الأعراب : هم سكان البادية بخاصة ، والأعراب اسم جنس وليس جمعا ، والنسبة إليه أعرابي ، والمراد بهم هنا جماعة منهم لا كلهم ، أما العرب فهم أهل الأمصار ، وهو اسم جنس أيضا ، والنسبة إليه عربي .
آمنا : صدقنا بألسنتنا وقلوبنا .
أسلمنا : صدقنا بألسنتنا دون قلوبنا .
لا يلتكم : لا ينقصكم ، يقال : لاته يلته إذا نقصه ، حكى الأصمعي عن أم هشام السلولية : ( الحمد لله الذي لا يُفات ولا يُلات ولا تُصمُّه الأصوات ) .
14- { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }
وقد استفيد من هذه الآية الكريمة أن الإيمان أخص من الإسلام ، كما هو مذهب أهل السنة والجماعة ، ويدل عليه حديث جبريل حين سأل عن الإسلام ، ثم عن الإيمان . . فترقى من الأعم إلى الأخص .
كما دل هنا على أن هؤلاء الأعراب المذكورين في هذه الآية إنما هم مسلمون ، لم يستحكم الإيمان في قلوبهم ، فادعوا لأنفسهم مقاما أعلى مما وصلوا إليه ؛ فأدبوا بذلك . اه .
ادعت فئة من الأعراب أنهم آمنوا ، أي صدقوا بالله تعالى ربا ، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا ، وبالإسلام دينا ، بينما واقعهم غير ذلك ، فهم أظهروا الإسلام طمعا في المغانم ، فالأموال عندهم أهم من ثواب الآخرة .
{ قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم . . . }
أعلم الله رسوله بحقيقة حالهم ، وأن الإيمان لم يتمكن من قلوبهم .
أي : قل لهم : لم تؤمنوا حين قدمتم إلي ، ولكن ، { قولوا أسلمنا . . . }
أي : سالمناك ولن ننضم إلى قوم يحاربونك ، ولا نقف في حرب ضدك .
{ ولما يدخل الإيمان في قلوبكم . . . }
تفيد لما في النحو قرب وقوع ما بعدها ، تقول : قاربت الوصول إلى بلدتي ولما أدخلها ، أي : أتوقع قريبا دخولها ، والقرآن يشوقهم إلى قرب دخول الإيمان إلى قلوبهم ، والانضمام إلى جماعة المسلمين المخلصين .
{ وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا . . . }
إذا أطعتم الله ورسوله بالدخول الحقيقي في دين الإسلام ، فإن الله لا ينقصكم من ثواب أعمالكم شيئا .
فهو واسع المغفرة ، رحيم بعباده ، يأخذ بأيديهم إلى طاعته ، ويتقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات .
وفي الآية أدب جميل من أدب الخطاب ، وفيها استمالة إلى الإيمان وتحريض عليه ، وفتح أبواب التوبة والمغفرة لهم متى أخلصوا .
آمنا : صدّقنا بما جئت به من الشرائع ، فالإيمان هو التصديق بالقلب .
أسلمنا : انقدْنا لك ونطقنا بالشهادتين وعملنا بما تأمرنا به .
يمنّون عليك أن أسلموا : يذكرون ذلك ذِكر من اصطنع لك صنيعة ، وأسدى إليك معروفا .
ثم بعد أن بيّن الله لنا أن الناس جميعاً إخوة لأمٍ وأبٍ وحثّنا على التقوى والعمل الصالح ، بين هنا أن الإيمان وحده لا يكفي ، والإيمانُ هو التصديق بالقلب ، وأن الإسلام هو التصديقُ والطاعة الظاهرة بأداء الواجبات واجتناب النواهي . وكان في زمن الرسول الكريم أناسٌ من الأعراب في إيمانهم ضَعف ، وقلوبهم مشغولة تريد المغانم وعرض الدنيا . فقال الله تعالى :
{ قَالَتِ الأعراب آمَنَّا . . . . . }
قالت الأعراب بألسنتهم : آمنا ، فقل لهم يا محمد : إنكم لم تؤمنوا ، لأن قلوبكم لم تصدّق ما نطقتم به ، ولكن قولوا أسلمنا وانقدنا ظاهراً لرسالتك ، لأن الإيمان لم يدخل في قلوبكم بعد . وإن تطيعوا اللهَ ورسوله صادقين لا يَنقصُكم الله من ثواب أعمالكم شيئا .
ثم يؤكد الله رحمته ولطفه بعباده فيقول : { إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } سَتّارٌ للهفوات غفارٌ للزلات ، فسارِعوا إلى التوبة .
قرأ أهل البصرة : لا يألتكم بالهمزة ، والباقون : لا يَلتكم بلا همزة ، وهما لغتان : ألت يألت ، ولات يليت . واللغتان في القرآن الكريم . ففي سورة الطور { وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ } [ الطور : 21 ] .
{ قالت الأعراب آمنا } : هم نفر من بني أسد قدموا على الرسول وقالوا له آمنا وهم غير مؤمنين .
{ قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا } : أي قل لهم إنكم ما آمنتم بعد ولكن قولوا أسلمنا أي استسلمنا وانقدنا .
{ ولما يدخل الإِيمان في قلوبكم } : أي ولما يدخل الإِيمان بعد في قلوبكم ولكنه يتوقع له الدخول .
{ وإن تطيعوا الله ورسوله } : أي في الإِيمان والقيام بالفرائض واجتناب المحارم .
{ لا يلتكم من أعمالكم شيئا } : أي لا ينقصكم من ثواب أعمالكم شيئا .
{ إن الله غفور رحيم } : أي غفور للمؤمنين رحيم بهم إن هم صدقوا في إيمانهم .
قوله تعالى { قالت الأعراب آمنا } هؤلاء جماعة من أعراب بني أسد وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة بأولادهم ونسائهم في سنة مجدبة فأظهروا له الإسلام ولم يكونوا مؤمنين في نفوسهم ، فكانوا يفدون على رسول الله ويروحون ويقولون : أتتك العرب بأنفسها على ظهور رواحلها ، ونحن قد جئناك بالأطفال والعيال والذراري ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان وبنو فلان ، يمنون على رسول الله وهم يريدون الصدقة ويقولون أعطنا فأنزل الله تعالى هذه الآية تربية لهم وتعليما إتماما لما اشتملت عليه سورة الحجرات من أنواع الهداية والتربية الإِسلامية فقال تعالى { قالت الأعراب } أعراب بني أسد آمنا أي صدَّقنا بتوحيد الله وبنبوتك . قل لهم ردا عليهم لم تؤمنوا بعد ، ولكن الصواب أن تقولوا أسلمنا أي أذعنا للإسلام وانقدنا لقبوله وهو الإِسلام الظاهري ، ولما يدخل الإِيمان في قلوبكم بعد وسيدخل إن شاء الله . وإن تطيعوا الله ورسوله أيها الأعراب في الإِيمان الحق وفي غيره من سائر التكاليف لا يلتكم أي لا ينقصكم الله تعالى من أجور أعمالكم الصالحة التي تعملونها طاعة لله ورسوله شيئا وإن قل .
وقوله غفور رحيم في هذه الجملة ترغيب لهم في الإِيمان الصادق والإِسلام الصحيح فأعلمهم أن الله تعالى غفور للتائبين رحيم بهم وبالمؤمنين فتوبوا إليه واصدقوه يغفر لكم ويرحمكم .
- بيان طبيعة أهل البادية وهي الغلظة والجفاء والبعد عن الكياسة والأدب .
- بيان الفرق بين الإِيمان والإِسلام إذا اجتمعا فالإِيمان أعمال القلوب والإِسلام من أعمال الجوارح . وإذا افترقا فالإِيمان هو الإِسلام ، والإِسلام هو الإِيمان والحقيقة هي أنه لا يوجد إيمان صحيح بدون إسلام صحيح ، ولا إسلام صحيح بدون إيمان صحيح ، ولكن يوجد إسلام صوري بدون إيمان ، وتوجد دعوى إيمان كاذبة غير صادقة .
{ 14-18 } { قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم * يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ }
يخبر تعالى عن مقالة الأعراب ، الذين دخلوا في الإسلام في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، دخولاً من غير بصيرة ، ولا قيام بما يجب ويقتضيه الإيمان ، أنهم ادعوا مع هذا وقالوا : آمنا أي : إيمانًا كاملاً ، مستوفيًا لجميع أموره هذا موجب هذا الكلام ، فأمر الله رسوله ، أن يرد عليهم ، فقال : { قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا } أي : لا تدعوا لأنفسكم مقام الإيمان ، ظاهرًا ، وباطنًا ، كاملاً .
{ وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا } أي : دخلنا في الإسلام ، واقتصروا على ذلك .
{ و } السبب في ذلك ، أنه { لَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } وإنما آمنتم خوفًا ، أو رجاء ، أو نحو ذلك ، مما هو السبب في إيمانكم ، فلذلك لم تدخل بشاشة الإيمان في قلوبكم ، وفي قوله : { وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ } أي : وقت هذا الكلام ، الذي صدر منكم فكان فيه إشارة إلى أحوالهم بعد ذلك ، فإن كثيرًا منهم ، من الله عليهم بالإيمان الحقيقي ، والجهاد في سبيل الله ، { وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ } بفعل خير ، أو ترك شر { لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا } أي : لا ينقصكم منها ، مثقال ذرة ، بل يوفيكم إياها ، أكمل ما تكون لا تفقدون منها ، صغيرًا ، ولا كبيرًا ، { إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } أي : غفور لمن تاب إليه وأناب ، رحيم به ، حيث قبل توبته .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: قالت الأعراب: صدّقنا بالله ورسوله، فنحن مؤمنون، قال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد لهم:"لَمْ تُؤْمِنُوا "ولستم مؤمنين، "وَلَكِنْ قُولُوا أسْلَمْنا". وذُكر أن هذه الآية نزلت في أعراب من بني أسد... واختلفت أهل التأويل في السبب الذي من أجله قيل للنبيّ صلى الله عليه وسلم: قل لهؤلاء الأعراب: قولوا أسلمنا، ولا تقولوا آمنا، فقال بعضهم: إنما أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بذلك، لأن القوم كانوا صدّقوا بألسنتهم، ولم يصدّقوا قولهم بفعلهم، فقيل لهم: قولوا أسلمنا، لأن الإسلام قول، والإيمان قول وعمل... قال ابن زيد، في قوله: "قَالتِ الأعْرَابُ آمَنّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا" قال: لم يصدّقوا إيمانهم بأعمالهم، فردّ الله ذلك عليهم "قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أسْلَمْنا"، وأخبرهم أن المؤمنين الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله، أولئك هم الصادقون، صدّقوا إيمانهم بأعمالهم فمن قال منهم: أنا مؤمن فقد صدق قال: وأما من انتحل الإيمان بالكلام ولم يعمل فقد كذب، وليس بصادق...
وقال آخرون: إنما أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بقيل ذلك لهم، لأنهم أرادوا أن يتسموا بأسماء المهاجرين قبل أن يهاجروا، فأعلمهم الله أن لهم أسماء الأعراب، لا أسماء المهاجرين...
وقال آخرون: قيل لهم ذلك لأنهم منوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بإسلامهم، فقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل لهم لم تؤمنوا، ولكن استسلمتم خوف السباء والقتل...
وأولى الأقوال بالصواب في تأويل ذلك... هو أن الله تقدّم إلى هؤلاء الأعراب الذين دخلوا في الملة إقرارا منهم بالقول، ولم يحققوا قولهم بعملهم أن يقولوا بالإطلاق آمنا دون تقييد قولهم بذلك بأن يقولوا آمنا بالله ورسوله، ولكن أمرهم أن يقولوا القول الذي لا يشكل على سامعيه والذي قائله فيه محقّ، وهو أن يقولوا أسلمنا، بمعنى: دخلنا في الملة والأموال، والشهادة الحقّ.
قوله: "وَلمّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ" يقول تعالى ذكره: ولما يدخل العلم بشرائع الإيمان، وحقائق معانيه في قلوبكم.
وقوله: "وَإنْ تُطِيعُوا الله وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ أعمالِكُمْ شَيئا" يقول تعالى ذكره: لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهؤلاء الأعراب القائلين آمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبهم، إن تطيعوا الله ورسوله أيها القوم، فتأتمروا لأمره وأمر رسوله، وتعملوا بما فرض عليكم، وتنتهوا عما نهاكم عنه، "لا يَلِتْكُمْ مِنْ أعمالِكُمْ شَيْئا" يقول: لا يظلمكم من أجور أعمالكم شيئا ولا ينقصكم من ثوابها شيئا... وقوله: "إنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ" يقول تعالى ذكره: إن الله ذو عفو أيها الأعراب لمن أطاعه، وتاب إليه من سالف ذنوبه، فأطيعوه، وانتهوا إلى أمره ونهيه، يغفر لكم ذنوبكم، رحيم بخلقه التائبين إليه أن يعاقبهم بعد توبتهم من ذنوبهم على ما تابوا منه، فتوبوا إليه يرحمكم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
الإيمان: هو التصديق مع الثقة وطمأنينة النفس. والإسلام: الدخول في السلم. والخروج من أن يكون حرباً للمؤمنين بإظهار الشهادتين. ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِي قُلُوبِكُمْ} فاعلم أنّ ما يكون من الإقرار باللسان من غير مواطأة القلب فهو إسلام، وما واطأ فيه القلب اللسان فهو إيمان. فإن قلت: ما وجه قوله تعالى: {قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قُولُواْ أَسْلَمْنَا} والذي يقتضه نظم الكلام أن يقال: قل لا تقولوا آمنا، ولكن قولوا أسلمنا. أو قل لم تؤمنوا ولكن أسلمتم؟ قلت: أفاد هذا النظم تكذيب دعواهم أوّلاً، ودفع ما انتحلوه، فقيل: قل لم تؤمنوا. وروعي في هذا النوع من التكذيب أدب حسن حين لم يصرّح بلفظه، فلم يقل: كذبتم، ووضع {لَّمْ تُؤْمِنُواْ} الذي هو نفي ما ادعوا إثباته موضعه، ثم نبه على ما فعل من وضعه موضع كذبتم في قوله في صفة المخلصين {أُوْلَئِكَ هُمُ الصادقون} [الحجرات: 15] تعريضاً بأن هؤلاء هم الكاذبون، ورب تعريض لا يقاومه التصريح، واستغنى بالجملة التي هي لم: {تُؤْمِنُواْ} عن أن يقال: لا تقولوا آمنا، لاستهجان أن يخاطبوا بلفظ مؤدّاه النهي عن القول بالإيمان، ثم وصلت بها الجملة المصدّرة بكلمة الاستدراك محمولة على المعنى، ولم يقل: ولكن أسلمتم، ليكون خارجاً مخرج الزعم والدعوى، كما كان قولهم: {ءَامَنَّا} كذلك، ولو قيل: ولكن أسلمتم، لكان خروجه في معرض التسليم لهم والاعتداد بقولهم وهو غير معتدّ به...
{إن أكرمكم عند الله أتقاكم} والأتقى لا يكون إلا بعد حصول التقوى، وأصل الإيمان هو الاتقاء من الشرك، قالت الأعراب لنا النسب الشريف، وإنما يكون لنا الشرف، قال الله تعالى: ليس الإيمان بالقول، إنما هو بالقلب. فما آمنتم لأنه خبير يعلم ما في الصدور...
المسألة الثالثة: قوله تعالى: {ولكن قولوا} يقتضي قولا سابقا مخالفا لما بعده، كقولنا لا تقدموا آمنا ولكن قولوا أسلمنا وفي ترك التصريح به إرشاد وتأديب كأنه تعالى لم يجز النهي عن قولهم {آمنا} فلم يقل لا تقولوا آمنا وأرشدهم إلى الامتناع عن الكذب فقال: {لم تؤمنوا} فإن كنتم تقولون شيئا فقولوا أمرا عاما، لا يلزم منه كذبكم وهو كقولهم {أسلمنا} فإن الإسلام بمعنى الانقياد حصل...
المسألة الرابعة: المؤمن والمسلم واحد عند أهل السنة، فكيف يفهم ذلك مع هذا؟ نقول بين العام والخاص فرق، فالإيمان لا يحصل إلا بالقلب وقد يحصل باللسان، والإسلام أعم لكن العام في صورة الخاص متحد مع الخاص ولا يكون أمرا آخر غيره... قوله تعالى: {وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم} أي لا ينقصكم والمراد أنكم إذا أتيتم بما يليق بضعفكم من الحسنة فهو يؤتيكم ما يليق به من الجزاء...
وفيه تحريض على الإيمان الصادق، لأن من أتى بفعل من غير صدق نية يضيع عمله ولا يعطي عليه أجرا فقال: {وإن تطيعوا} وتصدقوا لا ينقص عليكم، فلا تضيعوا أعمالكم بعدم الإخلاص، وفيه أيضا تسلية لقلوب من تأخر إيمانه، كأنه يقول غيري سبقني وآمن حين كان النبي وحيدا وآواه حين كان ضعيفا، ونحن آمنا عندما عجزنا عن مقاومته وغلبنا بقوته، فلا يكون لإيماننا وقع ولا لنا عليه أجر، فقال تعالى إن أجركم لا ينقص وما تتوقعون تعطون، غاية ما في الباب أن التقدم يزيد في أجورهم، وماذا عليكم إذا أرضاكم الله أن يعطي غيركم من خزائن رحمته رحمة واسعة...
{إن الله غفور رحيم} أي يغفر لكم ما قد سلف ويرحمكم بما أتيتم به...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
يقول تعالى منكرا على الأعراب الذين أول ما دخلوا في الإسلام ادعوا لأنفسهم مقام الإيمان، ولم يتمكن الإيمان في قلوبهم بعد: {قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ}. وقد استفيد من هذه الآية الكريمة: أن الإيمان أخص من الإسلام كما هو مذهب أهل السنة والجماعة، ويدل عليه حديث جبريل، عليه السلام، حين سأل عن الإسلام، ثم عن الإيمان، ثم عن الإحسان، فترقى من الأعم إلى الأخص، ثم للأخص منه...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{قالت الأعراب} أي أهل البادية من بني أسد وغيرهم الذين هم معدن الغلظة والجفاء- الذين تقدم تأديبهم في سورة الفتح، وألحق التاء في فعلهم إشارة إلى ضعفهم في العزائم...
{آمنا} أي- بجميع ما جئت به فامتثلنا ما أمرنا به في هذه السورة ولنا النسب الخالص، فنحن أشرف من غيرنا من أهل المدر...
{قل} أي تكذيباً لهم مع مراعاة الأدب في عدم التصريح بالتكذيب: {لم تؤمنوا} أي لم تصدق قلوبكم لأنكم لو أمنتم لم تمنوا بإيمانكم لأن الإيمان التصديق بجميع ما لله من الكمال الذي منه أنه لولا منه بالهداية لم يحصل الإيمان، فله ولرسوله -الذي كان ذلك على يديه- المن والفضل...
. {ولكن قولوا} لأنكم أسلمتم للدنيا لا للدين، وعدل عنه لئلا تكون شهادة لهم بالإسلام في الجملة: {أسلمنا} أي أظهرنا الانقياد في الظاهر للأحكام الظاهرة فأمنا من أن نكون حزباً للمؤمنين وعوناً للمشركين...
. {ولما يدخل} أي- إلى هذا الوقت {الإيمان} أي- المعرفة التامة {في قلوبكم} فلا يعد إقرار اللسان إيماناً إلا بمواطأة القلب، فعصيتم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وأحبطتم أعمالكم، والتعبير ب "لما " يفهم أنهم آمنوا بعد ذلك، ويجوز أن يكون المراد بهذا النفي نفي التمكن في القلب، لا نفي مطلق الدخول بدليل {إنما المؤمنون} دون إنما- الذين آمنوا...
{وإن تطيعوا الله} أي الملك الذي من خالفه لم يأمن عقوبته {ورسوله} الذي طاعته من طاعته على ما أنتم عليه من الأمر الظاهري فتؤمن قلوبكم {لا يلتكم} أي ينقصكم ويبخسكم...
{إن الله} أي الذي له صفات الكمال {غفور} أي ستور للهفوات والزلات لمن تاب وصحت نيته، ولغيره إذا أراد، فلا عتاب ولا عقاب {رحيم} أي يزيد على الستر عظيم الإكرام.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
كان من بين الوفود التي وفدت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنة تسع المسماة سنةَ الوفود، وفْدُ بني أسدٍ بننِ خُزيمة وكانوا ينزلون بقرب المدينة، وكان قدومهم المدينة عقب قدوم وفد بني تميم الذي ذُكر في أول السورة، ووفَدَ بنُو أسد في عدد كثير وفيهم ضِرار بن الأزْوَر، وطُلَيْحَة بن عبد الله (الذي ادعى النبوءة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم أيام الردة)، وكانت هذه السنة سنة جدب ببلادهم فأسلموا وكانوا يقولون للنبيء صلى الله عليه وسلم أتتك العرب بأنفسها على ظهور رواحلها وجئناك بالأثقال والعيال والذراري ولمْ نقاتلك كما قاتلك محارب خَصَفَةَ وهوازنُ وغَطفانَ. يفدون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويروحون بهذه المقالة ويمنُّون عليه ويريدون أن يَصرف إليهم الصدقات، فأنزل الله فيهم هذه الآيات إلى آخر السورة لوقوع القصتين قصة وفد بني تميم وقصة وفد بني أسد في أيام متقاربة، والأغراض المسكوَّة بالجَفاء متناسبة. وقال السدّي: نزلت في الأعراب المذكورين في سورة الفتح (11) في قوله تعالى: {سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا} الآية.
قالوا آمنا ليأمنوا على أنفسهم وأموالهم فلما استنفروا إلى الحديبية تخلفوا فنزلت هذه الآية.
والأعراب: سكان البادية من العَرب. وأحسب أنه لا يطلق على أهل البادية من غير العرب، وهو اسم جمع لا مفرد له فيكون الواحد منه بياء النسبة أعرابي.
وتعريف {الأعراب} تعريف العهد لإعراب معينين وهم بنو أسد فليس هذا الحكم الذي في الآية حاقاً على جميع سكان البوادي ولا قال هذا القول غير بني أسد.
وهم قالوا آمنا حين كانوا في شك لم يتمكن الإيمان منهم فأنبأهم الله بما في قلوبهم وأعلمهم أن الإيمان هو التصديق بالقلب لا بمجرد اللسان لقصد أن يخلصوا إيمانهم ويتمكنوا منه كما بينه عقب هذه الآية بقوله: {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله} الآية.
والاستدراك بحرف (لكن) لرفع ما يتوهم من قوله: {لم تؤمنوا} أنهم جاؤوا مضمرين الغدْر بالنبي صلى الله عليه وسلم وإنما قال: {ولكن قولوا أسلمنا} تعليماً لهم بالفرق بين الإيمان والإسلام فإن الإسلام مَقرُّه اللسان والأعمالُ البدنية، وهي قواعد الإسلام الأربعة: الصلاة والزكاة وصيام رمضان وحج الكعبة الوارد في حديث عمر عن سُؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسلام والإيمان والإحسان والساعة « الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله محمداً رسول الله وتقيم الصلاة وتأتي الزكاة وتصوم رمضان وتحُجّ البيت إن استطعتَ إليه سبيلا» فهؤلاء الأعراب لما جاءوا مظهرين الإسلام وكانت قلوبهم غير مطمئنة لعقائد الإيمان لأنهم حديثو عهد به كذبهم الله في قولهم {آمنَّا} ليعلموا أنهم لم يخف باطنهم على الله، وأنه لا يتعدّ بالإسلام إلا إذا قارنه الإيمان، فلا يغني أحدهما بدون الآخر، فالإيمان بدون إسلام عناد، والإسلام بدون إيمان نفاق، ويجمعهما طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وكان مقتضى ظاهر نظم الكلام أن يقال: قل لم تؤمنوا ولكن أسلمتم، أو أن يقال: قل لا تقولوا آمنا ولكن قولوا أسلمنا، ليتوافق المستدرك عنه والاستدراك بحسب النظم المتعارف في المجادلات، فعدل عن الظاهر إلى هذا النظم لأن فيه صراحة بنفي الإيمان عنهم فلا يحسبوا أنهم غالطوا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
واستغني بقوله: {لم تؤمنوا} عن أن يقال: لا تقولوا آمنا، لاستهجان أن يخاطبوا بلفظ مُؤدّاه النهي عن الإعلان بالإيمان لأنهم مطالبون بأن يؤمنوا ويقولوا آمنا قولا صادقاً لا كاذباً فقيل لهم {لم تؤمنوا} تكذيباً لهم مع عدم التصريح بلفظ التكذيب ولكن وقع التعريض لهم بذلك بعد في قوله: {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا} إلى قوله: {أولئك هم الصادقون} أي لا أنتم ولذلك جيء بالاستدراك محمولاً على المعنى.
وعدل عن أن يقال: ولكن أسلمتم إلى {قولوا أسلمنا} تعريضاً بوجوب الصدق في القول ليطابق الواقع، فهم يشعرون بأن كذبهم قد ظهر، وذلك مما يُتعير به، أي الشأن أن تقولوا قولاً صادقاً.
وقوله: {ولما يدخل الإيمان في قلوبكم} واقع موقع الحال من ضمير {لم تؤمنوا} وهو مبيّنٌ لمعنى نفي الإيمان عنهم في قوله: {لم تؤمنوا} بأنه ليس انتفاء وجود تصديق باللسان ولكن انتفاء رسوخه وعقد القلب عليه إذ كان فيهم بقية من ارتياب كما أشعر به مقابلته بقوله: {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا}.
واستعير الدخول في قوله: {ولما يدخل الإيمان في قلوبكم} للتمكن وعدم التزلزل لأن الداخل إلى المكان يتمكن ويَسْتقر والخارج عنه يكون سريع المفارقة له مستوفزاً للانصراف عنه.
و (لمّا) هذه أخت (لم) وتدل على أن النفي بها متصل بزمان التكلم وذلك الفارق بينها وبين (لم) أختها. وهذه الدلالة على استمرار النفي إلى زمن التكلم تؤذن غالباً، بأن النمفي بها متوقع الوقوع. قال في « الكشاف» « وما في (لمّا) من معنى التوقع دال على أن هؤلاء قد آمنوا فيما بعد».
وهي دلالة من مستتبعات التراكيب. وهذا من دقائق العربية. وخالف فيه أبو حيان والزمخشري حجة في الذوق لا يدانيه أبو حيان، ولهذا لم يكن قوله: {ولما يدخل الإيمان في قلوبكم} تكريراً مع قوله: {لم يؤمنوا}.
وقوله: {وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئاً} إرشاد إلى دواء مرض الحال في قلوبهم من ضعف الإيمان بأنه إن يطيعوا الله ورسوله حَصل إيمانهم فإن مما أمر الله به على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بيان عقائد الإيمان بأن يقبلوا على التعلم من رسول الله صلى الله عليه وسلم مدة إقامتهم بالمدينة عوضاً عن الاشتغال بالمَنّ والتعريض بطلب الصدقات.
ومعنى {لا يلتكم} لا يُنقصكم، يقال: لاته مثل باعه. وهذا في لغة أهل الحجاز وبني أسد، ويقال: التَه ألَتاً مثل: أمره، وهي لغة غطفان قال تعالى: {وما ألتناهم من عملهم من شيء} في سورة الطور (21).
وقرأ بالأولى جمهور القراء وبالثانية أبو عمرو ويعقوب. ولأبي عمرو في تحقيق الهمزة فيها وتخفيفها ألفا روايتان فالدُّوري روى عنه تحقيق الهمزة والسوسي روى عنه تخفيفها.
وضمير الرفع في {يلتكم} عائد إلى اسم الله ولم يقل: لا يَلِتَاكم بضمير التثنية لأنّ الله هو متولي الجزاء دون الرسول صلى الله عليه وسلم.
والمعنى: إن أخلصتم الإيمان كما أمركم الله ورسوله تقبَّل الله أعمالكم التي ذكرتم من أنكم جئتم طائعين للإسلام من غير قتال.
وجملة {إن الله غفور رحيم} استئناف تعليم لهم بأن الله يتجاوز عن كذبهم إذا تابوا، وترغيب في إخلاص الإيمان لأن الغفور كثير المغفرة شديدُها، ومن فرط مغفرته أنه يجازي على الأعمال الصالحة الواقعة في حالة الكفر غيرَ معتدّ بها فإذا آمن عاملها جوزي عليها بمجرد إيمانه وذلك من فرط رحمته بعباده.
وترتيب {رحيم} بعد {غفور} لأن الرحمة أصل للمغفرة وشأن العلة أن تورد بعد المعلل بها.
قوله تعالى : " قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم " نزلت في أعرب من بني أسد بن خزيمة قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنة جدبة وأظهروا الشهادتين ولم يكونوا مؤمنين في السر . وأفسدوا طرق المدينة بالعذرات وأغلوا أسعارها ، وكانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أتيناك بالأثقال والعيال ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان فأعطنا من الصدقة ، وجعلوا يمنون عليه فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية . وقال ابن عباس : نزلت في أعراب أرادوا أن يتسموا باسم الهجرة قبل أن يهاجروا ، فأعلم الله أن لهم أسماء الأعراب لا أسماء المهاجرين . وقال السدي : نزلت في الأعراب المذكورين في سورة الفتح : أعراب مزينة وجهينة وأسلم وغفار والديل وأشجع ، قالوا آمنا ليأمنوا على أنفسهم وأموالهم ، فلما استنفروا إلى المدينة تخلفوا ، فنزلت . وبالجملة فالآية خاصة لبعض الأعراب ؛ لأن منهم من يؤمن بالله واليوم الآخر كما وصف الله تعالى . ومعنى " ولكن قولوا أسلمنا " أي استسلمنا خوف القتل والسبي ، وهذه صفة المنافقين ؛ لأنهم أسلموا في ظاهر إيمانهم ولم تؤمن قلوبهم ، وحقيقة الإيمان التصديق بالقلب . وأما الإسلام فقبول ما أتى به النبي صلى الله عليه وسلم في الظاهر ، وذلك يحقن الدم . " وإن تطيعوا الله ورسوله " يعني إن تخلصوا الإيمان " لا يلتكم " أي لا ينقصكم . " من أعمالكم شيئا " لاته يليته ويلوته : نقصه . وقرأ أبو عمرو " لا يألتكم " بالهمزة ، من ألت يألت ألتا ، وهو اختيار أبي حاتم ، اعتبارا بقوله تعالى : " وما ألتناهم من عملهم من شيء " {[14138]} [ الطور : 21 ] قال الشاعر :
أبلغ بني ثُعْلٍ عنِّي مُغَلْغَلَةً *** جَهْدَ الرسالة لا أَلْتًا ولا كَذِبَا
واختار الأولى أبو عبيد . قال رؤبة :
وليلةٍ ذات ندىً سَريْتُ *** ولم يَلِتْنِي عن سُرَاهَا لَيْتُ
أي لم يمنعني عن سراها مانع ، وكذلك ألته عن وجهه ، فعل وأفعل بمعنى . ويقال أيضا : ما ألاته من عمله شيئا ، أي ما نقصه ، مثل ألته ، قاله الفراء . وأنشد :
ويأكلن ما أعني الوَلِيُّ فلم يَلِتْ *** كأن بحافات النِّهَاء المَزَارِعا{[14139]}
قوله : فلم " يلت " أي لم ينقص منه شيئا . و " أعني " بمعنى أنبت ، يقال : ما أعنت الأرض شيئا ، أي ما أنبتت . و " الولي " المطر بعد الوسمي{[14140]} ، سمي وليا لأنه يلي الوسمي . ولم يقل : لا يألتاكم ، لأن طاعة الله تعالى طاعة الرسول .
ولما أمر سبحانه بإجلال رسوله صلى الله عليه وسلم وإعظامه ، ونهى عن أذاه في نفسه أو في أمته ، ونهى عن التفاخر الذي هوسبب التقاطع والتداحر ، وختم بصفة الخبر ، دل عليها بقوله مشيراً-{[60919]} إلى أنه لا يعتد بشيء مما أمر به أو نهى عنه إلا مع الإخلاص فقال : { قالت الأعراب } أي أهل البادية من بني أسد وغيرهم الذين هم معدن الغلظة والجفاء-{[60920]} الذين تقدم تأديبهم{[60921]} في سورة الفتح ، وألحق التاء في فعلهم إشارة إلى ضعفهم في العزائم ، قال ابن برجان : هم قوم شهدوا شهادة الحق {[60922]}وهم لا{[60923]} يعلمون ما شهدوا به غير أن أنفسهم ليست-{[60924]} تنازعهم إلى التكذيب : { آمنا } أي-{[60925]} بجميع ما جئت به فامتثلنا ما أمرنا به في هذه السورة ولنا النسب الخالص ، فنحن أشرف من غيرنا من أهل المدر .
ولما كان الإيمان التصديق بالقلب فلا اطلاع عليه لآدمي إلا بإطلاعه سبحانه فكانوا كاذبين في دعواه ، قال : { قل } أي تكذيباً لهم مع مراعاة الأدب في عدم التصريح بالتكذيب : { لم تؤمنوا } أي لم تصدق قلوبكم لأنكم لو أمنتم لم تمنوا{[60926]} بإيمانكم لأن الإيمان التصديق بجميع ما لله من الكمال الذي منه أنه لولا منه بالهداية لم يحصل الإيمان ، فله ولرسوله - الذي كان ذلك على يديه - المن والفضل .
ولما كان التقدير ما كان {[60927]}الأصل في{[60928]} أن يكون الرد به وهو : فلا تقولوا : آمنا ، فإنه كذب ، وعدل عنه للاحتراز عن النهي عن القول بالإيمان ، عطف عليه قوله : { ولكن قولوا } لأنكم أسلمتم للدنيا لا للدين ، وعدل عنه لئلا تكون شهادة لهم بالإسلام {[60929]}في الجملة{[60930]} : { أسلمنا } أي أظهرنا الانقياد في الظاهر للأحكام الظاهرة فأمنا من أن نكون حزباً للمؤمنين وعوناً للمشركين ، يقول : أسلم الرجل - إذا دخل في السلم ، كما يقال : أشتى - إذا دخل في الشتاء ، ولم يقل : ولكن أسلمتم ، لما فيه من الشهادة لهم بالإسلام الملازم للإيمان المنفي عنه ، فكان يكون تناقضاً ، والآية من الاحتباك : نفي الإيمان الشرعي أولاً يدل على إثبات الإسلام اللغوي ثانياً ، والأمر بالقول بالإسلام-{[60931]} ثانياً يدل على النهي عن القول بالإيمان أولاً-{[60932]} .
ولما كانت " لم " غير مستغرقة ، عطف عليها ما يستغرق {[60933]}ما مضى من{[60934]} الزمان كله ليكون الحكم بعدم إيمانهم مكتنفاً بأمرهم بالاقتصاد على الإخبار بإسلامهم ، فقال معلماً بأن ما يجتهدون في إخفائه {[60935]}منكشف لديه{[60936]} " ألا يعلم من خلق " . { ولما يدخل{[60937]} } أي-{[60938]} إلى هذا الوقت { الإيمان } أي-{[60939]} المعرفة التامة { {[60940]}في قلوبكم{[60941]} } فلا يعد إقرار اللسان إيماناً إلا بمواطأة القلب ، فعصيتم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وأحبطتم أعمالكم ، والتعبير ب " لما " يفهم أنهم آمنوا بعد ذلك ، ويجوز أن يكون المراد بهذا النفي نفي التمكن في القلب ، لا نفي مطلق الدخول بدليل { إنما المؤمنون } دون { إنما-{[60942]} الذين آمنوا } .
ولما كان التقدير : فإن تؤمنوا{[60943]} يعلم الله ذلك من قلوبكم غنياً عن قولكم ، عطف عليه قوله ترغيباً لهم في التوبة : { وإن تطيعوا الله } أي الملك الذي من خالفه لم يأمن عقوبته { ورسوله } الذي طاعته من طاعته على ما أنتم عليه من الأمر الظاهري فتؤمن قلوبكم { لا يلتكم } أي ينقصكم ويبخسكم{[60944]} من لاته يليته ، وهي لغة أهل الحجاز ، وقرأ البصريان{[60945]} : {[60946]}يألتكم من الألت وهو{[60947]} النقص أيضاً ، وهي لغة أسد وغطفان ، وهما المخاطبون بهذه الآية المعاتبون بها ، قال أبو حيان{[60948]} : قال مجاهد : نزلت في بني أسد بن خزيمة - انتهى . فلذلك اختار أبو عمرو القراءة بها ، وعدل عن لغة الحجاز { من أعمالكم شيئاً } فلا حاجة إلى إخباركم عن إيمانكم بغير ما يدل عليه من الأقوال والأفعال ، قال ابن برجان : فعموم الناس وأكثر أهل الغفلة مسلمون غير مؤمنين ، فإن يعلموا علم ما شهدوا وعقدوا عليه عقداً{[60949]} علماً ويقيناً فهم المؤمنون . وفي الآية احتباك من وجه آخر : ذكر عدم الإيمان أولاً دليلاً على إثباته ثانياً ، وذكر توفير الأعمال ثانياً دليلاً {[60950]}على بخسها{[60951]} أو إحباطها أولاً ، وسره أنه نفى أساس الخير أولاً ورغب في الطاعة بحفظ ما تعبوا عليه-{[60952]} من الأعمال ثانياً{[60953]} .
ولما كان الإنسان مبنياً على النقصان ، فلو وكل إلى عمله هلك ، ولذهب عمله فيما يعتريه من النقص ، قال مستعطفاً لهم-{[60954]} إلى التوبة ، مؤكداً تنبيهاً على أنه مما يحق تأكيده{[60955]} لأن الخلائق-{[60956]} لا يفعلون مثله : { إن الله } أي الذي له صفات الكمال { غفور } أي ستور للهفوات والزلات لمن تاب وصحت نيته ، ولغيره إذا أراد ، فلا عتاب ولا عقاب { رحيم * } أي يزيد على الستر عظيم الإكرام .