انقدْنا لك ونطقنا بالشهادتين وعملنا بما تأمرنا به .
يمنّون عليك أن أسلموا : يذكرون ذلك ذِكر من اصطنع لك صنيعة ، وأسدى إليك معروفا .
ثم بعد أن بيّن الله لنا أن الناس جميعاً إخوة لأمٍ وأبٍ وحثّنا على التقوى والعمل الصالح ، بين هنا أن الإيمان وحده لا يكفي ، والإيمانُ هو التصديق بالقلب ، وأن الإسلام هو التصديقُ والطاعة الظاهرة بأداء الواجبات واجتناب النواهي . وكان في زمن الرسول الكريم أناسٌ من الأعراب في إيمانهم ضَعف ، وقلوبهم مشغولة تريد المغانم وعرض الدنيا . فقال الله تعالى :
{ قَالَتِ الأعراب آمَنَّا . . . . . }
قالت الأعراب بألسنتهم : آمنا ، فقل لهم يا محمد : إنكم لم تؤمنوا ، لأن قلوبكم لم تصدّق ما نطقتم به ، ولكن قولوا أسلمنا وانقدنا ظاهراً لرسالتك ، لأن الإيمان لم يدخل في قلوبكم بعد . وإن تطيعوا اللهَ ورسوله صادقين لا يَنقصُكم الله من ثواب أعمالكم شيئا .
ثم يؤكد الله رحمته ولطفه بعباده فيقول : { إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } سَتّارٌ للهفوات غفارٌ للزلات ، فسارِعوا إلى التوبة .
قرأ أهل البصرة : لا يألتكم بالهمزة ، والباقون : لا يَلتكم بلا همزة ، وهما لغتان : ألت يألت ، ولات يليت . واللغتان في القرآن الكريم . ففي سورة الطور { وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ } [ الطور : 21 ] .
{ 14-18 } { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم * يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }
يخبر تعالى عن مقالة الأعراب ، الذين دخلوا في الإسلام في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، دخولاً من غير بصيرة ، ولا قيام بما يجب ويقتضيه الإيمان ، أنهم ادعوا مع هذا وقالوا : آمنا أي : إيمانًا كاملاً ، مستوفيًا لجميع أموره هذا موجب هذا الكلام ، فأمر الله رسوله ، أن يرد عليهم ، فقال : { قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا } أي : لا تدعوا لأنفسكم مقام الإيمان ، ظاهرًا ، وباطنًا ، كاملاً .
{ وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا } أي : دخلنا في الإسلام ، واقتصروا على ذلك .
{ و } السبب في ذلك ، أنه { لَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } وإنما آمنتم خوفًا ، أو رجاء ، أو نحو ذلك ، مما هو السبب في إيمانكم ، فلذلك لم تدخل بشاشة الإيمان في قلوبكم ، وفي قوله : { وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } أي : وقت هذا الكلام ، الذي صدر منكم فكان فيه إشارة إلى أحوالهم بعد ذلك ، فإن كثيرًا منهم ، من الله عليهم بالإيمان الحقيقي ، والجهاد في سبيل الله ، { وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ } بفعل خير ، أو ترك شر { لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا } أي : لا ينقصكم منها ، مثقال ذرة ، بل يوفيكم إياها ، أكمل ما تكون لا تفقدون منها ، صغيرًا ، ولا كبيرًا ، { إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } أي : غفور لمن تاب إليه وأناب ، رحيم به ، حيث قبل توبته .
ولما أمر سبحانه بإجلال رسوله صلى الله عليه وسلم وإعظامه ، ونهى عن أذاه في نفسه أو في أمته ، ونهى عن التفاخر الذي هوسبب التقاطع والتداحر ، وختم بصفة الخبر ، دل عليها بقوله مشيراً-{[60919]} إلى أنه لا يعتد بشيء مما أمر به أو نهى عنه إلا مع الإخلاص فقال : { قالت الأعراب } أي أهل البادية من بني أسد وغيرهم الذين هم معدن الغلظة والجفاء-{[60920]} الذين تقدم تأديبهم{[60921]} في سورة الفتح ، وألحق التاء في فعلهم إشارة إلى ضعفهم في العزائم ، قال ابن برجان : هم قوم شهدوا شهادة الحق {[60922]}وهم لا{[60923]} يعلمون ما شهدوا به غير أن أنفسهم ليست-{[60924]} تنازعهم إلى التكذيب : { آمنا } أي-{[60925]} بجميع ما جئت به فامتثلنا ما أمرنا به في هذه السورة ولنا النسب الخالص ، فنحن أشرف من غيرنا من أهل المدر .
ولما كان الإيمان التصديق بالقلب فلا اطلاع عليه لآدمي إلا بإطلاعه سبحانه فكانوا كاذبين في دعواه ، قال : { قل } أي تكذيباً لهم مع مراعاة الأدب في عدم التصريح بالتكذيب : { لم تؤمنوا } أي لم تصدق قلوبكم لأنكم لو أمنتم لم تمنوا{[60926]} بإيمانكم لأن الإيمان التصديق بجميع ما لله من الكمال الذي منه أنه لولا منه بالهداية لم يحصل الإيمان ، فله ولرسوله - الذي كان ذلك على يديه - المن والفضل .
ولما كان التقدير ما كان {[60927]}الأصل في{[60928]} أن يكون الرد به وهو : فلا تقولوا : آمنا ، فإنه كذب ، وعدل عنه للاحتراز عن النهي عن القول بالإيمان ، عطف عليه قوله : { ولكن قولوا } لأنكم أسلمتم للدنيا لا للدين ، وعدل عنه لئلا تكون شهادة لهم بالإسلام {[60929]}في الجملة{[60930]} : { أسلمنا } أي أظهرنا الانقياد في الظاهر للأحكام الظاهرة فأمنا من أن نكون حزباً للمؤمنين وعوناً للمشركين ، يقول : أسلم الرجل - إذا دخل في السلم ، كما يقال : أشتى - إذا دخل في الشتاء ، ولم يقل : ولكن أسلمتم ، لما فيه من الشهادة لهم بالإسلام الملازم للإيمان المنفي عنه ، فكان يكون تناقضاً ، والآية من الاحتباك : نفي الإيمان الشرعي أولاً يدل على إثبات الإسلام اللغوي ثانياً ، والأمر بالقول بالإسلام-{[60931]} ثانياً يدل على النهي عن القول بالإيمان أولاً-{[60932]} .
ولما كانت " لم " غير مستغرقة ، عطف عليها ما يستغرق {[60933]}ما مضى من{[60934]} الزمان كله ليكون الحكم بعدم إيمانهم مكتنفاً بأمرهم بالاقتصاد على الإخبار بإسلامهم ، فقال معلماً بأن ما يجتهدون في إخفائه {[60935]}منكشف لديه{[60936]} " ألا يعلم من خلق " . { ولما يدخل{[60937]} } أي-{[60938]} إلى هذا الوقت { الإيمان } أي-{[60939]} المعرفة التامة { {[60940]}في قلوبكم{[60941]} } فلا يعد إقرار اللسان إيماناً إلا بمواطأة القلب ، فعصيتم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وأحبطتم أعمالكم ، والتعبير ب " لما " يفهم أنهم آمنوا بعد ذلك ، ويجوز أن يكون المراد بهذا النفي نفي التمكن في القلب ، لا نفي مطلق الدخول بدليل { إنما المؤمنون } دون { إنما-{[60942]} الذين آمنوا } .
ولما كان التقدير : فإن تؤمنوا{[60943]} يعلم الله ذلك من قلوبكم غنياً عن قولكم ، عطف عليه قوله ترغيباً لهم في التوبة : { وإن تطيعوا الله } أي الملك الذي من خالفه لم يأمن عقوبته { ورسوله } الذي طاعته من طاعته على ما أنتم عليه من الأمر الظاهري فتؤمن قلوبكم { لا يلتكم } أي ينقصكم ويبخسكم{[60944]} من لاته يليته ، وهي لغة أهل الحجاز ، وقرأ البصريان{[60945]} : {[60946]}يألتكم من الألت وهو{[60947]} النقص أيضاً ، وهي لغة أسد وغطفان ، وهما المخاطبون بهذه الآية المعاتبون بها ، قال أبو حيان{[60948]} : قال مجاهد : نزلت في بني أسد بن خزيمة - انتهى . فلذلك اختار أبو عمرو القراءة بها ، وعدل عن لغة الحجاز { من أعمالكم شيئاً } فلا حاجة إلى إخباركم عن إيمانكم بغير ما يدل عليه من الأقوال والأفعال ، قال ابن برجان : فعموم الناس وأكثر أهل الغفلة مسلمون غير مؤمنين ، فإن يعلموا علم ما شهدوا وعقدوا عليه عقداً{[60949]} علماً ويقيناً فهم المؤمنون . وفي الآية احتباك من وجه آخر : ذكر عدم الإيمان أولاً دليلاً على إثباته ثانياً ، وذكر توفير الأعمال ثانياً دليلاً {[60950]}على بخسها{[60951]} أو إحباطها أولاً ، وسره أنه نفى أساس الخير أولاً ورغب في الطاعة بحفظ ما تعبوا عليه-{[60952]} من الأعمال ثانياً{[60953]} .
ولما كان الإنسان مبنياً على النقصان ، فلو وكل إلى عمله هلك ، ولذهب عمله فيما يعتريه من النقص ، قال مستعطفاً لهم-{[60954]} إلى التوبة ، مؤكداً تنبيهاً على أنه مما يحق تأكيده{[60955]} لأن الخلائق-{[60956]} لا يفعلون مثله : { إن الله } أي الذي له صفات الكمال { غفور } أي ستور للهفوات والزلات لمن تاب وصحت نيته ، ولغيره إذا أراد ، فلا عتاب ولا عقاب { رحيم * } أي يزيد على الستر عظيم الإكرام .