{ النبيء أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا كان ذلك في الكتاب مسطورا( 6 ) وإذ أخذنا من النبيئين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى وابن مريم وأخذنا منهم ميثاقا غليظا( 7 ) ليسئل الصادقين عن صدقهم وأعد للكافرين عذابا أليما( 8 ) }
أمهاتهم : مثل أمهاتهم في التحريم واستحقاق التعظيم .
أولوا الأرحام : أصحاب القرابات .
بعضهم أولى ببعض : بعضهم أحق ببعض في التوارث .
إلى أوليائكم : إلى حلفائكم من المهاجرين والأنصار .
كان ذلك : كان ما ذكر من الأحكام في الآيات السابقة .
{ النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين . . . }
سورة الأحزاب نزلت في السنة الخامسة للهجرة ، وكانت أوضاع المسلمين قد استقرت بعض الشيء ولذلك اشتملت على تشريعات مناسبة ، فقد كان التوارث في بداية الهجرة على أخوة الدين حيث هاجر المسلمون من مكة فرارا بدينهم وتركوا أموالهم وأزواجهم وملاعب الصبا وأوطانهم الحبيبة إيثارا لدين الله ودعوته وكان الأنصار أهل المدينة نعم الأهل والعشيرة ، أحبوا المهاجرين ورغبوا في إكرامهم وأخوتهم فما نزل مهاجري على أنصاري إلا بقرعة ، إذ كان عدد المهاجرين أقل من عدد الأنصار وبهذه الأخوة في الإسلام كان الأخ يرث أخاه إذا مات ويعقل عنه إذا جنى ، وكانت أخوة حقيقية ثبتت دعائم الإسلام وباركت فكرته في النفوس قال تعالى : وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم . ( الأنفال : 63 ) .
وبعد أن جاءت الغنائم وعادت الأمور إلى وضعها الطبيعي عاد الميراث على طبيعته فأصبح التوارث على القرابة .
ومعنى الآية : النبي محمد صلى الله عليه وسلم يبلع عن الله وهو القدوة العملية للمسلمين وهو حامل وحي السماء فالواجب على المسلمين محبته وطاعته فهو أولى بالطاعة من أبنائهم وأمهاتهم وأولى بالمحبة من حبهم لأنفسهم كما ينبغي أن يكون حكمه نافذا فيهم مقدما على ما يختارون لأنفسهم .
قال تعالى : فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما . ( النساء : 65 ) .
{ وأزواجه أمهاتهم . . . } أي هن بمنزلة الأمهات في الحرمة والاحترام والتوقير والإكرام وفيما عدا ذلك هن كالأجنبيات فلا يحل النظر إليهن ولا إرثهن ولا نحو ذلك .
{ وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين . . . } وأصحاب القرابة أولى بالتوارث فيما بينهم فذلك حق موجود ثابت في كتاب الله تعالى أو في اللوح المحفوظ وهذا الحق – وهو التوارث بين الأقارب- أولى من التوارث بين المؤمنين بحق الدين والمهاجرين بحق الهجرة .
لقد كان التوارث بين المهاجرين والأنصار أمرا عارضا دعت إليه ظروف الهجرة فلما استقرت الأحوال عاد التشريع إلى الأصل وهو التوارث بحق القرابة ، وهذا التوارث بحق القرابة هو الأصل في كتاب الله وقد عدل عنه لضرورة طارئة ، فلما استقرت الأحوال عاد التشريع إلى الأصل ثم استثنى من الميراث بحق القرابة أن يتطوع إنسان فيوصي لإخوانه في الدين أو لأي فرد من الناس فيجب تنفيذ الوصية وتقديمها على الميراث وكذلك الدين يقدم على الميراث .
حيث قال تعالى في سورة النساء : من بعد وصية يوصى بها أو دين . . . ( النساء : 12 ) .
{ إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا كان ذلك في الكتاب المسطور . . . } أي إن التوارث على القرابة لا يمنعكم من ان تقدموا لأوليائكم من الأنصار والمهاجرين وغيرهم معروفا وبرا سوى الميراث كالوصية والهبة والهدية والصدقة وما تقدم من الأحكام في هذه السورة كان مسطورا ومسجلا في كتاب الله وهو القرآن أو اللوح المحفوظ فهو واجب التنفيذ والطاعة والامتثال .
1- آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أبي بكر وخارجة بن زيد وآخى بين عمر وشخص آخر وآخى بين الزبير وكعب بن مالك ، فكان التوارث على هذه الأخوة حتى نسخ الله ذلك بقوله تعالى : وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين .
2- روى البخاري عن أبي هريرة قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة اقرءوا إن شئتم : النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم . . . فأيما مؤمن ترك مالا فلترثه عصبته من كانوا ومن ترك دينا أو ضياعا ( عيالا ) فليتأنى فأنا مولاه " . 15
قال العلماء : كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يصلي على أحد وعليه دين فلما فتح الله عليه الفتوح قال : " أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن توفي وعليه دين فعلي قضاؤه ومن ترك مالا فلورثته " . 16
3- استنبط الفقهاء من هذا الحديث السابق أنه يجب على الإمام أن يقضي من بيت المال دين الفقراء اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم .
4-المراد من كتاب الله اللوح المحفوظ أو القران الكريم ومن لفظ المؤمنين الأنصار ومن لفظ ( المعروف ) الوصية أو الهداية أو الهبة أو ما أشبه ذلك ، ومن ( الأولياء ) الأصدقاء من المؤمنين ويدخل فيه المهاجرون والأنصار فإن الوصية تصح لكل مؤمن ومؤمنة ، وتقدم على الميراث بالقرابة والمصاهرة .
{ 6 } { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا }
يخبر تعالى المؤمنين ، خبرًا يعرفون به حالة الرسول صلى اللّه عليه وسلم ومرتبته ، فيعاملونه بمقتضى تلك الحالة فقال : { النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ } أقرب ما للإنسان ، وأولى ما له نفسه ، فالرسول أولى به من نفسه ، لأنه عليه الصلاة والسلام ، بذل لهم من النصح ، والشفقة ، والرأفة ، ما كان به أرحم الخلق ، وأرأفهم ، فرسول اللّه ، أعظم الخلق مِنَّةً عليهم ، من كل أحد ، فإنه لم يصل إليهم مثقال ذرة من الخير ، ولا اندفع عنهم مثقال ذرة من الشر ، إلا على يديه وبسببه .
فلذلك ، وجب عليهم إذا تعارض مراد النفس ، أو مراد أحد من الناس ، مع مراد الرسول ، أن يقدم مراد الرسول ، وأن لا يعارض قول الرسول ، بقول أحد ، كائنًا من كان ، وأن يفدوه بأنفسهم وأموالهم وأولادهم ، ويقدموا محبته على الخلق كلهم ، وألا يقولوا حتى يقول ، ولا يتقدموا بين يديه .
وهو صلى اللّه عليه وسلم ، أب للمؤمنين ، كما في قراءة بعض الصحابة ، يربيهم كما يربي الوالد أولاده .
فترتب على هذه الأبوة ، أن كان نساؤه أمهاتهم ، أي : في الحرمة والاحترام ، والإكرام ، لا في الخلوة والمحرمية ، وكأن هذا مقدمة ، لما سيأتي في قصة زيد بن حارثة ، الذي كان قبل يُدْعَى : " زيد بن محمد " حتى أنزل اللّه { مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ } فقطع نسبه ، وانتسابه منه ، فأخبر في هذه الآية ، أن المؤمنين كلهم ، أولاد للرسول ، فلا مزية لأحد عن أحد وإن انقطع عن أحدهم انتساب الدعوة ، فإن النسب الإيماني لم ينقطع عنه ، فلا يحزن ولا يأسف .
وترتب على أن زوجات الرسول أمهات المؤمنين ، أنهن لا يحللن لأحد من بعده ، كما الله صرح{[4]} بذلك : " وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا "
{ وَأُولُو الْأَرْحَامِ } أي : الأقارب ، قربوا أو بعدوا { بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ } [ أي ]{[5]} : في حكمه ، فيرث بعضهم بعضًا ، ويبر بعضهم بعضًا ، فهم أولى من الحلف والنصرة .
والأدعياء الذين كانوا من قبل ، يرثون بهذه الأسباب ، دون ذوي الأرحام ، فقطع تعالى ، التوارث بذلك ، وجعله للأقارب ، لطفًا منه وحكمة ، فإن الأمر لو استمر على العادة السابقة ، لحصل من الفساد والشر ، والتحيل لحرمان الأقارب من الميراث ، شيء كثير .
{ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ } أي : سواء كان الأقارب مؤمنين مهاجرين وغير مهاجرين ، فإن ذوي الأرحام مقدمون في ذلك ، وهذه الآية حجة على ولاية ذوي الأرحام ، في جميع الولايات ، كولاية النكاح ، والمال ، وغير ذلك .
{ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا } أي : ليس لهم حق مفروض ، وإنما هو بإرادتكم ، إن شئتم أن تتبرعوا لهم تبرعًا ، وتعطوهم معروفًا منكم ، { كَانَ } ذلك الحكم المذكور { فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا } أي : قد سطر ، وكتب ، وقدره اللّه ، فلا بد من نفوذه .
الأولى- قوله تعالى : " النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم " هذه الآية أزال الله تعالى بها أحكاما كانت في صدر الإسلام . منها : أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يصلي على ميت عليه دين ، فلما فتح الله عليه الفتوح قال : ( أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن توفي وعليه دين فعلي قضاؤه ، ومن ترك مالا فلورثته ) أخرجه الصحيحان . وفيهما أيضا ( فأيكم ترك دينا أو ضياعا فأنا مولاه ) . قال ابن العربي : فانقلبت الآن الحال بالذنوب ، فإن تركوا مالا ضويق العصبة فيه ، وإن تركوا ضياعا أسلموا إليه ، فهذا تفسير الولاية المذكورة في هذه الآية بتفسير النبي صلى الله عليه وسلم وتنبيهه . ( ولا عطر بعد عروس ) . قال ابن عطية : وقال بعض العلماء العارفين هو أولى بهم من أنفسهم ؛ لأن أنفسهم تدعوهم إلى الهلاك ، وهو يدعوهم إلى النجاة . قال ابن عطية : ويؤيد هذا قوله عليه الصلاة والسلام : ( أنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تقتحمون فيها تقحم الفراش ) .
قلت : هذا قول حسن في معنى الآية وتفسيرها ، والحديث الذي ذكر أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إنما مثلي ومثل أمتي كمثل رجل استوقد نارا فجعلت الدواب والفراش يقعن فيه{[12707]} وأنا آخذ بحجزكم وأنتم تقحمون فيه ) . وعن جابر مثله ، وقال : ( وأنتم تفلتون من يدي ) . قال العلماء : الحجزة للسراويل ، والمعقد للإزار ، فإذا أراد الرجل إمساك من يخاف سقوطه أخذ بذلك الموضع منه . وهذا مثل لاجتهاد نبينا عليه الصلاة والسلام في نجاتنا ، وحرصه على تخلصنا من الهلكات التي بين أيدينا ، فهو أولى بنا من أنفسنا ، ولجهلنا بقدر ذلك وغلبة شهواتنا علينا وظفر عدونا اللعين بناصرنا أحقر من الفراش وأذل من الفراش ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ! وقيل : أولى بهم أي أنه إذا أمر بشيء ودعت النفس إلى غيره كان أمر النبي صلى الله عليه وسلم أولى . وقيل أولى بهم أي هو أولى بأن يحكم على المؤمنين فينفذ حكمه في أنفسهم ، أي فيما يحكمون به لأنفسهم مما يخالف حكمه .
الثانية- قال بعض أهل العلم : يجب على الإمام أن يقضي من بيت المال دين الفقراء اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم ، فإنه قد صرح بوجوب ذلك عليه حيث قال : ( فعلي قضاؤه ) . والضياع ( بفتح الضاد ) مصدر ضاع ، ثم جعل اسما لكل ما هو بصدد أن يضيع من عيال وبنين لا كافل لهم ، ومال لا قيم له . وسميت الأرض ضيعة لأنها معرضة للضياع ، وتجمع ضياعا بكسر الضاد .
الثالثة- قوله تعالى : " وأزواجه أمهاتهم " شرف الله تعالى أزواج نبيه صلى الله عليه وسلم بأن جعلهن أمهات المؤمنين ، أي في وجوب التعظيم والمبرة والإجلال وحرمة النكاح على الرجال ، وحجبهن رضي الله تعالى عنهن بخلاف الأمهات . وقيل : لما كانت شفقتهن عليهم كشفقة الأمهات أنزلن منزلة الأمهات ، ثم هذه الأمومة لا توجب ميراثا كأمومة التبني . وجاز تزويج بناتهن ، ولا يجعلن أخوات للناس . وسيأتي عدد أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في آية التخيير{[12708]} إن شاء الله تعالى . واختلف الناس هل هن أمهات الرجال والنساء أم أمهات الرجال خاصة ، على قولين : فروى الشعبي عن مسروق عن عائشة رضي الله عنها أن امرأة قالت لها : يا أمة ، فقالت لها : لست لك بأم ، إنما أنا أم رجالكم . قال ابن العربي : وهو الصحيح .
قلت : لا فائدة في اختصاص الحصر في الإباحة للرجال دون النساء ، والذي يظهر لي أنهن أمهات الرجال والنساء ؛ تعظيما لحقهن على الرجال والنساء . يدل عليه صدر الآية : " النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم " ، وهذا يشمل الرجال والنساء ضرورة . ويدل على ذلك حديث أبي هريرة وجابر ، فيكون قوله : " وأزواجه أمهاتهم " عائدا إلى الجميع . ثم إن في مصحف أبي بن كعب " وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم " . وقرأ ابن عباس : " من أنفسهم وهو أب لهم [ وأزواجه أمهاتهم ]{[12709]} " . وهذا كله يوهن ما رواه مسروق إن صح من جهة الترجيح ، وإن لم يصح فيسقط الاستدلال به في التخصيص ، وبقينا على الأصل الذي هو العموم الذي يسبق إلى الفهوم{[12710]} . والله أعلم .
الرابعة- قوله تعالى : " وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين " قيل : إنه أراد بالمؤمنين الأنصار ، وبالمهاجرين قريشا . وفيه قولان : أحدهما : أنه ناسخ للتوارث بالهجرة . حكى سعيد عن قتادة قال : كان نزل في سورة الأنفال " والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء يهاجروا " {[12711]} [ الأنفال : 72 ] فتوارث المسلمون بالهجرة ، فكان لا يرث الأعرابي المسلم من قريبه المسلم المهاجر شيئا حتى يهاجر ، ثم نسخ ذلك في هذه السورة بقوله : " وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض " . الثاني : أن ذلك ناسخ للتوارث بالحلف والمؤاخاة في الدين ، روى هشام بن عروة عن أبيه عن الزبير : " وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله " وذلك أنا معشر قريش لما قدمنا المدينة قدمنا ولا أموال لنا ، فوجدنا الأنصار نعم الإخوان ، فآخيناهم فأورثونا وأورثناهم ، فآخى أبو بكر خارجة بن زيد ، وآخيت أنا كعب بن مالك ، فجئت فوجدت السلاح قد أثقله ، فوالله لقد مات عن الدنيا ما ورثه غيري ، حتى أنزل الله تعالى هذه الآية فرجعنا إلى موارثنا . وثبت عن عروة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بين الزبير وبين كعب بن مالك ، فارتث{[12712]} كعب يوم أحد فجاء الزبير يقوده بزمام راحلته ، فلو مات يومئذ كعب عن الضح{[12713]} والريح لورثه الزبير ، فأنزل الله تعالى : " وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله " . فبين الله تعالى أن القرابة أولى من الحلف ، فتركت الوراثة بالحلف وورثوا بالقرابة . وقد مضى في " الأنفال " {[12714]} الكلام في توريث ذوي الأرحام . وقوله : " في كتاب الله " يحتمل أن يريد القرآن ، ويحتمل أن يريد اللوح المحفوظ الذي قضى فيه أحوال خلقه . و " من المؤمنين " متعلق ب " أولى " لا بقوله : " وأولو الأرحام " بالإجماع ؛ لأن ذلك كان يوجب تخصيصا ببعض المؤمنين ، ولا خلاف في عمومها ، وهذا حل إشكالها . قاله ابن العربي . النحاس : " وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين والمهاجرين " يجوز أن يتعلق " من المؤمنين " ب " أولو " فيكون التقدير : وأولو الأرحام من المؤمنين والمهاجرين . ويجوز أن يكون المعنى أولى من المؤمنين . وقال المهدوي : وقيل إن معناه : وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إلا ما يجوز لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعين أمهات المؤمنين . والله تعالى أعلم .
الخامسة- واختلف في كونهن كالأمهات في المحرم وإباحة النظر ، على وجهين : أحدهما : هن محرم ، لا يحرم النظر إليهن . الثاني : أن النظر إليهن محرم ؛ لأن تحريم نكاحهن إنما كان حفظا لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهن ، وكان من حفظ حقه تحريم النظر إليهن ؛ ولأن عائشة رضي الله عنها كانت إذا أرادت دخول رجل عليها{[12715]} أمرت أختها أسماء أن ترضعه ليصير ابنا لأختها من الرضاعة ، فيصير محرما يستبيح النظر . وأما اللاتي طلقهن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته فقد اختلف في ثبوت هذه الحرمة لهن على ثلاثة أوجه : أحدها : ثبتت لهن هذه الحرمة تغليبا لحرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم . الثاني : لا يثبت لهن ذلك ، بل هن كسائر النساء ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أثبت عصمتهن ، وقال : ( أزواجي في الدنيا هن أزواجي في الآخرة ) . الثالث : من دخل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم منهن ثبتت حرمتها وحرم نكاحها وإن طلقها ؛ حفظا لحرمته وحراسة لخلوته . ومن لم يدخل بها لم تثبت لها هذه الحرمة ، وقد هم عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه برجم امرأة فارقها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتزوجت فقالت : لم هذا ! وما ضرب علي رسول الله صلى الله عليه وسلم حجابا ولا سميت أم المؤمنين ، فكف عنها عمر رضي الله عنه .
السادسة- قال قوم : لا يجوز أن يسمى النبي صلى الله عليه وسلم أبا لقوله تعالى : " ما كان محمد أبا أحد من رجالكم " [ الأحزاب : 40 ] . ولكن يقال : مثل الأب للمؤمنين ، كما قال : ( إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم . . . ) الحديث . خرجه أبو داود . والصحيح أنه يجوز أن يقال : إنه أب للمؤمنين ، أي في الحرمة ، وقوله تعالى : " ما كان محمد أبا أحد من رجالكم " [ الأحزاب : 40 ] أي في النسب . وسيأتي . وقرأ ابن عباس : " من أنفسهم وهو أب لهم وأزواجه " . وسمع عمر هذه القراءة فأنكرها وقال : حكمها يا غلام ؟ فقال : إنها في مصحف أبي ، فذهب إليه فسأله فقال له أبي : إنه كان يلهيني القرآن ويلهيك الصفق{[12716]} بالأسواق ؟ وأغلظ لعمر . وقد قيل في قول لوط عليه السلام " هؤلاء بناتي " {[12717]} [ الحجر : 71 ] : إنما أراد المؤمنات ، أي تزوجوهن . وقد تقدم .
السابعة- قال قوم : لا يقال بناته أخوات المؤمنين ، ولا أخوالهن أخوال المؤمنين وخالاتهم . قال الشافعي رضي الله عنه : تزوج الزبير أسماء بنت أبي بكر الصديق وهي أخت عائشة ، ولم يقل هي خالة المؤمنين . وأطلق قوم هذا وقالوا : معاوية خال المؤمنين ، يعني في الحرمة لا في النسب .
الثامنة- قوله تعالى : " إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا " يريد الإحسان في الحياة ، والوصية عند الموت ، أي إن ذلك جائز . قاله قتادة والحسن وعطاء . وقال محمد ابن الحنفية ، نزلت في إجازة الوصية لليهودي والنصراني ، أي يفعل هذا مع الولي والقريب وإن كان كافرا ، فالمشرك ولي في النسب لا في الدين فيوصى له بوصية . واختلف العلماء هل يجعل الكافر وصيا ، فجوز بعض ومنع بعض . ورد النظر إلى السلطان في ذلك بعض ، منهم مالك رحمه الله تعالى . وذهب مجاهد وابن زيد والرماني إلى أن المعنى : إلى أوليائكم من المؤمنين . ولفظ الآية يعضد هذا المذهب ، وتعميم الولي أيضا حسن . وولاية النسب لا تدفع الكافر ، وإنما تدفع أن يلقى إليه بالمودة كولي الإسلام .
التاسعة- " كان ذلك في الكتاب مسطورا " " الكتاب " يحتمل الوجهين المذكورين المتقدمين في " كتاب الله " . و " مسطورا " من قولك سطرت الكتاب إذا أثبته أسطارا . وقال قتادة : أي مكتوبا عند الله عز وجل ألا يرث كافر مسلما . قال قتادة : وفي بعض القراءة " كان ذلك عند الله مكتوبا " . وقال القرظي : كان ذلك في التوراة .
ولما نهى سبحانه عن التبني ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد تبنى زيد بن حارثة مولاه{[55054]} لما اختاره على أبيه وأمه{[55055]} ، علل سبحانه النهي فيه بالخصوص بقوله دالاً على أن الأمر أعظم من ذلك : { النبي } أي{[55056]} الذي ينبئه الله بدقائق الأحوال في بدائع الأقوال ، ويرفعه دائماً في مراقي الكمال ، ولا يريد أن يشغله بولد ولا مال { أولى بالمؤمنين } أي الراسخين في الإيمان ، فغيرهم أولى في{[55057]} كل شيء من أمور الدين والدنيا لما حازه من الحضرة الربانية { من أنفسهم } فضلاً عن آبائهم في{[55058]} نفوذ حكمه فيهم ووجوب طاعته عليهم ، لأنه لا يدعوهم إلا إلى العقل والحكمة ، ولا يأمرهم إلا بما ينجيهم ، وأنفسهم إنما تدعوهم إلى الهوى والفتنة فتأمرهم بما يرديهم ، فهو يتصرف فيهم{[55059]} تصرف الآباء بل الملوك{[55060]} بل{[55061]} أعظم بهذا السبب الرباني ، فأيّ حاجة له{[55062]} إلى السبب{[55063]} الجسماني { وأزواجه } أي اللاتي دخل بهن لما لهن من حرمته { أمهاتهم } أي المؤمنين{[55064]} من الرجال خاصة دون النساء ، لأنه لا محذور من جهة النساء ، وذلك في الحرمة والإكرام ، والتعظيم والاحترام ، وتحريم النكاح دون جواز الخلوة والنظر وغيرهما من الأحكام ، والتعظيم بينهن وبين الأمهات في ذلك أصلاً ، فلا يحل انتهاك حرمتهن بوجه ولا الدنو من جنابهن بنوع نقص ، لأن حق النبي صلى الله عليه وسلم على أمته أعظم من حق الوالد على ولده ، وهو حي في قبره و{[55065]} هذا أمر جعله الله {[55066]}وهوالذي إذا جعل شيئاً كان{[55067]} ، لأن الأمر أمره والخلق خلقه{[55068]} ، وهو العالم بما يصلحهم وما يفسدهم
{ ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير }[ الملك : 14 ] روى الشيخان{[55069]} عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه{[55070]} قال : " ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة ، اقرؤوا إن شئتم { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم } فأيما مؤمن ترك مالاً{[55071]} فلترثه عصبته من كانوا ، فإن ترك ديناً أو ضياعاً فليأتني وأنا مولاه " .
ولما رد الله سبحانه الأشياء إلى أصولها ، ونهى عن التشتت والتشعب ، وكان من ذلك أمر التبني ، وكان من المتفرع عليه الميراث بما كان قديماً من الهجرة والنصرة والأخوة التي قررها النبي صلى الله عليه وسلم لما كان الأمر{[55072]} محتاجاً إليها ، وكان ذلك قد نسخ بالآية{[55073]} التي في آخر الأنفال ، وهي قبل هذه السورة ترتيباً ونزولاً ، وكان ما ذكر هنا فرداً داخلاً في عموم العبارة{[55074]} في تلك الآية{[55075]} ، أعادها منا{[55076]} تأكيداً وتنصيصاً على هذا الفرد للاهتمام به مع ما فيها من تفصيل وزيادة فقال : { و{[55077]} أولوا الأرحام } أي القرابات بأنواع النسب من النبوة وغيرها{[55078]} { بعضهم أولى } بحق القرابة { ببعض } في جميع المنافع العامة للدعوة والإرث والنصرة والصلة { في كتاب الله } أي قضاء الذي له الأمر كله ولا أمر لأحد معه ، وحكمه كما تقدم في كتابكم هذا ، وكما أشار إليه الحديث الماضي آنفاً .
ولما بين أنهم أولى بسبب القرابة ، بين المفضل عليه فقال : { من } أي هم أولى بسبب القرابة من { المؤمنين }{[55079]} الأنصار{[55080]} من غير{[55081]} قرابة مرجحة { والمهاجرين } المؤمنين من غير قرابة{[55082]} كذلك ، ولما كان المعنى : أولى{[55083]} في{[55084]} كل نفع ، استثنى منه على القاعدة الاستثناء من أعم العام قوله ، لافتاً النظم إلى أسلوب الخطاب ليأخذ المخاطبون منه أنهم متصفون بالرسوخ في الإيمان الذي مضى ما دل عليه في آية الأولوية من التعبير بالوصف ، فيحثهم ذلك على فعل المعروف : { إلا أن تفعلوا } أي{[55085]} حال كونكم موصلين ومسندين { إلى أوليائكم } بالرق أو التبني{[55086]} أو الحلف في الصحة مطلقاً وفي المرض من الثلث تنجيراً أو وصية { معروفاً } تنفعونهم{[55087]} به ، فيكون حينئذ ذلك الولي مستحقاً لذلك ، ولا يكون ذو الرحم أولى منه ، بل لا وصية لوارث .
ولما أخبر أن هذا الحكم في كتاب الله ، أعاد التنبيه على ذلك تأكيداً قلعاً لهذا الحكم الذي تقرر في الأذهان بتقريره سبحانه فيما مضى فقال مستأنفاً : { كان ذلك } أي الحكم العظيم { في الكتاب } أي القرآن في آخر سورة الأنفال { مسطوراً * } بعبارة تعمه ، قال الأصبهاني{[55088]} : وقيل : في التوراة ، لأن في التوراة : إذا نزل رجل بقوم من أهل دينه فعليهم أن يكرموه ويواسوه ، وميراثه لذوي قرابته ، فالآية من الاحتباك : أثبت وصف الإيمان أولاً دليلاً على حذفه ثانياً و{[55089]} وصف الهجرة ثانياً دليلاً على حذف النصرة أولاً .