{ تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون . . . }
الجنوب : جمع جنب وهو الشق أو الجانب الأيمن أو الأيسر .
المضاجع : واحدها مضجع وهو مكان النوم .
خوفا وطمعا : خوفا من عذابه وطمعا في ثوابه .
هؤلاء المؤمنون يصلون لله تعالى في أوقات ينام فيها الآخرون ويتلذذون بالرقاد مثل الصلاة بين المغرب والعشاء أو صلاة العشاء في جماعة والفجر في جماعة ، أو التهجد في الثلث الأخير من الليل وهو وقت غارت فيه النجوم ونامت العيون وبقى الله الواحد القيوم .
والمعنى : من صفات المؤمنين مناجاة ربهم بالليل حين يحب الآخرون الرقاد فإنهم يقومون لله عابدين يهجرون المضجع والسرير والرقاد ويتطهرون ويصلون لله خائفين من عذابه طامعين في رحمته .
فعقيدتهم سليمة ، وعبادتهم وصلاتهم وخشوعهم ودعاؤهم لله متحقق بصورة طيبة ، وكذلك يؤدون زكاة أموالهم ويتصدقون على الفقراء وينفقون من كل ما أعطاهم الله من العلم والجاه والفتوح والتقوى والتجليات الإلهية .
من كتب التفسير : حفلت كتب التفسير بطائفة من الأحاديث النبوية الشريفة ، في فضل قيام الليل وثواب التهجد ومن أمثلة ذلك ما ورد في تفسيري القرطبي وابن كثير وغيرهما كما نجد ذلك في كتب السنة المطهرة وكتاب إحياء علوم الدين للغزالي بتخريج الحافظ العراقي .
نماذج من الأحاديث النبوية الشريفة : أخرج أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن جرير والحاكم وابن مردويه عن معاذ بن جبل قال : كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفرviii فأصبحت قريبا منه ونحن نسير فقلت : يا نبي الله أخبرني عما يدخلني الجنة ، ويباعدني من النار فقال : " لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله تعالى عليه تعبد الله ولا تشرك به شيئا وتقيم الصلاة وتؤدي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت ثم قال : " ألا أدلك على أبواب الخير ؟ الصوم جنة ، والصدقة تطفئ الخطيئة وصلاة الرجل في جوف الليل " ثم قرأ : تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا ومما رزقناهم ينفقون فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء ما كانوا يعملون . ثم قال " ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه ؟ فقلت : بلى يا رسول الله فقال " رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله ثم قال : " ألا أخبرك بملاك ذلك كله " ؟ فقلت : بلى يا نبي الله فأخذ بلسانه ثم قال " كف عليك هذا " فقلت : يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به ؟ . فقال " ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم " . ix
وروى البخاري ومسلم والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " قال الله تعالى : أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر " .
قال أبو هريرة اقرءوا إن شئتم : فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين . . . x
{ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ } أي : ترتفع جنوبهم ، وتنزعج عن مضاجعها اللذيذة ، إلى ما هو ألذ عندهم منه وأحب إليهم ، وهو الصلاة في الليل ، ومناجاة اللّه تعالى .
ولهذا قال : { يَدْعُونَ رَبَّهُمْ } أي : في جلب مصالحهم الدينية والدنيوية ، ودفع مضارهما . { خَوْفًا وَطَمَعًا } أي : جامعين بين الوصفين ، خوفًا أن ترد أعمالهم ، وطمعًا في قبولها ، خوفًا من عذاب اللّه ، وطمعًا في ثوابه .
{ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ } من الرزق ، قليلاً كان أو كثيرًا { يُنْفِقُونَ } ولم يذكر قيد النفقة ، ولا المنفق عليه ، ليدل على العموم ، فإنه يدخل فيه ، النفقة الواجبة ، كالزكوات ، والكفارات ، ونفقة الزوجات والأقارب ، والنفقة المستحبة في وجوه الخير ، والنفقة والإحسان المالي ، خير مطلقًا ، سواء وافق غنيًا أو فقيرًا ، قريبًا أو بعيدًا ، ولكن الأجر يتفاوت ، بتفاوت النفع ، فهذا عملهم .
قوله تعالى : { تتجافى } ترتفع وتنبو ، { جنوبهم عن المضاجع } جمع مضجع ، وهو الموضع الذي يضطجع عليه ، يعني الفرس ، وهم المتهجدون بالليل ، الذين يقومون للصلاة . واختلفوا في المراد بهذه الآية ، قال أنس : نزلت فينا معشر الأنصار ، كنا نصلي المغرب فلا نرجع إلى رحالنا حتى نصلي العشاء مع النبي صلى الله عليه وسلم . وعن أنس أيضاً قال : نزلت في أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يصلون من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء ، وهو قول أبي حازم ومحمد بن المنكدر ، وقالا : هي صلاة الأوابين . وروي عن ابن عباس رضي الله عنه قال : إن الملائكة لتحف بالذين يصلون بين المغرب والعشاء ، وهي صلاة الأوابين . وقال عطاء : هم الذين لا ينامون حتى يصلوا العشاء الآخرة . وعن أبي الدرداء ، وأبي ذر ، وعبادة بن الصامت رضي الله عنهم : هم الذين يصلون العشاء الآخرة والفجر في جماعة . وروينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من صلى العشاء في جماعة كان كمن قام نصف ليلة ، ومن صلى الفجر في جماعة كان كقيام ليلة " .
أخبرنا أبو الحسن السرخسي ، أنبأنا زاهر بن أحمد ، أنبأنا أبو إسحاق الهاشمي ، أنبأنا أبو مصعب ، عن مالك ، عن سمي مولى أبي بكر بن عبد الرحمن ، عن أبي صالح السمان ، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا ، ولو يعلمون ما في التهجير لاستبقوا إليه ، ولو يعلمون ما في العتمة والصبح لأتوهما ولو حبواً " . وأشهر الأقاويل أن المراد منه : صلاة الليل ، وهو قول الحسن ، ومجاهد ، ومالك ، والأوزاعي وجماعة .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنبأنا أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الله بن بشران ، أنبأنا أبو علي إسماعيل بن محمد الصفار ، أنبأنا أحمد بن منصور الرمادي ، أنبأنا عبد الرزاق ، أنبأنا معمر عن عاصم بن أبي النجود ، عن أبي وائل ، عن معاذ بن جبل قال : " كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فأصبحت يوماً قريباً منه وهو يسير فقلت : يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار ، قال : قد سألت عن أمر عظيم ، وإنه ليسير على من يسره الله عليه ، تعبد الله ولا تشرك به شيئاً ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت ، ثم قال : ألا أدلك على أبواب الخير ؟ الصوم جنة ، والصدقة تطفئ الخطيئة ، وصلاة الرجل في جوف الليل ، ثم قرأ : تتجافى جنوبهم عن المضاجع حتى بلغ :جزاء بما كانوا يعملون ثم قال ألا أدلك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه الجهاد ؟ قلت : بلى يا رسول الله ، قال : رأس الأمر الإسلام ، وعموده الصلاة ، وذروة سنامه الجهاد . ثم قال : ألا أخبرك بملاك ذلك كله ؟ قلت : بلى يا نبي الله ، قال : فأخذ بلسانه فقال : اكفف عليك هذا ، فقلت : يا نبي الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به ؟ قال : ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس في النار على وجوههم ، أو قال على مناخرهم ، إلا حصائد ألسنتهم " .
حدثنا أبو الفضل زياد بن محمد بن زياد الحنفي ، أنبأنا أبو محمد عبد الرحمن بن أحمد المخلدي ، أنبأنا محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني ، أنبأنا حمد بن زنجويه ، أنبأنا أبو عبد الله بن صالح ، حدثني معاوية بن صالح ، حدثني ربيعة بن يزيد ، عن أبي إدريس الخولاني ، عن أبي أمامة الباهلي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم ، وقربة لكم إلى ربكم ، وتكفير للسيئات ، ومنهاة عن الإثم " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان ، أنبأنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني ، أنبأنا حميد بن زنجويه ، أنبأنا روح بن أسلم ، أنبأنا حماد بن سلمة ، أنبأنا عطاء بن السائب ، عن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عجب ربنا من رجلين : رجل ثار عن وطائه ولحافه من بين جنبيه وأهله إلى صلاته ، فيقول الله لملائكته : انظروا إلى عبدي ثار عن فراشه ووطائه من بين جنبيه وأهله إلى صلاته رغبةً فيما عندي وشفقاً مما عندي ، ورجل غزا في سبيل الله فانهزم معه أصحابه ، فعلم ما عليه في الانهزام وما له في الرجوع ، فرجع فقاتل حتى أهريق دمه ، فيقول الله لملائكته : انظروا إلى عبدي رجع رغبة فيما عندي وشفقاً مما عندي حتى أهريق دمه " .
أخبرنا أبو عثمان الضبي ، أنبأنا أبو محمد الجراح ، أنبأنا أبو العباس المحبوبي ، أنبأنا أبو عيسى الترمذي ، أنبأنا قتيبة بن سعيد ، أنبأنا أبو عوانة ، عن أبي بشر ، عن حميد بن عبد الرحمن الحيري ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم ، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل " .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنبأنا أبو الحسين بن بشران ، أنبأنا إسماعيل بن محمد الصفار ، أنبأنا أحمد بن منصور الرمادي ، أنبأنا عبد الرزاق ، أنبأنا معمر ، عن يحيى بن أبي كثير ، عن ابن معانق ، عن أبي مالك الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن في الجنة غرفاً يرى ظاهرها من باطنها ، وباطنها من ظاهرها ، أعدها الله لمن ألان الكلام ، وأطعم الطعام ، وتابع الصيام ، وصلى بالليل والناس نيام " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد ابن يوسف ، أنبأنا محمد بن إسماعيل ، أنبأنا أصبغ ، أخبرني عبد الله بن وهب ، أخبرني يونس عن ابن شهاب ، أن الهيثم بن أبي سنان ، أخبره أنه سمع أبا هريرة في قصصه يذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول : " إن أخاً لكم لا يقول الرفث ، يعني بذلك عبد الله بن رواحة " قال :
وفينا رسول الله يتلو كتابه *** إذا انشق معروف من الفجر ساطع
أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا *** به موقنات أن ما قال واقع
يبيت يجافي جنبه عن فراشه *** إذا استثقلت بالكافرين المضاجع
وقوله عز وجل : { يدعون ربهم خوفاً وطمعاً } قال ابن عباس : خوفاً من النار وطمعاً في الجنة ، { ومما رزقناهم ينفقون } قيل : أراد به الصدقة المفروضة . وقيل : عام في الواجب والتطوع .
ولما كان المتواضع ربما نسب إلى الكسل ، نفى ذلك عنهم بقوله مبيناً {[54768]}بما تضمنته {[54769]}الآية السالفة من خوفهم : { تتجافى } أي ترتفع ارتفاع مبالغ في الجفاء - بما أشار إليه{[54770]} الإظهار ، وبشر بكثرتهم بالتعبير{[54771]} بجمع الكثرة فقال : { جنوبهم } بعد النوم { عن المضاجع } أي الفرش الموطأة الممهدة التي هي محل{[54772]} الراحة والسكون والنوم{[54773]} ، فيكونون عليها كالملسوعين ، لا يقدرون على الاستقرار عليها ، في الليل الذي هو موضع {[54774]}الخلوة ومحط اللذة{[54775]} والسرور بما تهواه النفوس ، قال الإمام السهروردي في الباب السادس والأربعين من عوارفه عن المحبين : قيل : نومهم نوم الفرقى ، وأكلهم أكل المرضى ، وكلامهم ضرورة ، فمن نام عن غلبة بهمّ مجتمع متعلق بقيام الليل وفق لقيام الليل ، وإنما النفس إذا طعمت ووطنت على النوم استرسلت فيه ، وإذا أزعجت بصدق العزيمة لا تسترسل في الاستقرار ، وهذا الانزعاج في النفس بصدق العزيمة هو التجافي الذي قال الله ، لأن الهم بقيام الليل وصدق العزيمة يجعل بين الجنب والمضجع سواء وتجافياً{[54776]} .
ولما كان هجران{[54777]} المضجع قد يكون لغير العبادة ، بين أنه لها ، فقال مبيناً لحالهم : { يدعون } أي على سبيل الاستمرار ، {[54778]}وأظهر الوصف الذي جرأهم على السؤال فقال{[54779]} : { ربهم } أي الذي عودهم بإحسانه : ثم علل دعاءهم بقوله : { خوفاً } أي من سخطه وعقابه ، فإن أسباب الخوف من نقائصهم كثيرة سواء عرفوا سبباً يوجب خوفاً أو لا ، فهم لا يأمنون مكره لأن له أن يفعل ما يشاء{[54780]} { وطمعاً } أي في رضاه الموجب لثوابه ، وعبر به دون الرجاء إشارة إلى أنهم لشدة معرفتهم بنقائصهم لا يعدون أعمالهم شيئاً بل يطلبون فضله بغير سبب ، وإذا كانوا يرجون رحمته بغير سبب فهم مع السبب أزجى ، فهم لا ييأسون من روحه{[54781]} .
ولما كانت العبادة تقطع عن التوسع في الدنيا ، فربما دعت نفس{[54782]} العابد إلى التسمك بما في يده خوفاً من نقص العبادة عند الحاجة لتشوش الفكر والحركة لطلب الرزق{[54783]} ، حث على الإنفاق منه اعتماداً على الخلاق الرزاق الذي ضمن الخلف{[54784]} ليكونوا بما ضمن لهم أوثق منهم بما عندهم ، وإيذاناً بأن الصلاة سبب للبركة في الرزق
{ وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسألك رزقاً نحن نرزقك }[ طه : 132 ] ، فقال لفتاً إلى مظهر العظمة تنبيهاً على أن الرزق منه وحده : { ومما رزقناهم } أي بعظمتنا ، لا بحول منهم ولا قوة { ينفقون * } من غير إسراف ولا تقتير في جميع وجوه{[54785]} القرب التي شرعناها لهم .