تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته [إخفاء]  
{وَخُذۡ بِيَدِكَ ضِغۡثٗا فَٱضۡرِب بِّهِۦ وَلَا تَحۡنَثۡۗ إِنَّا وَجَدۡنَٰهُ صَابِرٗاۚ نِّعۡمَ ٱلۡعَبۡدُ إِنَّهُۥٓ أَوَّابٞ} (44)

41

44-{ وخذ بيدك ضغتا فاضرب به ولا تخنث إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب } .

كان أيوب في مرضه قد كلّف زوجته بأمر ، فأبطأت عليه ، فأقسم بالله لئن شفاه الله ليضربنها مائة ضربة ، ثم تمّ الشفاء ، ورغب في أن يبّر بقسمه ، وفي نفس الوقت كانت زوجته وفيّة له في محنته ، تعطف عليه ، وتتألم لألمه ، وتغمره بعطفها وحنانها وخدمتها ، بعد أن تفرق عنه الأهل والأصحاب ، فأمره الله أن يأخذ حِزْمة من حشيش أو ريحان ، يختلط فيها الرطب باليابس فيها مائة عود ، فيضرب زوجته ضربة واحدة ، فيبر في يمينه ولا يحنث ، وفي نفس الوقت ييسّر على زوجته الصابرة الوفية .

قال تعالى : { وخذ بيدك ضغتا فاضرب به ولا تحنث . . . }

حيث أمره الله أن يتحلل من قسَمِه بأهون شيء عليه وعليها ، والضغث في اللغة : القبضة من الحشيش ، اختلط فيها الرطب باليابس ، وقيل : هي قبضة من عيدان مختلفة ، يجمعها أصل واحد .

{ إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب } .

يأتي هذا الثناء من العلي القدير ، تقديرا لصبر أيوب وثباته ، ورجوعه إلى ربه ، ولا يقال إنه اشتكى ، لأن الشكوى لله تعالى تضرع ودعاء ومناجاة ، فقد قال يعقوب : { إنما أشكوا بثي وحزني إلى الله . . . }[ يوسف : 86 ] .

ومن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن آذاه أهل الطائف : " اللهم أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس ، يا رب العالمين ، أنت رب المستضعفين وأنت ربّي ، إلى من تكلني ؟ إلى عدو يتجهمني ، أو بعيد ملكته أمري ، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة ، أن ينزل بي سخطك ، أو يحلّ عليّ غضبك ، لك العتبى حتى ترضى ، عافيتك هي أوسع لي ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم "

وتضرع يونس في بطن الحوت ، وظلام البحر ، وظلام النفس : { فنادى في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين } . [ الأنبياء : 87 ] .

لقد تعرض الأنبياء والمرسلون لكثير من الآلام في الدنيا ، فكانوا يرفعون أكفّهم إلى الله ، يشتكون البلاء ويسألون الله العافية ، لقد وضع في النار إبراهيم ، وأضجع للذبح إسماعيل ، واشتد البلاء بأيوب ، وبكى يعقوب : { وابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم } . [ يوسف : 84 ] .

وخرج موسى من مصر خائفا يترقب قال : ربي نجني من القوم الظالمين ، واشتد الجوع والمعاناة بموسى ، فقال : { رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير * فجاءته إحداهما تمشي على استحياء قالت إن أبي يدعوك ليجزيك أجر ما سقيت لنا فلما جاءه وقص عليه القصص قال لا تخف نجوت من القوم الظالمينّ } . [ القصص : 24-25 ] .

وتعرض المسيح لمحاولة قتله وصلبه ، قال تعالى : { وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم . . . } . [ النساء : 157 ] .

وكانت حياة النبي صلى الله عليه وسلم في مكة والمدينة ملحمة طويلة من العمل والأمل والأحزان ، والدعاء الذي حفلت به كتب السّنة ، فقد اشتكى إلى الله حين قُتل سبعون من القراء عند بئر معونة ، وألحف إلى ربه في الدعاء عند الهجرة ، وعند غزوة بدر ، وفي غزوة الأحزاب جثا صلى الله عليه وسلم على ركبتيه في ليلة باردة شاتية ، وقال : " اللهم رب الأرباب ومسبب الأسباب اهزم الأحزاب ، اللهم اهزمهم وانصرنا عليهم يا رب العالمين ، يا جار المستجيرين ، ويا أمان الخائفين ، يا ملاذ المضطرين ، انصرنا عليهم يا رب العالمين ، فأرسل الله ريحا عاتية ، خلّعت خيام الكافرين ، وكفأت قدورهم ، وألقى الله الرعب في قلوبهم ، ففرّوا مذعورين .

قال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها وكان الله بما تعملون بصيرا } . [ الأحزاب : 9 ] .

فاللجوء إلى الله والشكوى إليه ، والتضرع والدعاء ، عبادة وتذلل وإنابة .

وفي الحديث يقول النبي صلى الله عليه وسلم : " عجبت لمن ابتلي بثلاث كيف يغفل عن ثلاث : من ابتلي بالمرض كيف يغفل عن دعاء أيوب لربّه : { أني مسني الضر وأنت أرحم الراحمين } . [ الأنبياء : 83 ] .

ومن ابتلى بالغم كيف يغفل عن دعاء يونس : { لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين } . [ الأنبياء : 87 ] .

فإن الله تعالى يقول : { فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين } . [ الأنبياء : 88 ] .

ومن ابتلي بالأعداء كيف يغفل عن قول المؤمنين : { حسبنا الله ونعم الوكيل } . [ آل عمران : 173 ] .

فإن الله يقول : { فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم . [ آل عمران : 174 ] .

والخلاصة :

إن شكوى أيوب إلى ربّه ، دعاء وتضرع وإنابة ، وقد استجاب الله دعاءه ، وفرّج كربه ، وانعم عليه بالشفاء ، ويسر له التواصل مع زوجته الصابرة ، ثم أثنى عليه ثناء خالدا أبدا الآبدين ، فقال : { إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب } .

لقد وجدناه صابرا محتسبا ، نعم العبد الطيع لربه ، أنه أوّاب كثير الأوبة والرجوع والذكر والتسبيح لله رب العالمين .

من دعاء أيوب

روى أن أيوب كان يقول كلما أصابته مصيبة : الله أنت أخذت ، وأنت أعطيت ، وكان يقول في مناجاته : إلهي قد علمت أنه لم يخالف لساني قلبي ، ولم يتبع قلبي بصري ، ولم يلهني ما ملكت يميني ، ولم آكل إلا ومعي يتيم ، ولم أبت شبعان ولا كاسيا ومعي جائع أو عريان .

 
تيسير التفسير لإبراهيم القطان - إبراهيم القطان [إخفاء]  
{وَخُذۡ بِيَدِكَ ضِغۡثٗا فَٱضۡرِب بِّهِۦ وَلَا تَحۡنَثۡۗ إِنَّا وَجَدۡنَٰهُ صَابِرٗاۚ نِّعۡمَ ٱلۡعَبۡدُ إِنَّهُۥٓ أَوَّابٞ} (44)

والآية الثانية : { وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فاضرب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِّعْمَ العبد إِنَّهُ أَوَّابٌ } : كان أيوب قد حلفَ أن يضرب أحداً من أهله ، يقال إنها امرأته ، عدداً من العصّي ، حلل الله يمينه بأن يأخذ حزمة فيها العدد الذي حلف أن يضرب به ، فيضرب بالحزمة مَنْ حَلَفَ على ضربه ، فيبر بيمينه بأقل ألم . وقد منّ الله عليه بذلك ، لأنَّ الله وجده صابراً على بلائه ، فاستحق بذلك الثناء ، { نِعْمَ العبد إِنَّهُ أَوَّابٌ } منيبٌ إلى الله .

 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{وَخُذۡ بِيَدِكَ ضِغۡثٗا فَٱضۡرِب بِّهِۦ وَلَا تَحۡنَثۡۗ إِنَّا وَجَدۡنَٰهُ صَابِرٗاۚ نِّعۡمَ ٱلۡعَبۡدُ إِنَّهُۥٓ أَوَّابٞ} (44)

ولما أجمل العذاب الصالح لألم الظاهر ، وذكر المخلص منه ، أتبعه التنبيه على أعظمه وهو ألم الباطن ، بل أبطن الباطن التعلق بالاعتقاد فيما وسوس لزوجه رضي الله عنها بما كاد يزلها فحلف ليضربنها مائة لئلا تعود إلى شيء من ذلك فيزلها عن مقامها كما أزل غيرها فأرشده سبحانه وتعالى إلى المخلص من ذلك الحلف على أخف وجه لأنها كانت صابرة محسنة ، فشكر الله لها ذلك ، وجعل هذا المخلص بعدها سنة باقية لعباده تعظيماً لأجرها وتطييباً لذكرها فقال عاطفاً على { اركض } { وخذ بيدك } أي التي قد صارت في غاية الصحة { ضغثاً } أي حزمة صغيرة من حشيش فيها مائة عود كشمراخ النخلة ، قال الفراء : هو كل ما جمعته من شيء مثل الحزمة الرطبة ، وقال السمين : وأصل المادة يدل على جميع المختلطات { فأضرب به } أي مطلق ضرب ضربة واحدة { ولا تحنث } في يمينك أي تأثم بترك ما حلفت على فعله ، فهذا تخفيف على كل منهما لصبره ، ولعل الكفارة لم تكن فيهم وخصنا الله بها مع شرعه فينا ما أرخصه له تشريفاً لنا ، وكل هذا إعلاماً بأن الله تعالى ابتلاه صلى الله عليه وسلم في بدنه وولده وماله ، ولم يبق له إلا زوجة فوسوس لها الشيطان طمعاً في إيذائهما كما آذى آدم وحواء عليهما السلام ، إلى أن قارب منها بعض ما يريد ، والمراد بالإعلام به تذكير النبي صلى الله عليه وسلم بأنه إن كان مكن الشيطان من الوسوسة لأقاربه والإغواء والإضلال فقد منّ عليه بزوجه أعظم وزراء الصدق وكثير من أقاربه الأعمام وبني الأعمام وغيرهم ، وحفظ له بدنه وماله ليزداد شكره لله تعالى ، وفي القصة إشارة إلى أنه قادر على أن يطيع له من يشاء ، فإنه قادر على التصرف في المعاني كقدرته على التصرف في الذوات ، وأنه سبحانه يهب لهذا النبي الكريم قومه العرب الذين هم الآن أشد الناس عليه وغيرهم فيطيعه الكل .

ولما كان الصبر والأفعال المرضية عزيزة في العباد لا تكاد توجد فلا يكاد يصدق بها ، علل سبحانه هذا الإكرام له صلى الله عليه وسلم وأكده ، فقال على سبيل الاستنتاج مما تقدم رداً على من يظن أن الشكوى إليه تنافي الصبر ، وإشارة إلى أن السر في التذكير به التأسي في الصبر : { إنا } أي على ما لنا من العظمة { وجدناه } أي في عالم الشهادة طبق ما كان لنا في عالم الغيب ليتجدد للناس من العلم بذلك ما كنا به عالمين ، ولما كان السياق للحث على مطلق الصبر في قوله تعالى

{ واصبر على ما يقولون }[ المزمل : 10 ] أتى باسم الفاعل مجرداً على مبالغة فقال : { صابراً } ثم استأنف قوله : { نعم العبد } ثم علل بقوله مؤكداً لئلا يظن أن بلاءه قادح في ذلك : { إنه أواب * } أي رجاع بكليته إلى الله سبحانه على خلاف ما يدعو إليه طبع البشر ، قال الرازي في اللوامع : قال ابن عطاء : واقف معنا بحسن الأدب لا يغيره دوام النعمة ، ولا يزعجه تواتر البلاء والمحنة ، روى عبد بن حميد في مسنده عن أبي سعيد رضي الله عنه قال : وضع رجل يده على النبي صلى الله عليه وسلم فقال : والله ما أطيق أن أضع يدي عليك من شدة حماك ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " إنا معشر الأنبياء يضاعف لنا البلاء كما يضاعف لنا الأجر ، إن كان النبي من الأنبياء ليبتلي بالقمل حتى يقتله وإن كان النبي من الأنبياء ليبتلي بالفقر حتى يأخذ العباة فيحويها وإن كانوا ليفرحون بالبلاء كما يفرحون بالرخاء " .