من الجنة والناس : أي : من شياطين الجن والإنس .
أي : إن الذي يوسوس في صدور الناس صنفان :
الأول : الجنة ، وهم شياطين الجن ، ومهمتهم الوسوسة والإغراء والتزيين .
الثاني : شياطين الإنس ، الذين يزيّنون المعاصي للكبير والصغير والمرأة والرجل ، وهم قرناء السوء ، ورفقاء الشرّ ، ومن الواجب أن نستعيذ بالله منهم ، وأن نحذرهم ، وأن نتخير الرفيق الصالح الذي إذا ذكرت الله أعانك ، وإذا نسيت ذكّرك .
ومن رفقاء السوء النمّام الواشي المفسد للعلاقات ، ومن رفقاء السوء بائع الهوى والشهوات ، وذو الوجهين والمنافق .
قال تعالى : وكذلك جعلنا لكل نبي عدوّا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا . . . ( الأنعام : 112 ) .
تلك سورة الناس ، ذكر الله تعالى فيها الناس ثلاث مرات ، في ثلاث آيات تنتهي بحرف السين ، وهو حرف مهموس ، يناسب الصبيّ الصغير في النطق ، وييسّر عليه الحفظ .
1- جاء في صفوة التفاسير ما يأتي :
قال المفسرون : إنما خصّ الناس بالذكر –وإن كان جلت عظمته رب جميع الخلائق- تشريفا وتكريما لهم ، من حيث إنه تعالى سخّر لهم ما الكون ، وأمدّهم بالعقل والعلم ، وأسجد لهم ملائكة قدسه ، فهم أفضل المخلوقات على الإطلاق . ملك الناس . أي : مالك جميع الخلق حاكمين ومحكومين ، ملكا تامّا شاملا كاملا ، يحكمهم ، ويضبط أعمالهم ، ويدبّر شئونهم ، فيعزّ ويذلّ ، ويغني ويفقر : إله الناس . أي : معبودهم الذي لا رب سواه .
قال القرطبي : وإنما قال : ملك الناس* إله الناس . لأن في الناس ملوكا فذكر أنه ملكهم ، وفي الناس من يعبد غيره فذكر أنه إلههم ومعبودهم ، وأنه الذي يجب أن يستعاذ به ويلجأ إليه دون الملوك والعظماء .
وترتيب السورة بهذا الشكل في منتهى الإبداع ، وذلك لأن الإنسان أولا يعرف أن له ربا ، لما يشاهده من أنواع التربية . رب الناس . ثم إذا تأمل عرف أن هذا الرب متصرف في خلقه ، غني عن خلقه فهو الملك لهم : ملك الناس . ثم إذا زاد تأمله عرف أنه يستحق أن يعبد ، لأنه لا عبادة إلا للغني عن كل ما سواه ، المفتقر إليه كل ما عداه ، إله الناس . وإنما كرّر لفظ الناس ثلاثا ولم يكتف بالضمير ، لإظهار شرفهم وتعظيمهم والاعتناء بشأنهم ، كما حسن التكرار في قول الشاعر :
لا أرى الموت يسبق الموت شيء *** نغّص الموت ذا الغنى والفقيرا
قال ابن كثير : هذه ثلاث صفات من صفات الرب عز وجل : الربوبية ، والملك ، والإلهية ، فهو رب كل شيء ومليكه وإلهه ، وجميع الأشياء مخلوقة ومملوكة له ، فأمر المستعيذ أن يتعوذ بالمتصف بهذه الصفاتii .
2- أوضحت السورة أن الموسوس إما شيطان الجن ، وإما شيطان الإنس .
قال الحسن : هما شيطانان ، أما شيطان الجن فيوسوس في صدور الناس ، وأما شيطان الإنس فيأتي علانية .
وقال قتادة : إن من الجن شياطين ، وإن من الإنس شياطين ، فنعوذ بالله من شياطين الإنس والجن .
3- جاء في تفسير فخر الدين الرازي ما يأتي :
يلاحظ أن المستعاذ به في سورة الفلق مذكور بصفة واحدة ، وهي أنه : رب الفلق ، والمستعاذ منه ثلاثة أنواع : وهي : الغاسق . والنفّاثات . والحاسد .
وأما في سورة الناس فالمستعاذ به مذكور بصفات ثلاث ، وهي : الرب ، والملك ، والإله ، والمستعاذ منه آفة واحدة ، وهي : الوسوسةiii .
وفي التحصّن من الوسوسة سلامة الدين ، ومن سلم دينه سلم له كل شيء .
( اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئا أعلمه ، وأستغفرك لما لا أعلمه ) .
( اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك ، ناصيتي بيدك ، ماض فيّ حكمك ، عدل فيّ قضاؤك ، أسألك بكل اسم هو لك ، سمّيت به نفسك ، أو أنزلته في كتابك ، أو علّمته أحدا من خلقك ، أو استأثرت به في علم الغيب عندك ، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ، وذهاب غمّي وحزني )iv .
( اللهم إني أعوذ بك من الهمّ ، والحزن ، وأعوذ بك من العجز والكسل ، وأعوذ بك من الجبن والبخل ، وأعوذ بك من غلبة الدّين وقهر الرجال )v .
وصل اللهم على سيدنا محمد النبي الأميّ وعلى آله وصحبه وسلم ، اللهم لك الحمد ، حمدا كثيرا طيبا طاهرا مباركا فيه كما ترضى ربنا وتحب ، اللهم اجعل هذا العمل خالصا لوجهك الكريم ، اللهم انفع به كل من تعلّمه ووفقه للعمل الصالح ، وللسير على الصراط المستقيم ، اللهم اختم لنا بالإيمان والإسلام ، وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
{ فللّه الحمد ربّ السماوات وربّ الأرض وربّ العالمين 26 وله الكبرياء في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم 27 } صدق الله العظيم . ( الجاثية : 36 ، 37 ) .
مكثت في تفسير النصف الأول من القرآن الكريم 15 عاما ، كنت أفسّر في كل سنة جزءا من القرآن ، حيث كنت أعمل أستاذا ورئيسا لقسم الشريعة الإسلامية في كلية دار العلوم جامعة القاهرة ، ثم في كلية التربية والعلوم الإنسانية بجماعة السلطان قابوس بسلطنة عمان .
ثم تفرغت تماما لتفسير النصف الثاني من القرآن الكريم لمدة خمس سنوات ، من 15/6/1996 إلى 14/6/2001 .
وتم بحمد الله تعالى الانتهاء من تفسير القرآن الكريم مساء يوم الخميس 22 من ربيع الأول 1422 ه ، الموافق 14/6/2001م .
وتمت مراجعته بحمد الله فجر يوم الجمعة 23 من ربيع الأول 1422 ه ، الموافق 15/6/2001م .
اللهم لك الحمد ولك الشكر ، ولك النعمة ولك الفضل ، ولك الثناء الحسن الجميل ، سبحان ربك رب العزة عما يصفون ، وسلام على المرسلين ، والحمد لله رب العالمين .
اللهم لك الحمد ، اللهم هذه دموعي أسكبها شكرا لك وعرفانا بفضلك ، اللهم لك الحمد يا ولي التوفيق ، يا أول يا آخر ، يا ظاهر يا باطن ، اللهم اجعل ذلك العمل خالصا لوجهك الكريم . وتمّت كلمت ربك صدقا وعدلا لا مبدّل لكلماته وهو السميع العليم . ( الأنعام : 155 ) .
اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا ، وذهاب غمنا وحزننا ، اللهم أكر أكرمنا بالقرآن ، بنور القرآن ، وبركة القرآن ، وتلاوة القرآن ، اللهم حبّب إلينا الإيمان وزيّنه في قلوبنا ، وكرّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان ، واجعلنا من الراشدين ، وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين . ( يونس : 10 ) .
اللهم ارحمني بالقرآن واجعله لي إماما ونورا وهدى ورحمة اللهم ذكّرني منه ما نسيت وعلّمني منه ما جهلت ، وارزقني تلاوته آناء الليل وأطراف النهار واجعله لي حجة يا رب العالمين * اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي واجعل الحياة زيادة لي في كل خير واجعل الموت راحة لي من كل شر * اللهم اجعل خير عمري آخره وخير عملي خواتمه وخير أيامي يوم ألقاك فيه * اللهم إني أسألك عيشة هنية وميتة سوية ومردّا غير مخز ولا فاضح * اللهم إني أسألك خير المسألة وخير الدعاء وخير النجاح وخير العلم وخير العمل وخير الثواب وخير الحياة وخير الممات وثبّتني وثقّل موازيني وحقّق إيماني وارفع درجتي وتقّبل صلاتي واغفر خطيئاتي وأسألك العلا من الجنة * اللهم إني أسألك موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك والسلامة من كل إثم والغنيمة من كل بر والفوز بالجنة والنجاة من النار * اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة * اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معصيتك ومن طاعتك ما تبلّغنا بها جنتك ومن اليقين ما تهوّن به علينا مصائب الدنيا ومتّعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوّتنا ما أحييتنا واجعله الوارث منا واجعل ثأرنا على من ظلمنا وانصرنا على من عادانا ولا تجعل مصيبتنا في ديننا ولا تجعل الدنيا أكبر همّنا ولا مبلغ علمنا ولا تسلّط علينا من لا يرحمنا * اللهم لا تدع لنا ذنبا إلا غفرته ولا همّا إلا فرجته ولا دينا إلا قضيته ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة إلا قضيتها يا أراحم الراحمين * ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه الأخيار وسلّم تسليما كثيرا
i إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان :
رواه البخاري في الأذان ( 608 ) ومسلم في الصلاة ( 389 ) من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا نودي للصلاة أدبر الشيطان وله ضراط حتى لا يسمع التأذين فإذا قضى النداء أقبل حتى إذا ثوب بالصلاة أدبر حتى إذا قضى التثويب أقبل حتى يخطر بين المرء ونفسه يقول : اذكر كذا ، اذكر كذا ، لما لم يكن يذكر حتى يظل الرجل لا يدري كم صلى ) .
ii صفوة التفاسير أ . محمد علي الصابوني ، المجلد الثالث ص622 .
iii انظر التفسير المنير أ . د وهية الزحيلي 30/483 .
iv اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك :
رواه أحمد في مسنده ( 3704 ) من حديث عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( ما أصاب أحدا قط هم ولا حزن فقال : اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك ناصيتي بيدك ماض فيّ حكمك عدل في قضاؤك أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو علّمته أحدا من خلقك أو أنزلته في كتابك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن الكريم ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي ، إلا أذهب الله همه وحزنه وأبدله مكانه فرجا ) ، قال : فقيل : يا رسول الله ، ألا نتعلمها ؟ فقال : ( بلى ينبغي لمن سمعها أن يتعلمها ) .
v اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن :
رواه البخاري في الدعوات ( 6369 ) من حديث أنس بن مالك قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ( اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن والعجز والكسل والجبن والبخل وضلع الدين وغلبة الرجال ) .
وهذا الوسواسُ الخنّاس قد يكون من الجِنّ ، وقد يكون من البشَر . كما جاء ذلك صريحا في قوله تعالى { شَيَاطِينَ الإنس والجن يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القول غُرُوراً } [ الأنعام : 112 ] .
وشياطينُ الإنسِ أشدُّ فتكاً وخطَرا من شياطين الجن . فكثيراً ما يأتيك إنسانٌ لئيم يُسدي إليك نصائحَ ، وهو كاذبٌ يقصِد من ورائها لَكَ الشرَّ ، فيدسُّ السّمَّ في الدَسَم .
اللهم جَنّبنا كلّ شر ، وادفع عنا أذى شياطين الإنس والجنّ .
انتهى تفسير سورة الناس . وبذلك تم تيسير التفسير ، والحمد لله رب العالمين .
والوسواس كما يكون من الجن يكون من الإنس ، ولهذا قال : { مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ } .
والحمد لله رب العالمين أولًا وآخرًا ، وظاهرًا وباطنًا .
ونسأله تعالى أن يتم نعمته ، وأن يعفو عنا ذنوبًا لنا حالت{[1]} بيننا وبين كثير من بركاته ، وخطايا وشهوات ذهبت بقلوبنا عن تدبر آياته .
ونرجوه ونأمل منه أن لا يحرمنا خير ما عنده بشر ما عندنا ، فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ، ولا يقنط من رحمته إلا القوم الضالون .
وصلى الله وسلم على رسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، صلاة وسلامًا دائمين متواصلين أبد الأوقات ، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات .
تم تفسير كتاب الله بعونه وحسن توفيقه ، على يد جامعه وكاتبه ، عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله المعروف بابن سعدي ، غفر الله له ولوالديه وجميع المسلمين ، وذلك في غرة ربيع الأول من سنة أربع وأربعين وثلثمائة وألف من هجرة محمد صلى الله عليه وسلم{[2]} في ب : ووقع النقل في شعبان 1345 ربنا تقبل منا واعف إنك أنت الغفور الرحيم .
{ من الجنة والناس } هذا بيان لجنس الوسواس ، وأنه يكون من الجن ومن الناس ، ثم إن الموسوس من الإنس يحتمل أن يريد من يوسوس بخدعه وأقواله الخبيثة فإنه شيطان كما قال تعالى : { شياطين الإنس والجن } [ الأنعام : 112 ] ، أو يريد به نفس الإنسان ؛ إذ تأمره بالسوء ، فإنها أمارة بالسوء ، والأول أظهر . وقيل : { من الناس } معطوف على { الوسواس } كأنه قال : أعوذ من شر الوسواس من الجنة ومن شر الناس ، وليس الناس على هذا ممن يوسوس ، والأول أظهر وأشهر .
فإن قيل : لم ختم القرآن بالمعوذتين ، وما الحكمة في ذلك ؟ فالجواب من ثلاثة أوجه :
الأول : قال شيخنا الأستاذ أبو جعفر بن الزبير : لما كان القرآن من أعظم النعم على عباده ، والنعم مظنة الحسد ، فختم بما يطفئ الحسد من الاستعاذة بالله .
الثاني : يظهر لي أن المعوذتين ختم بهما ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيهما : " أنزلت علي آيات لم ير مثلهن قط " ، كما قال في فاتحة الكتاب : " لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الفرقان مثلها " ، فافتتح القرآن بسورة لم ينزل مثلها ، واختتم بسورتين لم ير مثلهما ، ليجمع حسن الافتتاح والاختتام ، ألا ترى أن الخطب والرسائل والقصائد وغير ذلك من أنواع الكلام إنما ينظر فيها إلى حسن افتتاحها واختتامها .
الوجه الثالث : يظهر لي أيضا أنه لما أمر القارئ أن يفتتح قراءته بالتعوذ من الشيطان الرجيم ، ختم القرآن بالمعوذتين ليحصل الاستعاذة بالله عند أول القراءة ، وعند آخر ما يقرأ من القراءة ، فتكون الاستعاذة قد اشتملت على طرفي الابتداء والانتهاء ، وليكون القارئ محفوظا بحفظ الله الذي استعاذ به من أول أمره إلى آخره ، وبالله التوفيق ، لا رب غيره .