السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{۞إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَسۡتَحۡيِۦٓ أَن يَضۡرِبَ مَثَلٗا مَّا بَعُوضَةٗ فَمَا فَوۡقَهَاۚ فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فَيَعۡلَمُونَ أَنَّهُ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّهِمۡۖ وَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَٰذَا مَثَلٗاۘ يُضِلُّ بِهِۦ كَثِيرٗا وَيَهۡدِي بِهِۦ كَثِيرٗاۚ وَمَا يُضِلُّ بِهِۦٓ إِلَّا ٱلۡفَٰسِقِينَ} (26)

ولما ضرب الله سبحانه وتعالى المثل بالذباب والعنكبوت في قوله تعالى : { وإن يسلبهم الذباب } ( الحج ، 73 ) وقوله تعالى : { كمثل العنكبوت } ( العنكبوت ، 41 ) قالت اليهود : ضرب المثل بذلك مما يستحيا منه لخسته فليس من عند الله تعالى فنزل ردّاً عليهم .

{ إن الله لا يستحيي } أي : لا يترك { أن يضرب مثلاً مّا بعوضة } وهي صغيرة البق ترك من يستحيي أن يمثل بها لحقارتها وأن بصلتها مخفوض المحل عند الخليل بإضمار من منصوب بإفضاء الفعل إليه بعد حذف من عند سيبويه ، ويجوز كما في «الكشاف » نصبه بإفضاء الفعل إليه بنفسه فإن استحيا يتعدّى بنفسه أيضاً ، يقال : استحييت منه واستحييته ، وما إمّا إبهامية تزيد النكرة قبلها إبهاماً وإمّا مزيدة لتأكيد معنى مضمون الجملة قبلها كالتي في قوله تعالى : { فبما رحمة من الله } ( آل عمران ، 159 ) ولا يراد بالمزيد اللغو الضائع فإن القرآن كله هدى وبيان بل المراد بالمزيد ما لم يوضع لمعنى يراد منه وإنما وضعت لأن تذكر مع غيرها فتفيده وثاقة وقوّة وهو زيادة في الهدى غير قادح في القرآن ، وبعوضة عطف بيان أو بدل من مثلاً أو مفعول ثان ليضرب بمعنى يجعل ، والحياء انقباض النفس عن القبيح مخافة الذم وهو الوسط بين الوقاحة التي هي الجراءة على القبائح وعدم المبالاة بها وبين الخجل الذي هو انحصار النفس عن الفعل مطلقاً فإذا وصف به الباري سبحانه وتعالى كما جاء في الحديث «إنّ الله يستحي من ذي الشيبة المسلم أن يعذبه » «إنّ الله حييّ كريم يستحي إذا رفع العبد يديه أن يردّهما صفراً حتى يضع فيهما خيراً » فالمراد به الترك كما قدّرته اللازم للانقباض كما أنّ المراد من رحمته وغضبه إصابة المعروف والمكروه اللازمين لمعنييهما ، وتحتمل الآية خاصة أن يكون مجيء الحياء فيها للمشاكلة وهو أن يذكر الشيء بلفظ غيره لوقوعه في صحبته ولو تقديراً كما هنا وهو قول الكفرة : أما يستحيي رب محمد أن يضرب مثلاً بالذباب والعنكبوت . ولما كان التمثيل ويصار إليه لكشف المعنى الممثل له ورفع الحجاب عنه وإبرازه في صورة المشاهد المحسوس ليساعد فيه الوهم العقل ويصالحه عليه فإنّ المعنى الصرف إنما يدركه العقل مع منازعة من الوهم لأنّ من طبعه ميل الحس وحب المحاكاة شاعت الأمثال في الكتب الإلهية وفشت في عبارات البلغاء وإشارات الحكماء فيمثل الحقير بالحقير كما يمثل العظيم بالعظيم وإن كان الممثل أعظم من كل عظيم كما مثل سبحانه وتعالى في الإنجيل غلّ الصدر بالنخالة والقلوب القاسية بالحصاة ومخالطة السفهاء بإثارة الزنابير ونصه على ما حكاه الفخر الرازي في الأوّل : لا تكونوا كمنخل يخرج منه الدقيق الطيب ويمسك النخالة كذلك أنتم تخرجون الحكمة من أفواهكم وتبقون الغل في صدوركم . وفي الثاني : قلوبكم كالحصاة التي لا تطبخها النار ولا يلينها الماء ولا ينسفها الريح . وفي الثالث : لا تثيروا الزنابير فتلدغكم فكذلك لا تخالطوا السفهاء فيشتموكم ، وجاء في كلام العرب ( اسمع من قراد ) لأنّ العرب تزعم أنه يسمع صوت أخفاف الإبل من مسيرة يوم فيتحرّك لها ، وقيل : من مسيرة سبع ليال ( وأعز من مخ البعوض ) يضرب لمن يكلف الأمور الشاقة { فما فوقها } أي : ما زاد على البعوضة في الجثة كالذباب والعنكبوت ، والمعنى أنه لا يستحيي من ضرب المثل بالبعوضة فضلاً عما هو أكبر منه ، أو المعنى الذي جعلت فيه مثلاً وهو الصغر والحقارة كجناحها فإنه عليه الصلاة والسلام ضرب جناحها مثلاً للدنيا بقوله في خبر الترمذي : ( لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها جرعة ماء ) ونظيره في احتمال الفوقية للجثة وللمعنى ما روى البخاري وغيره : أنّ رجلاً بمنى خر على طنب فسطاط فقالت عائشة رضي الله تعالى عنها : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتب له بها درجة ومحيت عنه بها خطيئة ) فإنه يحتمل ما يجاوز الشوكة في الألم كالسقوط على الطنب وما زاد عليها في القلة كقرصة النملة ، والطنب حبل الخباء ، والفسطاط بيت من شعر . { فأمّا الذين آمنوا فيعلمون أنه } أي : ضرب المثل بذلك { الحق } أي : الواقع موقعه { من ربهم } لأن الحق هو الثابت الذي لا يسوغ إنكاره . وهم يعم الأعيان الثابتة والأفعال الصائبة والأقوال الصادقة من قولهم : حق إذا ثبت ومنه ثوب محقق ، أي : محكم النسج ، وأمّا حرف تفصيل يفصل ما أجمل ويؤكد ما به صدر ويتضمن معنى الشرط ولذلك يجاب بالفاء ، قال سيبويه : أمّا زيد فذاهب معناه مهما يكن من شيء فزيد ذاهب أي : هو ذاهب لا محالة وأنه منه عزيمة ، وكان الأصل دخول الفاء على الجملة لا الخبر لكن كرهوا إيلاءها حرف الشرط فأدخلوا الفاء على الخبر وعوضوا المبتدأ عن جملة الشرط لفظاً { وأمّا الذين كفروا فيقولون ماذا } يحتمل وجهين : أن تكون ما استفهامية وذا بمعنى الذي وما بعده صلته والمجموع خبر ما ، وأن تكون ما مع ذا اسماً واحداً بمعنى أيّ شيء { أراد الله بهذا } فهو منصوب المحل على المفعولية لأراد فما وذا كما في «الكشاف » في حكم ما وحده لو قلت ما أراد الله وكان من حقه ، وأمّا الذين كفروا فلا يعلمون ليطابق قرينه وهو الذين آمنوا ويقابل قسيمه وهو يعلمون أنه الحق ، لكن لما كان قولهم هذا دليلاً واضحاً على كمال جهلهم عدل إليه على سبيل الكناية عن عدم علمهم ليكون كالبرهان عليه والإرادة صفة ذاتية قديمة زائدة على العلم ترجح أحد مقدوريه على الآخر وتخصصه بوجه دون وجه بخلاف القدرة فإنها لا تخصص الفعل ببعض الوجوه بل هي موجدة للفعل مطلقاً وقوله تعالى : { مثلاً } نصب على الحال من اسم الإشارة والعامل فيه اسم الإشارة أو التمييز والمعنى أي فائدة في ذلك فقال تعالى : { يضلّ به كثيراً } بأن يكذبوا به { ويهدي به كثيراً } بأن يصدقوا به وكثرة كل واحد من القبيلين بالنظر إلى أنفسهم لا بالقياس أي : لا بالنظر إلى مقابليهم فإنّ المهتدين قليلون بالإضافة إلى أهل الضلال كما قال تعالى : { وقليل من عبادي الشكور } ( سبأ ، 13 )

ويحتمل أن تكون كثرة الضالين من حيث العدد وكثرة المهتدين باعتبار الفضل والشرف كما قال المتنبي في مدح علي بن يسار :

سأطلب حقي بالقنا ومشايخ *** كأنهم من طول ما التثموا مرد

ثقال إذا لاقوا خفاف إذا دعوا *** قليل إذا عدّوا كثيراً إذا شدوا

وقال : إن الكرام كثير ( أي : كرماً ) في البلاد وإن قلوا ( أي : عدداً ) ، كما غيرهم ( قل بضم القاف وكسرها أي : قليل كرماً ) وإن كثروا .

أي : عدداً { وما يضلّ به إلا الفاسقين } أي : الخارجين عن حدّ الإيمان بالكفر كقوله تعالى : { إنّ المنافقين هم الفاسقون } ( التوبة ، 67 ) وتخصيص الإضلال بهم مرتباً على صفة الفسق يدل على أنه الذي أعدهم للإضلال وأدى بهم إلى الضلال بالمثل وسبب ضلالتهم به أن كفرهم وعدولهم عن الحق وإصرارهم بالباطل صرفت وجوه أفكارهم عن حكمة المثل إلى حقارة الممثل به حتى رسخت به جهالتهم وازدادت به ضلالتهم فأنكروا المثل واستهزؤوا به ، وأمّا الفاسق في الشرع فهو الخارج عن أمر الله بارتكاب كبيرة أو إصرار على صغيرة ولم تغلب طاعاته على معاصيه ولا يخرجه ذلك عن الإيمان إلا إذا اعتقد حل المعصية سواء أكانت كبيرة أم صغيرة قال تعالى : { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا } ( الحجرات ، 9 ) والمعتزلة جعلوا الفاسق قسماً ثالثاً نازلاً بين منزلتي المؤمن والكافر لمشاركة كل واحد منهما في بعض الأحكام .