{ النبيء أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا كان ذلك في الكتاب مسطورا( 6 ) وإذ أخذنا من النبيئين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى وابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا( 7 ) ليسئل الصادقين عن صدقهم وأعد للكافرين عذابا أليما( 8 ) }
أمهاتهم : مثل أمهاتهم في التحريم واستحقاق التعظيم .
أولوا الأرحام : أصحاب القرابات .
بعضهم أولى ببعض : بعضهم أحق ببعض في التوارث .
إلى أوليائكم : إلى حلفائكم من المهاجرين والأنصار .
كان ذلك : كان ما ذكر من الأحكام في الآيات السابقة .
{ النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين . . . }
سورة الأحزاب نزلت في السنة الخامسة للهجرة ، وكانت أوضاع المسلمين قد استقرت بعض الشيء ولذلك اشتملت على تشريعات مناسبة ، فقد كان التوارث في بداية الهجرة على أخوة الدين حيث هاجر المسلمون من مكة فرارا بدينهم وتركوا أموالهم وأزواجهم وملاعب الصبا وأوطانهم الحبيبة إيثارا لدين الله ودعوته وكان الأنصار أهل المدينة نعم الأهل والعشيرة ، أحبوا المهاجرين ورغبوا في إكرامهم وأخوتهم فما نزل مهاجري على أنصاري إلا بقرعة ، إذ كان عدد المهاجرين أقل من عدد الأنصار وبهذه الأخوة في الإسلام كان الأخ يرث أخاه إذا مات ويعقل عنه إذا جنى ، وكانت أخوة حقيقية ثبتت دعائم الإسلام وباركت فكرته في النفوس قال تعالى : وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم . ( الأنفال : 63 ) .
وبعد أن جاءت الغنائم وعادت الأمور إلى وضعها الطبيعي عاد الميراث على طبيعته فأصبح التوارث على القرابة .
ومعنى الآية : النبي محمد صلى الله عليه وسلم يبلع عن الله وهو القدوة العملية للمسلمين وهو حامل وحي السماء فالواجب على المسلمين محبته وطاعته فهو أولى بالطاعة من أبنائهم وأمهاتهم وأولى بالمحبة من حبهم لأنفسهم كما ينبغي أن يكون حكمه نافذا فيهم مقدما على ما يختارون لأنفسهم .
قال تعالى : فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما . ( النساء : 65 ) .
{ وأزواجه أمهاتهم . . . } أي هن بمنزلة الأمهات في الحرمة والاحترام والتوقير والإكرام وفيما عدا ذلك هن كالأجنبيات فلا يحل النظر إليهن ولا إرثهن ولا نحو ذلك .
{ وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين . . . } وأصحاب القرابة أولى بالتوارث فيما بينهم فذلك حق موجود ثابت في كتاب الله تعالى أو في اللوح المحفوظ وهذا الحق – وهو التوارث بين الأقارب- أولى من التوارث بين المؤمنين بحق الدين والمهاجرين بحق الهجرة .
لقد كان التوارث بين المهاجرين والأنصار أمرا عارضا دعت إليه ظروف الهجرة فلما استقرت الأحوال عاد التشريع إلى الأصل وهو التوارث بحق القرابة ، وهذا التوارث بحق القرابة هو الأصل في كتاب الله وقد عدل عنه لضرورة طارئة ، فلما استقرت الأحوال عاد التشريع إلى الأصل ثم استثنى من الميراث بحق القرابة أن يتطوع إنسان فيوصي لإخوانه في الدين أو لأي فرد من الناس فيجب تنفيذ الوصية وتقديمها على الميراث وكذلك الدين يقدم على الميراث .
حيث قال تعالى في سورة النساء : من بعد وصية يوصى بها أو دين . . . ( النساء : 12 ) .
{ إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا كان ذلك في الكتاب المسطور . . . } أي إن التوارث على القرابة لا يمنعكم من ان تقدموا لأوليائكم من الأنصار والمهاجرين وغيرهم معروفا وبرا سوى الميراث كالوصية والهبة والهدية والصدقة وما تقدم من الأحكام في هذه السورة كان مسطورا ومسجلا في كتاب الله وهو القرآن أو اللوح المحفوظ فهو واجب التنفيذ والطاعة والامتثال .
1- آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أبي بكر وخارجة بن زيد وآخى بين عمر وشخص آخر وآخى بين الزبير وكعب بن مالك ، فكان التوارث على هذه الأخوة حتى نسخ الله ذلك بقوله تعالى : وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين .
2- روى البخاري عن أبي هريرة قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة اقرءوا إن شئتم : النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم . . . فأيما مؤمن ترك مالا فلترثه عصبته من كانوا ومن ترك دينا أو ضياعا ( عيالا ) فليتأنى فأنا مولاه " . 15
قال العلماء : كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يصلي على أحد وعليه دين فلما فتح الله عليه الفتوح قال : " أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن توفي وعليه دين فعلي قضاؤه ومن ترك مالا فلورثته " . 16
3- استنبط الفقهاء من هذا الحديث السابق أنه يجب على الإمام أن يقضي من بيت المال دين الفقراء اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم .
4-المراد من كتاب الله اللوح المحفوظ أو القران الكريم ومن لفظ المؤمنين الأنصار ومن لفظ ( المعروف ) الوصية أو الهداية أو الهبة أو ما أشبه ذلك ، ومن ( الأولياء ) الأصدقاء من المؤمنين ويدخل فيه المهاجرون والأنصار فإن الوصية تصح لكل مؤمن ومؤمنة ، وتقدم على الميراث بالقرابة والمصاهرة .
{ 6 } { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا }
يخبر تعالى المؤمنين ، خبرًا يعرفون به حالة الرسول صلى اللّه عليه وسلم ومرتبته ، فيعاملونه بمقتضى تلك الحالة فقال : { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ } أقرب ما للإنسان ، وأولى ما له نفسه ، فالرسول أولى به من نفسه ، لأنه عليه الصلاة والسلام ، بذل لهم من النصح ، والشفقة ، والرأفة ، ما كان به أرحم الخلق ، وأرأفهم ، فرسول اللّه ، أعظم الخلق مِنَّةً عليهم ، من كل أحد ، فإنه لم يصل إليهم مثقال ذرة من الخير ، ولا اندفع عنهم مثقال ذرة من الشر ، إلا على يديه وبسببه .
فلذلك ، وجب عليهم إذا تعارض مراد النفس ، أو مراد أحد من الناس ، مع مراد الرسول ، أن يقدم مراد الرسول ، وأن لا يعارض قول الرسول ، بقول أحد ، كائنًا من كان ، وأن يفدوه بأنفسهم وأموالهم وأولادهم ، ويقدموا محبته على الخلق كلهم ، وألا يقولوا حتى يقول ، ولا يتقدموا بين يديه .
وهو صلى اللّه عليه وسلم ، أب للمؤمنين ، كما في قراءة بعض الصحابة ، يربيهم كما يربي الوالد أولاده .
فترتب على هذه الأبوة ، أن كان نساؤه أمهاتهم ، أي : في الحرمة والاحترام ، والإكرام ، لا في الخلوة والمحرمية ، وكأن هذا مقدمة ، لما سيأتي في قصة زيد بن حارثة ، الذي كان قبل يُدْعَى : " زيد بن محمد " حتى أنزل اللّه { مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ } فقطع نسبه ، وانتسابه منه ، فأخبر في هذه الآية ، أن المؤمنين كلهم ، أولاد للرسول ، فلا مزية لأحد عن أحد وإن انقطع عن أحدهم انتساب الدعوة ، فإن النسب الإيماني لم ينقطع عنه ، فلا يحزن ولا يأسف .
وترتب على أن زوجات الرسول أمهات المؤمنين ، أنهن لا يحللن لأحد من بعده ، كما الله صرح{[4]} بذلك : " وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا "
{ وَأُولُو الْأَرْحَامِ } أي : الأقارب ، قربوا أو بعدوا { بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ } [ أي ]{[5]} : في حكمه ، فيرث بعضهم بعضًا ، ويبر بعضهم بعضًا ، فهم أولى من الحلف والنصرة .
والأدعياء الذين كانوا من قبل ، يرثون بهذه الأسباب ، دون ذوي الأرحام ، فقطع تعالى ، التوارث بذلك ، وجعله للأقارب ، لطفًا منه وحكمة ، فإن الأمر لو استمر على العادة السابقة ، لحصل من الفساد والشر ، والتحيل لحرمان الأقارب من الميراث ، شيء كثير .
{ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ } أي : سواء كان الأقارب مؤمنين مهاجرين وغير مهاجرين ، فإن ذوي الأرحام مقدمون في ذلك ، وهذه الآية حجة على ولاية ذوي الأرحام ، في جميع الولايات ، كولاية النكاح ، والمال ، وغير ذلك .
{ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا } أي : ليس لهم حق مفروض ، وإنما هو بإرادتكم ، إن شئتم أن تتبرعوا لهم تبرعًا ، وتعطوهم معروفًا منكم ، { كَانَ } ذلك الحكم المذكور { فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا } أي : قد سطر ، وكتب ، وقدره اللّه ، فلا بد من نفوذه .
قوله تعالى :{ النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم } يعني من بعضهم ببعض في نفوذ حكمه عليهم ووجوب طاعته عليهم ، وقال ابن عباس وعطاء : يعني إذا دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم ودعتهم أنفسهم إلى شيء كانت طاعة النبي صلى الله عليه وسلم أولى بهم من طاعتهم أنفسهم . وقال ابن زيد : النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم فيما قضى فيهم ، كما أنت أولى بعبدك فيما قضيت عليه . وقيل : هو أولى بهم في الحمل على الجهاد وبذل النفس دونه . وقيل : كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج إلى الجهاد فيقول قوم : نذهب فنستأذن من آبائنا وأمهاتنا ، فنزلت الآية .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، أنبأنا محمد بن إسماعيل ، أنبأنا عبد الله بن محمد ، أنبأنا أبو عامر ، أنبأنا فليح ، عن هلال بن علي عن عبد الرحمن بن أبي عمرة ، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما من مؤمن إلا أنا أولى به في الدنيا والآخرة ، اقرؤوا إن شئتم { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم } فأيما مؤمن مات وترك مالاً فليرثه عصبته ، من كانوا ومن ترك ديناً أو ضياعاً فليأتني فأنا مولاه " .
قوله عز وجل : { وأزواجه أمهاتهم } وفي حرف أبي : وأزواجه وأمهاتهم وهو أب لهم وهن أمهات المؤمنين في تعظيم حقهن وتحريم نكاحهن على التأييد ، لا في النظر إليهن والخلوة بهن ، فإنه حرام في حقهن كما في حق الأجانب ، قال الله تعالى : { وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب } ولا يقال لبناتهن هن أخوات المؤمنين ولا لإخوانهن وأخواتهن هم أخوال المؤمنين وخالاتهم . قال الشافعي : تزوج الزبير أسماء بنت أبي بكر ، وهي أخت أم المؤمنين ، ولم يقل هي خالة المؤمنين . واختلفوا في أنهن هل كن أمهات النساء المؤمنات ؟ قيل : كن أمهات المؤمنين والمؤمنات جميعاً . وقيل كن أمهات المؤمنين دون النساء ، روى الشعبي عن مسروق أن امرأة قالت لعائشة رضي الله عنها : يا أمه ! فقالت لست لك بأم إنما أنا أم رجالكم ، فبان بهذا أن معنى هذه الأمومة تحريم نكاحهن . قوله عز وجل : { وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله } يعني : في الميراث ، قال قتادة : كان المسلمون يتوارثون بالهجرة . قال الكلبي : آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الناس ، فكان يؤاخي بين رجلين فإذا مات أحدهما ورثه الآخر دون عصبته ، حتى نزلت هذه الآية : { وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله } في حكم الله ، { من المؤمنين } الذين آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم ، { والمهاجرين } يعني ذوي القرابات ، بعضهم أولى بميراث بعض من أن يرث بالإيمان والهجرة ، فنسخت هذه الآية الموارثة بالمؤاخاة والهجرة وصارت بالقرابة . قوله : { إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفاً } أراد بالمعروف الوصية للذين يتولونه من المعاقدين ، وذلك أن الله لما نسخ التوارث بالحلف والهجرة أباح أن يوصي الرجل لمن يتولاه بما أحب من ثلثه . وقال مجاهد : أراد بالمعروف النصرة وحفظ الحرمة لحق الإيمان والهجرة . وقيل : أراد بالآية إثبات الميراث بالإيمان والهجرة ، يعني : وأولوا الأرحام من المؤمنين والمهاجرين بعضهم أولى ببعض ، أي : لا توارث بين المسلم والكافر ولا بين المهاجر وغير المهاجر إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفاً ، يعني : إلا أن توصوا لذوي قراباتكم بشيء وإن كانوا من غير أهل الإيمان والهجرة ، وهذا قول قتادة وعطاء وعكرمة . { كان ذلك في الكتاب مسطوراً } أي : كان الذي ذكرت من أن أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض في اللوح المحفوظ مسطوراً مكتوباً . وقال القرظي : في التوراة .