السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{أَوۡ كَصَيِّبٖ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ فِيهِ ظُلُمَٰتٞ وَرَعۡدٞ وَبَرۡقٞ يَجۡعَلُونَ أَصَٰبِعَهُمۡ فِيٓ ءَاذَانِهِم مِّنَ ٱلصَّوَٰعِقِ حَذَرَ ٱلۡمَوۡتِۚ وَٱللَّهُ مُحِيطُۢ بِٱلۡكَٰفِرِينَ} (19)

{ أو } مثلهم { كصيب } فهو معطوف على الذي استوقد أي : كمثل أصحاب صيب لقوله : { يجعلون أصابعهم في آذانهم } و{ أو } في الأصل للتساوي للشك ، ثم اتسع فيها فأطلق للتساوي من غير شك مثل جالس الحسن أو ابن سيرين ، وقوله تعالى : { ولا تطع منهم آثماً أو كفوراً } ( الإنسان ، 24 ) فإنه يفيد التساوي في حسن المجالسة في المثال الأول ووجوب العصيان في الثاني ومن ذلك قوله : { أو كصيب من السماء } ومعناه بقرينة السياق أنّ قصة المنافقين مشبهة بهاتين القصتين وأنهما سواء في صحة التشبيه بهما وأنت مخير في التمثيل بهما أو بأيتهما شئت وإن كان الثاني أبلغ كما قاله الزمخشري ، قال : لأنه أدل على فرط الحيرة وشدّة الأمر وفظاعته ، والصيب أصله صيوب من صاب يصوب وهو النزول ، يقال للمطر وللسحاب ، والآية تحتملهما ، أي ينزل { من السماء } ذلك فإن قدّرت الصيب بالمطر فالمراد بالسماء السحاب وإنّ قدرته بالسحاب فالمراد السماء بعينها والسماء كل ما علاك وأظلك وهي من أسماء الأجناس فيكون واحداً وجمعاً { فيه } أي : الصيب ، وقيل : السماء { ظلمات } جمع ظلمة فإن أريد بالصيب المطر فظلماته ظلمة تكاثفه بتتابع القطر وظلمة غمامه مع ظلمة الليل وإن أريد به السحاب فظلماته سواده وتكاثفه مع ظلمة الليل { ورعد } وهو صوت يسمع من السحاب قال البيضاوي : والمشهور أنّ سببه اضطراب أجرام السحاب واصطكاكها إذا ساقها الريح من الارتعاد { وبرق } وهو ما يلمع من السحاب من برق الشيء بريقاً ، هذا ما جرى عليه الجوهري وغيره ، وهو المناسب هنا وإن أطلق الرعد على الملك أيضاً فهو مشترك بين الصوت المذكور والملك الثابت في الأحاديث ، ففي بعضها : أنه ملك موكل بالسحاب بيده مخراق من نار يزجر به السحاب بسوقه إلى حيث شاء الله وصوته ما يسمع ، وفي بعضها : أنه ملك ينعق بالغيث كما ينعق الراعي بغنمه ، وفي بعضها : أنه ملك يسوق السحاب بالتسبيح كما يسوق الحادي الإبل بحدائه ، وفي بعضها : أنه ملك مسمى به وهو الذي تسمعون صوته { يجعلون } أي : أصحاب الصيب { أصابعهم } أي : أناملها وإنما أطلق الأصابع موضع الأنامل للمبالغة لما في ذلك من الإشعار بدخول أصابعهم فوق المعتاد فراراً من شدّة الصوت { في آذانهم } وقوله : { من الصواعق } متعلق بيجعلون أي : من أجلها يجعلون وهو جمع صاعقة وهي الصيحة التي يموت من يسمعها أو يغشى عليه ويقال لكل عذاب مهلك : صاعقة وقيل : الصاعقة قطعة عذاب ينزلها الله تعالى على من يشاء . روي عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه رضي الله تعالى عنهم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا سمع الرعد والصواعق قال : ( اللهم لا تقتلنا بغضبك ولا تهلكنا بعذابك وعافنا قبل ذلك ) وأمال الدوريّ عن الكسائي الألف التي بعد الذال في آذانهم إمالة محضة ، والباقون بالفتح . وقوله تعالى : { حذر الموت } نصب على العلة كقول الشاعر :

وأغفر ( أي : أستر ) عوراء الكريم ادخاره *** وأعرض عن شتم اللئيم تكرما

قال البيضاوي : والموت زوال الحياة ، زاد في «الطوالع » : عما من شأنه الحياة وفيه تساهل إذ يلزم منه أن يكون الجنين قبل حلول الحياة فيه ميتاً ، والأظهر كما في «شرح المواقف » أن يقال : عدم الحياة عما اتصف بها بالفعل فبينهما تقابل العدم والملكة على التفسيرين ، وقيل : عرض يضادّها فبينهما تقابل التضاد لقوله تعالى : { خلق الموت والحياة } ( الملك ، 2 ) فجعل الموت مخلوقاً والعدم لا يخلق وردّ بأنّ الخلق بمعنى التقدير لا بمعنى الإيجاد والإعدام مقدّرة ولو سلم بأنه بمعنى الإيجاد فالمعنى خلق أسباب الموت والحياة وبذلك علم أنّ القول الأوّل هو المعتمد وكلام أئمة اللغة طافح به وحاصله أنّ الموت مفارقة الروح الجسد وما ورد في الأحاديث من أنه جسم ، حيث قيل في بعضها : إنه كبش ، وفي بعضها : إنه على صورة كبش لا يمر على أحد إلا مات فمؤوّل بأنه لم يقصد بالموت فيها حقيقته بل قصد أنه يصوّر بصورة كبش كما في خبر الشيخين وغيرهما ( أنه يجاء بالموت يوم القيامة كأنه كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار ) الخ . . . { والله محيط بالكافرين } علماً وقدرة فلا يفوتونه كما لا يفوت المحاط ، به المحيط لا يخلصهم الخداع والحيل ، وقيل : مهلكم دليله قوله تعالى : { إلا أن يحاط بكم } ( يوسف ، 66 ) أي : تهلكوا ، والجملة اعتراضية لا محل لها ، قال أبو حيان : لأنها دخلت بين هاتين الجملتين ، وهما يجعلون أصابعهم ويكاد البرق وهما من قصة واحدة ، ويميل ورش الألف بعد الكاف بين بين وكذا الكافرين حيث جاء ، وقرأ أبو عمرو والدوري عن الكسائي بالإمالة المحضة فيهما حيث جاء ، والباقون بالفتح .