السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{لَن تَنَالُواْ ٱلۡبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَۚ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيۡءٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِۦ عَلِيمٞ} (92)

{ لن تنالوا البر } أي : لن تبلغوا حقيقة البر الذي هو كمال الخير أو لن تنالوا بر الله تعالى الذي هو الرحمة والرضا والجنة { حتى تنفقوا مما تحبون } من أموالكم أو ما يعمها وغيرها كبذل الجاه في معاونة الناس والبدن في طاعة الله تعالى والنفس في سبيله ، وقال الحسن : لن تكونوا أبراراً .

روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : ( عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر ، وإن البر يهدي إلى الجنة وما يزال الرجل يصدق ويتحرّى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً ، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار ، وما يزال الرجل يكذب ويتحرّى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً ) وكان السلف رحمهم الله إذا أحبوا شيئاً جعلوه لله .

روي لما نزلت هذه الآية جاء أبو طلحة فقال : يا رسول الله إن أحب أموالي إلي بيرحاء وهو بفتح الباء الموحدة وكسرها وبفتح الراء وضمها مع المدّ والقصر ضيعة بالمدينة وكانت مستقبلة المسجد ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب فضعها يا رسول الله حيث أراك الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( بخ بخ ذاك مال رابح أو قال رائح وإني أرى أن تجعلها في الأقربين فقال أبو طلحة : افعل يا رسول الله فقسمها في أقاربه ) قوله صلى الله عليه وسلم : بخ بخ كلمة تقال عند المدح والرضا بالشيء وتكرّر للمبالغة وهي مبنية على السكون ، فإن وصلت كسرت ونونت وربما شدّدت وقوله : رابح أو رائح يقال لضيعة الإنسان : مال رائح بالياء أي : يروح نفعه إليه ورابح بالباء الموحدة أي : ذو ربح كقولك لابن وتامر أي : ذو لبن وذو تمر .

وجاء زيد بن حارثة بفرس له كان يحبها فقال : هذه في سبيل الله فحمل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم أسامة بن زيد بن حارثة فكأن زيداً وجد في نفسه وقال : إنما أردت أن أتصدّق به ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أما إن الله قد قبلها منك ) وكتب عمر رضي الله تعالى عنه إلى أبي موسى الأشعريّ أن يبتاع له جارية من سبي جلولاء يوم فتحت مدائن كسرى ، فلما جاءت أعجبته فقال : إن الله قال :

{ لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } ( آل عمران ، 92 ) فأعتقها وقال : لولا أني لا أعود في شيء جعلته لله لنكحتها { وما تنفقوا من شيء } أي : من أي شيء تحبونه أو غيره ومن بيان لما { فإنّ الله به عليم } فيجازيكم بحسبه .

ولما قالت اليهود لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنك تزعم أنك على ملة إبراهيم ، وكان إبراهيم لا يأكل لحوم الإبل وألبانها وأنت تأكلها فلست أنت على ملته ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : ( كان ذلك حلالاً لإبراهيم ) فقالوا : كل ما نحرّمه اليوم كان حراماً على نوح وإبراهيم حتى انتهى إلينا ) نزل .