تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلۡمُدَّثِّرُ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير سورة المدثر

أهداف سورة المدثر

( سورة المدثر مكية ، وآياتها 56 آية ، نزلت بعد سورة المزمل )

وينطبق على سورة المدثر –من ناحية سبب نزولها ، ووقت نزولها- ما ينطبق على سورة المزمل . فهناك روايات بأنها هي أول ما نزل بعد سورة العلق ، ورواية أخرى بأنها نزلت بعد الجهر بالدعوة ، وإيذاء المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم .

ويمكن التوفيق بين هذه الروايات ، بأن صدر سورة المدثر أول ما نزل من القرآن بعد سورة العلق ، وهو من أول السورة إلى قوله تعالى : ولربك فاصبر . ( المدثر : 7 ) .

وأن الآيات التالية قد نزلت بعد الجهر بالدعوة ، وربما كانت تعني شخصا معينا هو الوليد بن المغيرةi .

وأيا ما كان السبب والمناسبة ، فقد تضمنت السورة في مطلعها ذلك النداء العلوي ، بانتداب النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الأمر الجلل ، وانتزاعه من النوم والتدثر والدفء إلى الجهاد والكفاح والمشقة . ( انظر الآيات من 1-7 ) .

ثم تضمنت بعد هذا تهديدا ووعيدا للمكذبين بالآخرة ، وبحرب الله مباشرة ، كما تضمنت سورة المزمل سواء بسواء . ( انظر الآيات من 8-17 ) .

وتعيّن سورة المدثر أحد المكذبين بصفته ، وترسم مشهدا من مشاهد كيده ، على نحو ما ورد في سورة القلم ، وربما كان الشخص المعني هنا وهناك واحدا ، وقد قيل إنه الوليد بن المغيرة . ( انظر الآيات من 18-30 ) .

ثم تتحدث السورة عن عالم الغيب ، ووصف سقر ، والملائكة القائمين عليها ، وعددهم وامتحان الله لعباده بذلك العدد ، وذلك في آية واحدة طويلة هي الآية ( 31 ) .

ثم تتحدث عن مشاهد الكون ، وأدلتها على وجود الله . ( انظر الآيات من 32-37 ) .

كما تعرض مقام المجرمين ، ومقام أصحاب اليمين ، حيث يعترف المكذبون اعترافا طويلا ، بأسباب استحقاقهم للارتهان والقيد في يوم الجزاء والحساب ، يعقب عليه بكلمة الفصل في أمرهم ، الذي لا تنفعهم فيه شفاعة شافع . ( انظر الآيات من 38-48 ) .

وفي ظل هذا المشهد المخزي ، والاعتراف المهين ، يتساءل مستنكرا موقف المكذبين من الدعوة إلى التذكرة والنجاة من هذا المصير ، ويرسم لهم مشهدا ساخرا يثير الضحك والزراية ، من نفارهم الحيواني الشموس . ( انظر الآيات من 49 -51 ) .

ويكشف السياق عن حقيقة الغرور الذي يساورهم فيمنعهم من الاستجابة لصوت المذكّر الناصح ، ويبين أنه الحسد للنبي صلى الله عليه وسلم ، والرغبة في أن يؤتى كل منهم الرسالة ، والسبب الآخر هو قلة التقوى . ( انظر الآيتين 52 ، 53 ) .

وفي الختام يجئ التقدير الجازم الذي لا مجاملة فيه ، وردّ الأمر كله إلى مشيئة الله وقدره . ( انظر الآيات من 54 -56 ) .

وهكذا تمثل السورة حلقة من حلقات الكفاح النفسي ، الذي كافحه القرآن للجاهلية وتصوراتها في قلوب قريش ، كما كافح العناد والكيد ، والإعراض الناشئ عن العمد والقصد بشتى الأساليب . . . والمشابهات كثيرة بين اتجاهات هذه السورة ، واتجاهات سورة المزمل ، وسورة القلم ، مما يدل على أنها جميعا نزلت متقاربة ، لمواجهة حالات متشابهة .

وسورة المدثر قصيرة الآيات ، سريعة الجريان ، منوعة الفواصل ، يتئد إيقاعها أحيانا ، ويجري لاهثا أحيانا ، وبخاصة عند تصوير مشهد هذا المكذب ، وهو يفكر ويقدر ويعبس ويبسر . . . وتصوير مشهد سقر لا تبقي ولا تذر لواحة للبشر .

مع آيات السورة

1- 7- بدأت السورة بنداء النبي الكريم صلى الله عليه وسلم ليقوم بأمر جليل هو إنذار البشرية ، وتخليصها من الشر في الدنيا ، ومن النار في الآخرة .

ثم يوجه الله رسوله صلى الله عليه وسلم في خاصة نفسه ، بأن يكبر ربه وحده ، فهو سبحانه الكبير المتعال ، وهو القوي المتين ، وهو على كل شيء قدير . ويوجهه إلى التطهر بأنواعه ، ويشمل طهارة الثوب ، وطهارة البدن ، وطهارة القلب ، ليكون أهلا للتلقي عن الملأ الأعلى ، ويوجهه إلى هجران الشرك ، وموجبات العذاب ، والتحرز والتطهر من مسّ هذا الدنس .

ويوجهه إلى إنكار ذاته ، وعدم المنّ بما يقدمه من الجهد أو استكثاره أو استعظامه ، فكل ما يقدمه الإنسان من خير هو بتوفيق الله وعونه ، وذلك يستحق الشكر لله لا المنّ والاستكثار .

ويوجهه أخيرا إلى الصبر على الطاعة ، والصبر على الأذى والتكذيب ، وعدم الجزع من أذى المخالفين .

1- 30- حين ينفخ إسرافيل في الصور ، يجد الكافرين أمامهم يوما عسيرا ، لا يسر فيه ولا هوادة ، بل يجدون الحساب السريع ، والجزاء العادل ، والعقاب الرادع .

وقد روى ابن جرير الطبري أن الآيات نزلت في الوليد بن المغيرة ، حين فكر في تهمة يلصقها بالنبي صلى الله عليه وسلم ، ثم ادعى أن النبي ساحر ، وقد كان الوليد يسمى الوحيد لأنه وحيد في قومه ، فماله كثير ، فيه الزرع والضرع والتجارة ، وله عشرة أبناء يشهدون المحافل والمجامع ، أسلم منهم ثلاثة : خالد وهشام والوليد ، وقد بسط الله له الرزق ، وطال عمره مع الجاه العريض والرياسة في قومه ، وكان يسمى ريحانة قريش .

ويتجه السياق إلى تهديد هذا المشرك فيقول : خلّ بيني وبين هذا المشرك ، الذي أخرجته من بطن أمه وحيدا ، لا مال له ولا ولد ، ثم بسطت له الرزق والجاه العريض ، فكفر بأنعم الله عليه .

لقد أعطيته المال الكثير ، ورزقته بنين من حوله حاضرين شهودا ، فهو منهم في أنس وعزوة ، ومهدت له الحياة ، ويسرتها له تيسيرا ، ثم هو يطمع في مزيد من الثراء والجاه . . كلا ، لن نزيده من نعمنا ، بل سنذهب عنه كل ما أنعمنا به عليه ، لأنه كان معاندا ومعارضا لآيات القرآن الكريم ، سأكلفه ما لا يطيق من كربة وضيق ، كأنما يصعد في السماء ، أو يصعد الجبال الوعرة الشاقة .

إنه فكر وتروى ماذا يقول في القرآن ، وبماذا يصفه حين سئل عن ذلك ، ثم لعن كيف قدر ، ثم نظر إلى قومه في جد مصطنع ، وقطب وجهه عابسا ، وقبض ملامح وجهه باسرا ليستجمع فكره ، فقال : ما هذا القرآن إلا سحر ينقله محمد عن السحرة ، كمسيلمة وأهل بابل ، وليس هذا من كلام الله ، وإنما هو من كلام البشر .

سأدخله سقر ، وما أعلمك بشأنها ، إنها شيء أعظم وأهول من الإدراك ، فهي : لا تبقي ولا تذر . ( المدثر : 28 ) .

فهي تكنس كنسا ، وتبلع بلعا ، وتمحو محوا ، فلا يقف لها شيء ، ولا يبقى وراءها شيء ، ولا يفضل منها شيء ، وهي : لوّاحة للبشر . ( المدثر : 29 ) . تلوح الجلد فتحرقه وتغير لونه .

وعلى النار تسعة عشر ، لا ندري أهم أفراد من الملائكة الغلاظ الشداد ، أم صفوف ، أم أنواع من الملائكة وصنوف .

31- ولم نجعل المدبرين لأمر النار إلا ملائكة ، فمن يطيق الملائكة ومن يغلبهم ؟

وما جعلنا عددهم تسعة عشر إلا امتحانا للذين كفروا ، وليستيقن الذين أوتوا الكتاب بصحة القرآن ، لأنهم يرون أن ما يجيء فيه موافق لما في كتبهم ، ويزداد الذين آمنوا إيمانا ، وذلك بتصديق أهل الكتاب له ، وتستشعر قلوب المؤمنين حكمة الله في هذا العدد ، وتقديره الدقيق في الخلق ، وتثبت هذه الحقيقة في قلوب أهل الكتاب ، وقلوب المؤمنين ، فلا يرتابون بعدها فيما يأتيهم من عند الله .

وليقول الذين في قلوبهم مرض النفاق والكافرون : ماذا أراد الله بهذا العدد المستغرب استغراب المثل ؟

كذلك يضل الله من يشاء من المنافقين والمشركين ، لسوء استعدادهم ، ويهدي من يشاء من المؤمنين ، لتزكية نفوسهم ، وتوجيه استعدادهم للخير ، وما يعلم جموع خلق الله إلا هو ، وإن خزنة النار وإن كانوا تسعة عشر ، فإن لهم من الأعوان والجنود من الملائكة ما لا يعلمه إلا الله سبحانه ، وما هذه السورة إلا تذكرة للبشر .

32 -37- كلا وحق القمر ، والليل إذا تولى ، والصبح إذا تجلى ، إن الآخرة وما فيها ، أو سقر والجنود التي عليها ، هي إحدى الأمور الكبيرة العجيبة ، المنذرة للبشر ، بما وراءهم من الخطر ، ولكل نفس أن تختار طريقها ، وأن تتقدم في سبيل الخير أو تتخلف عنه .

38- 48- تعرض الآيات مقام أصحاب اليمين ، فهم في جنات يسأل بعضهم بعضا عن المجرمين .

ويقال لهم : أيها المجرمون ما الذي أدخلكم في جهنم ؟ فيعترفون اعترافا طويلا مفصلا ، يتناول الجرائر الكثيرة التي انتهت بالمجرمين إلى سقر .

قالوا : دخلنا جهنم لأننا لم نك من المؤمنين ، ولم نك نطعم المسكين ، وكنا نخوض في الباطل مع الخائضين ، وكنا نكذب بيوم الجزاء والحساب ، حتى جاءنا الموت الذي يقطع كل شك ، وينهي كل ريب ، فما تنفعهم بعد ذلك شفاعة الشافعين ، لأنه يكون قد انقضى وقت الإمهال .

49- 56- فما لهم عن التذكرة معرضين ، إذا كان الحال في الآخرة سيكون كما وصفنا في الآيات السابقة ، فما بالهم معرضين عن القرآن ، كأنهم –في هربهم من سماع كلام الله ونفورهم منه- حمير نافرة ، فرت من أسد تطلب النجاة من بطشه ، تلك هيئتهم الظاهرة .

ثم يرسم القرآن نفوسهم من الداخل ، وما يعتلج فيها من المشاعر ، فيبين أن الحسد هو الذي منعهم من الإيمان ، بل يرغب كل منهم أن يكون في منزلة الرسول ، وأن يؤتى صحفا تنشر على الناس وتعلن ، وإنما حملهم على ذلك أنهم لا يصدّقون بالآخرة ، ولا يخافون أهوالها ، إن هذا القرآن تذكرة تنبّه وتذكّر ، فمن أراد الانتفاع بالقرآن قرأه وانتفع به .

وما يهتدون إلا بمشيئة الله ، وهو سبحانه أهل بأن يتقى عذابه ، وترجى مغفرته ، وهو سبحانه صاحب المغفرة يتفضل بها على عباده وفق مشيئته .

مقاصد السورة إجمالا

أمر النبي صلى الله عليه وسلم بدعوة الخلق إلى الإيمان ، وتقرير صعوبة القيامة على أهل الكفر والعصيان ، وتهديد الوليد بن المغيرة الذي منحه الله مالا وفيرا ، وعشرة من البنين ، وبسط له في العيش لكنه قابل هذه النعم بالجحود والعناد .

وذكر جل شأنه كيف استهزأ الوليد برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكيف اتهمه بالسحر ، فأنذره الله تعالى بسقر ، ثم وصفها ووصف زبانية الجحيم ، وعذاب أهل النار ، ثم ذكر تعالى الأبرار ونعيمهم ، والمجرمين وصفاتهم ، وهي البعد عن الصلاة والإيمان ، والبخل بالمال ، والخوض في إيذاء المؤمنين ، لقد سلبوا هداية السماء ، ففروا من سماع القرآن فرار حمر الوحش إذا رأت أسدا ، وحرمت قلوبهم بركة التقوى ، والله تعالى هو الجدير بأن يتقيه العباد ، فهو أهل التقوى وأهل المغفرة .

إرشادات للنبي صلى الله عليه وسلم في بدء الدعوة

بسم الله الرحمان الرحيم

{ يا أيها المدّثر 1 قم فأنذر 2 وربك فكبّر 3 وثيابك فطهّر 4 والرّجز فاهجر 5 ولا تمنن تستكثر 6 ولربك فاصبر 7 فإذا نقر في النّاقور 8 فذلك يومئذ يوم عسير 9 على الكافرين غير يسير 10 }

المفردات :

المدّثر : المتلفف بثيابه عند نزول الوحي عليه ، وهو النبي صلى الله عليه وسلم .

قم : من مضجعك ، أو قم قيام عزم وتصميم .

فأنذر : فحذّر الناس ، وخوفهم من عذاب الله .

التفسير :

1 ، 2- يا أيها المدّثر* قم فأنذر .

روى الشيخان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( جاورت بحراء شهرا ، فلما قضيت جواري نزلت ، فنوديت ، فرفعت رأسي ، فإذا الملك الذي جاءني بحراء ، فرجعت فقلت : دثروني ، فأنزل الله : يا أيها المدثر* قم فأنذرii .

والمعنى :

يا أيها المتلفف بثيابه ، أو المتدثر بالنبوة والكمالات النفسية ، أو المتغشّي بثوبه رعبا من رؤية الملك ، قم من مضجعك ، أو قم قيام عزم وتصميم ، وشمّر عن ساعد الجدّ ، فقد جاء الأمر الإلهي باصطفائك رسولا ، وجاء الأوان لتباشر مهمتك ، لتدعو الناس إلى توحيد الله والإيمان به ، وتحذرهم من عذاب الآخرة .

قل ابن كثير : قم فأنذر . أي : شمّر عن ساق العزم وأنذر الناس .

 
صفوة البيان لحسين مخلوف - حسنين مخلوف [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلۡمُدَّثِّرُ} (1)

مقدمة السورة:

مكية ، وآياتها ست وخمسون

بسم الله الرحمان الرحيم

{ يأيها المدثر } أي المتلفف بثيابه ؛ من تدثر أي لبس الدثار ، وهو ما كان من الثياب فوق الشعار الذي بلى البدن نودي صلى الله عليه وسلم بسم مشتق من صفه التي كان عليها ؛ كما قدمنا في أول سورة المزمل .

 
تيسير التفسير لإبراهيم القطان - إبراهيم القطان [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلۡمُدَّثِّرُ} (1)

مقدمة السورة:

سور المدثر مكية وآياتها ست وخمسون ، نزلت بعد سورة المزمل . وهي من أوائل ما نزل من القرآن الكريم ، فقد روى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدّث عن فترة الوحي ( يعني أنه بعد نزول الوحي بمدة فَتَرَ بعض الوقت ) فقال : بينما أنا أمشي في جبل حراء إذ سمعت صوتا من السماء فرفعت بصري قِبَلَ السماء ، فإذا الملك الذي جاءني بحراء بين السماء والأرض ، فهويت على الأرض ، وخفت ورجعت إلى أهلي فقلت : دَثّروني دثروني ، وصبّوا عليّ ماء باردا ، فأنزل الله تعالى { يا أيها المدثر قم فأنذر } إلى قوله تعالى { والرّجز فاهجر } .

وقد اشتملت السورة على الإنذار ، وتكبير الله ، وتطهير النفس من دنيء الأخلاق وتطهير الثياب للمؤمن ، وهذا يعني أن النظافة من أهم أصول الإسلام . وفيها الأمر للرسول بالصبر على أذى المشركين وهجر الأوثان وكل ما يؤدي إلى العذاب ، وتهذيب الرسول الكريم وتعليمه أن لا يمنّ على أصحابه بما يعلّمهم من أمر الدين والوحي كالمستكثر بذلك عليهم ، ولا على الفقراء بما يعطيهم استكثارا لتلك العطايا ، وإنما عليه أن يتجه إلى الله تعالى . . . . فإن الخلق عباده والرسول الكريم أب لهم ومعلم ومرشد .

فأما الكفار الجاحدون فإنهم سيلقَون جزاءهم يوم ينفخ في الصور . ثم ذكر أوصاف بعض هؤلاء المعاندين وأحد جبابرتهم ، وهو الوليد بن المغيرة ، وأنه أعطي مالا كثيرا وعشيرة ورياسة ووجاهة ، ووصفه بالعناد والعبوس والاستكبار ، وكيف أنه استهزأ بالقرآن الكريم وقال عنه إنه سحر يؤثَر ،

وما ينتظر هذا الرجل من العذاب يوم القيامة ، يوم يُدخله الله سَقَرَ التي عليها تسعة عشر من الملائكة . . إلى آخر ما سيأتي من عظيم أمرها . ثم ذكر أن كل نفس مرهونة بعملها ، وأن المؤمنين يتمتعون في جنات النعيم ، ويتساءلون عن المجرمين : ما الذي أدخلكم سقر ؟ فيقر أولئك بذنوبهم ، بأنهم لم يؤمنوا ، ولم يتصدّقوا على الفقراء والمساكين ، وكانوا يكذّبون بيوم الدين . ففي ذلك اليوم لا تنفعهم شفاعة ، بل يكونون كالحمير الفارّة من الأسد بفعل الخوف والجزع ، وأن هذا القرآن { تذكرة ، فمن شاء ذكره وما يذكرون إلا أن يشاء الله هو أهل التقوى وأهل المغفرة . . . . } .

المدّثر : أصلُه المتدثر وهو الذي يتغطَّى بثيابه ويلتفّ بها .

يا أيها الذي تدثَّر بثيابه رعباً وخوفاً من رؤية الملَكِ .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلۡمُدَّثِّرُ} (1)

مقدمة السورة:

تفسير سورة المدثر [ وهي ] مكية

{ 1 - 7 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ * وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ * وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ }

تقدم أن المزمل والمدثر بمعنى واحد ، وأن الله أمر رسوله صلى الله عليه وسلم ، بالاجتهاد في عبادة الله القاصرة والمتعدية ، فتقدم هناك الأمر له بالعبادات الفاضلة القاصرة ، والصبر على أذى قومه ، وأمره هنا بإعلان الدعوة{[1274]} ، والصدع بالإنذار ، فقال : { قُمِ }


[1274]:- في ب: بالإعلان بالدعوة.
 
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلۡمُدَّثِّرُ} (1)

مقدمة السورة:

مكية في قول الجميع . وهي ست وخمسون آية .

وقال مقاتل : معظم هذه السورة في الوليد بن المغيرة . وفي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحدث – قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يحدث عن فترة الوحي - قال في حديثه : ( فبينما أنا أمشي سمعت صوتا من السماء فرفعت رأسي ، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالسا على كرسي بين السماء والأرض ) . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( فجئثت{[1]} منه فرقا ، فرجعت فقلت زملوني زملوني ، فدثروني ، فأنزل الله تعالى : " يا أيها المدثر . قم فأنذر . وربك فكبر . وثيابك فطهر . والرجز فاهجر " ) في رواية - قبل أن تفرض الصلاة - وهي الأوثان قال : ( ثم تتابع الوحي ) . خرجه الترمذي أيضا وقال : حديث حسن صحيح . قال مسلم : وحدثنا زهير بن حرب ، قال : حدثنا الوليد بن مسلم ، قال : حدثنا الأوزاعي قال : سمعت يحيى يقول : سألت أبا سلمة : أي القرآن أنزل قبل ؟ قال : " يا أيها المدثر " فقلت : أو " أقرأ " . فقال : سألت جابر بن عبد الله أي القرآن أنزل قبل ؟ قال : " يا أيها المدثر " فقلت : أو " أقرأ " فقال جابر : أحدثكم ما حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : ( جاورت بحراء شهرا ، فلما قضيت جواري نزلت فاستبطنت بطن الوادي ، فنوديت فنظرت أمامي وخلفي وعن يميني وعن شمالي فلم أر أحدا ، ثم نوديت فنظرت فلم أر أحدا ، ثم نوديت فرفعت رأسي فإذا هو على العرش في الهواء - يعني جبريل صلى الله عليه وسلم فأخذتني رجفة شديدة ، فأتيت خديجة فقلت دثروني ، فدثروني فصبوا علي ماء ، فأنزل الله عز وجل : " يا أيها المدثر . قم فأنذر . وربك فكبر وثيابك فطهر " ) خرجه البخاري وقال فيه : ( فأتيت خديجة فقلت دثروني وصبوا علي ماء باردا ، فدثروني وصبوا علي ماء باردا فنزلت : " يا أيها المدثر . قم فأنذر . وربك فكبر . وثيابك فطهر . والرجز فاهجر . ولا تمنن تستكثر " ) . ابن العربي : وقد قال بعض المفسرين إنه جرى على النبي صلى الله عليه وسلم من عقبة ( بن ربيعة{[2]} ) أمر ، فرجع إلى منزله مغموما ، فقلق واضطجع ، فنزلت : " يا أيها المدثر " وهذا باطل . وقال القشيري أبو نصر : وقيل بلغه قول كفار مكة أنت ساحر ، فوجد من ذلك غما وحم ، فتدثر بثيابه ، فقال الله تعالى : " قم فانذر " أي لا تفكر في قولهم ، وبلغهم الرسالة .

وقيل : اجتمع أبو لهب وأبو سفيان والوليد بن المغيرة والنضر بن الحرث وأمية بن خلف والعاص بن وائل ومطعم بن عدي وقالوا : قد اجتمعت وفود العرب في أيام الحج ، وهم يتساءلون عن أمر محمد ، وقد اختلفتم في الإخبار عنه ، فمن قائل يقول مجنون ، وآخر يقول كاهن ، وآخر يقول شاعر ، وتعلم العرب أن هذا كله لا يجتمع في رجل واحد ، فسموا محمدا باسم واحد يجتمعون عليه ، وتسميه العرب به ، فقام منهم رجل فقال : شاعر ، فقال الوليد : سمعت كلام ابن الأبرص ، وأمية بن أبي الصلت ، وما يشبه كلام محمد كلام واحد منهما ؛ فقالوا : كاهن . فقال : الكاهن يصدق ويكذب وما كذب محمد قط ؛ فقام آخر فقال : مجنون ، فقال الوليد : المجنون يخنق الناس وما خنق محمد قط . وانصرف الوليد إلى بيته ، فقالوا : صبأ الوليد بن المغيرة ، فدخل عليه أبو جهل وقال : مالك يا أبا عبد شمس ! هذه قريش تجمع لك شيئا يعطونكه ، زعموا أنك قد احتجت وصبأت . فقال الوليد : ما لي إلى ذلك حاجة ، ولكني فكرت في محمد ، فقلت : ما يكون من الساحر ؟ فقيل : يفرق بين الأب وابنه ، وبين الأخ وأخيه ، وبين المرأة وزوجها ، فقلت : إنه ساحر . شاع هذا في الناس وصاحوا يقولون : إن محمدا ساحر . ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيته محزونا فتدثر بقطيفة ، ونزلت : " يا أيها المدثر " . وقال عكرمة : معنى " يا أيها المدثر " أي المدثر بالنبوة وأثقالها . ابن العربي : وهذا مجاز بعيد ؛ لأنه لم يكن تنبأ بعد . وعلى أنها أول القرآن لم يكن تمكن منها بعد أن كانت ثاني ما نزل .

فيه ست مسائل :

الأولى- قوله تعالى : " يا أيها المدثر " أي يا ذا الذي قد تدثر بثيابه ، أي تغشى بها ونام ، وأصله المتدثر فأدغمت التاء في الدال لتجانسهما . وقرأ أبي " المتدثر " على الأصل .

الثانية- قوله تعالى : " يا أيها المدثر " : ملاطفة في الخطاب من الكريم إلى الحبيب إذ ناداه بحاله ، وعبر عنه بصفته ، ولم يقل يا محمد ويا فلان ، ليستشعر اللين والملاطفة من ربه كما تقدم في سورة " المزمل " . ومثله قول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي إذ نام في المسجد : ( قم أبا تراب ) وكان خرج مغاضبا لفاطمة رضي الله عنها فسقط رداؤه وأصابه ترابه ؛ خرجه مسلم . ومثله قوله عليه الصلاة والسلام لحذيفة ليلة الخندق : ( قم يا نومان ) وقد تقدم .


[1]:لعله عمرو بن مرة المذكور في سند الحديث (انظر ابن ماجه ج 1 ص 139 وسنن أبي داود ج 1 ص 77 طبع مصر).
[2]:في بعض النسخ: "أبي قاسم"
 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلۡمُدَّثِّرُ} (1)

مقدمة السورة:

سورة المدثر{[1]}

مقصودها الجد والاجتهاد في الإنذار بدار البوار لأهل الاستكبار ، وإثبات البعث في أنفس المكذبين الفجار ، والإشارة بالبشارة لأهل الادكار ، بحلم العزيز/الغفار ، واسمها المدثر{[2]} أدل ما فيها على ذلك ، وذلك واضح لمن تأمل النداء{[3]} والمنادى به والسبب { بسم الله } {[4]}الملك الأعلى الواحد القهار { الرحمن } الذي عم بنعمتي الإيجاد والبيان الأبرار والفجار { الرحيم* } الذي خص أهل أصفيائه بالاستبصار ، والتوفيق إلى ما يوصل إلى دار القرار .

ولما{[69659]} ختمت " المزمل " بالبشارة لأرباب{[69660]} البصارة بعدما بدئت بالاجتهاد{[69661]} في الخدمة المهيىء للقيام بأعباء الدعوة ، افتتحت هذه بمحط-{[69662]} حكمة الرسالة وهي النذارة لأصحاب{[69663]} الخسارة ، فقال معبراً بما فيه بشارة بالسعة في المال والرجال والصلاح وحسن الحال في الحال والمآل ، ومعرفاً بأن المخاطب في غاية اليقظة بالقلب وإن ستر القالب : { يا أيها المدثر * } المشتمل بثوبه ، من تدثر{[69664]} بالثوب : اشتمل به ، والدثار - بالكسر ما فوق الشعار من الثياب ، والشعار ما لاصق البدن " الأنصار شعار والناس دثار " والدثر : المال الكثير ، ودثر الشجر : أورق ، وتدثير الطائر : إصلاحه عشه ، والتعبير بالأداة الصالحة للقرب والبعد يراد به غاية القرب بما عليه السياق وإن كان التعبير بالأداة فيه نوع ستر {[69665]}لذلك مناسبة للتدثر{[69666]} ، واختير التعبير بها{[69667]} لأنه لا يقال بعدها إلى ما جل وعظم من الأمور ، وكان الدثار لم يعم بدنه الشريف بما دل عليه التعبير بالإدغام دون{[69668]} الإظهار الدال على المبالغة لأن المراد إنما كان ستر العين ليجتمع القلب ، فيكفي في ذلك ستر الرأس وما قاربه من البدن ، والإدغام شديد المناسبة للدثار .


[1]:- هكذا ثبتت العبارة في النسخة المخزونة بالرباط – المراقش التي جعلناها أصلا وأساسا للمتن، وكذا في نسخة مكتبة المدينة ورمزها "مد" وموضعها في نسخة دار الكتب المصرية ورمزها "م": رب زدني علما يا فتاح.
[2]:- في م ومد: قال أفقر الخلائق إلى عفو الخالق؛ وفي الأصل: أبو إسحاق – مكان: أبو الحسن، والتصحيح من الأعلام للزركلي ج1 ص 50 وعكس المخطوطة أمام ص 56 وهامش الأنساب للسمعاني ج2 ص280.
[3]:- ضبطه في الأعلام بضم الراء وتخفيف الباء.
[4]:- ضبطه الشيخ عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني رحمه الله في تعليقه على الأنساب ج2 ص280 وقال: البقاعي يكسر الموحدة وفتح القاف مخففة وبعد الألف عين مهملة بلد معروف بالشام ينسب إليه جماعة أشهرهم الإمام المفسر إبراهيم بن عمر بن حسن الرباط بن علي بن أبي بكر البقاعي أبو الحسن برهان الدين من أجلة أهل القرن التاسع له عدة مؤلفات ولد سنة 809 وتوفي سنة 885 – اهـ.
[69659]:من م، وفي الأصل و ظ: ولما.
[69660]:من ظ و م، وفي الأصل: لأهل.
[69661]:زيدت الواو في الأصل ولم تكن في ظ و م فحذفناها.
[69662]:زيد من ظ و م.
[69663]:من ظ و م، وفي الأصل: لأرباب.
[69664]:من ظ و م، وفي الأصل: تدثره.
[69665]:تكرر ما بين الرقمين في الأصل فقط.
[69666]:تكرر ما بين الرقمين في الأصل فقط.
[69667]:من م، وفي الأصل و ظ: به.
[69668]:من ظ و م، وفي الأصل: بدون.