السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَإِذۡ قَالَ رَبُّكَ لِلۡمَلَـٰٓئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٞ فِي ٱلۡأَرۡضِ خَلِيفَةٗۖ قَالُوٓاْ أَتَجۡعَلُ فِيهَا مَن يُفۡسِدُ فِيهَا وَيَسۡفِكُ ٱلدِّمَآءَ وَنَحۡنُ نُسَبِّحُ بِحَمۡدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَۖ قَالَ إِنِّيٓ أَعۡلَمُ مَا لَا تَعۡلَمُونَ} (30)

{ و } اذكر يا محمد { إذ قال ربك للملائكة } وقيل : إذ زائدة أي : وقال ربك : وكل ما ورد في القرآن من هذا النحو فهذا سبيله وهو إلا إما يقدّر اذكر وهو الأولى أو تكون إذ مزيدة وإذ وإذا ظرفا توقيت إلا أنّ إذ للماضي وإذا للمستقبل وقد يوضع أحدهما موضع الآخر ، قال المبرد : إذا جاء إذ مع المستقبل كان معناه ماضياً كقوله تعالى : { وإذ يمكر } ( الأنفال ، 30 ) يعني : وإذ مكروا ، وإذا جاء إذا مع الماضي كان معناه مستقبلاً كقوله تعالى : { إذا جاء نصر الله } ( الفتح ، 1 ) أي : سيجيء ، وقرأ أبو عمرو بإدغام اللام في الراء بخلاف عنه ، والباقون بالإظهار ، والملائكة جمع ملك أصله ملاك والتاء لتأنيث الجمع وهو مقلوب مألك من الألوكة وهي الرسالة لأنهم وسايط بين الله تعالى وبين الناس فهم رسل الله أو كالرسل إليهم لتوسط الأنبياء بينهم وبين الناس واختلف العقلاء في حقيقتهم بعد اتفاقهم على أنها ذوات موجودة قائمة بأنفسها فذهب أكثر المسلمين إلى أنها أجسام لطيفة شفافة ويعبرون عنها بنورانية قادرة على التشكل بأشكال مختلفة والجنّ قادرة على ذلك واستدلوا على ذلك بأنّ الرسل كانوا يرونهم أجساماً لطيفة متشكلة بأشكال مختلفة وزعم الحكماء يعني الفلاسفة أنهم جواهر مجرّدة مخالفة للنفوس الناطقة في الحقيقة ، وقالت طائفة من النصارى : هي النفوس الفاضلة أي : المتصفة بفضائل العلم والعمل ، بخلاف الشرّيرة فإنها عندهم : الشياطين البشرية الناطقة . قوله : البشرية وما بعده صفة للنفوس المفارقة للأبدان يعني : ما دامت في الأبدان تسمى النفوس ، فإذا فارقتها كانت الملائكة ، والمقول له الملائكة كلهم لعموم اللفظ وعدم المخصص ، وقيل : ملائكة الأرض وذلك أنّ الله تعالى خلق السماء والأرض وخلق الملائكة والجنّ فأسكن الملائكة السماء وأسكن الجنّ في الأرض فمكثوا فيها دهراً طويلاً ثم ظهر فيهم الحسد والبغي فأفسدوا فيها فبعث الله تعالى إليهم جنداً من الملائكة يقال له : الجنّ وهم خزان الجنان اشتق لهم اسم من الجنة رأسهم إبليس فكان رئيسهم ومن أشدّهم وأكثرهم علماً فهبطوا إلى الأرض وطردوا الجنّ إلى شعوب الجبال وبطون الأودية وجزائر البحور وسكنوا الأرض وخفف الله تعالى عنهم العبادة وأعطى الله تعالى إبليس ملك الأرض وملك السماء الدنيا وخزانة الجنة وكان يعبد الله تارة في الأرض وتارة في السماء وتارة في الجنة فدخله العجب وقال : ما أعطاني الله تعالى هذا الملك إلا لأني أكرم الملائكة عليه فقال الله تعالى له ولجنده : { إني جاعل في الأرض خليفة } وجاعل من جعل الذي له مفعولان وهما في الأرض خليفة أعمل فيهما لأنه بمعنى الاستقبال ومعتمد على مسند إليه ويجوز أن يكون بمعنى خالق فيتعدّى لمفعول واحد وهو خليفة والخليفة من يخلف غيره وينوب عنه ، أي : جاعله بدلاً منكم ورافعكم إليّ فكرهوا ذلك لأنهم كانوا أهون الملائكة عبادة ، والهاء فيه للمبالغة والمراد به لآدم صلى الله عليه وسلم لأنه كان خليفة الله في أرضه وكذا كل نبيّ استخلفه الله في عمارة الأرض وسياسة الناس وتكميل نفوسهم وتنفيذ أمره فيهم لا لحاجة به تعالى إلى من ينوبه بل لقصور المستخلف عليه عن قبول فبضه وتلقي أمره بغير وسط ولذلك لم يستنبىء ملكاً كما قال تعالى : { ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلاً } ( الأنعام ، 9 ) أي : في صورة رجل ألا ترى أنّ الأنبياء لما فاقت قوّتهم واشتعلت قريحتهم بحيث يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسه نار أرسل إليهم الملائكة ومن كان من الأنبياء أعلى رتبة كلمه بلا واسطة كما كلم موسى صلاة الله وسلامه عليه في الميقات ومحمداً صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج ، وقيل : إنه خليفة من سكن الأرض قبله ، وقيل : المراد آدم وذرّيته لأنهم يخلفون من قبلهم أو يخلف بعضهم بعضاً وإفراد اللفظ إمّا للاستغناء بذكره عن ذكر بنيه أو على تأويل من يخلف ، وفائدة قوله هذا للملائكة تعليم المشاورة وتعظيم شأن المجعول بأن بشر تعالى بوجود سكان ملكوته ولقبه بالخليفة قبل خلقه وإظهار فضله الراجح على ما فيه من المفاسد بسؤالهم وجوابه وبيان أنّ الحكمة تقتضي إيجاد ما يغلب خيره فإن ترك الخير الكثير لأجل الشرّ القليل شر كثير إلى غير ذلك { قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها } بالمعاصي { ويسفك الدماء } أي : يريقها بالقتل كما فعل بنو الجان تعجبوا من أن يستخلف لعمارة الأرض وإصلاحها من يفسد وقصدهم استكشاف ما خفي عليهم من الحكمة التي بهرت تلك المفاسد وألغتها وليس باعتراض على الله تعالى ولا طعن في بني آدم على وجه الغيبة فإنهم أعلى من أن يظن بهم ذلك لقوله تعالى : { بل عباد مكرمون 26 لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون } ( الأنبياء ، 26 ) وإنما عرفوا ذلك بإخبار من الله تعالى أو تلق من اللوح أو استنباط عما ركز في عقولهم أنّ العصمة من خواصهم أو قياس لأحد الثقلين على الآخر وإلا فهم ما كانوا يعلمون الغيب { ونحن نسبح } متلبسين { بحمدك } أي : نقول سبحان الله وبحمده وهذه صلاة ما عدا الآدميين وعليها يرزقون قال تعالى : { وإن من شيء إلا يسبح بحمده } ( الإسراء ، 44 ) أي : يقول : سبحان الله وبحمده .

روي عن أبي ذرّ : ( أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل : أيّ الكلام أفضل ؟ قال : ما اصطفى الله ملائكته أو لعباده سبحان الله وبحمده ) وقيل : ونحن نصلي بأمرك ، قال ابن عباس : كل ما في القرآن من التسبيح فالمراد منه الصلاة { ونقدّس لك } ننزهك عما لا يليق بك ، فاللام صلة والجملة حال مقرّرة لجهة الإشكال كقولك : أتحسن إلى أعدائك وأنا الصديق المحتاج ، والمعنى : أتستخلف عصاة ونحن معصومون أحقاء بذلك ، والمقصود منه الاستفسار عما رجحهم مع ما هو متوقع منهم على الملائكة المعصومين في الاستخلاف لا العجب والتفاخر ، وقيل : نقدّس لك نطهر نفوسنا عن الذنوب لأجلك ، كأنهم قابلوا الفساد المفسر بالشرك عند قوم بالتسبيح وسفك الدماء الذي هو أعظم الأفعال الذميمة بتطهر النفس عن الآثام { قال } تعالى : { إني أعلم ما لا تعلمون } من المصلحة في استخلاف آدم وأنّ ذريته فيهم المطيع والعاصي فيظهر العدل بينهم ، وقيل : إني أعلم أنّ فيكم من يعصيني وهو إبليس وجنوده ، وقيل : إني أعلم أنهم مذنبون وأنا أغفر لهم . وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الباء ، والباقون بالسكون وهم على مراتبهم في المدّ .