إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{مَآ أَنزَلۡنَا عَلَيۡكَ ٱلۡقُرۡءَانَ لِتَشۡقَىٰٓ} (2)

{ مَا أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القرآن لتشقى } فإنه استئنافٌ مَسوقٌ لتسليته عليه الصلاة والسلام عما كان يعتريه من جهة المشركين من التعب ، فإن الشقاءَ شائعٌ في ذلك المعنى ومنه أشقى من رائض مُهْرٍ أي ما أنزلناه عليك لتتعبَ بالمبالغة في مكابدة الشدائد في مقاولة العُتاةِ ومحاورة الطغاةِ وفرْطِ التأسّف على كفرهم به والتحسرّ على أن يؤمنوا كقوله عز وجل : { فَلَعَلَّكَ باخع نَّفْسَكَ على آثارهم } الآية ، بل للتبليغ والتذكير وقد فعلتَ فلا عليك إن لم يؤمنوا به بعد ذلك ، أو لصرفه عليه الصلاة والسلام عما كان عليه من المبالغة في المجاهدة في العبادة ، كما يروى أنه عليه الصلاة والسلام كان يقوم بالليل حتى ترم قدماه ، فقال له جبريلُ عليه السلام : أَبْقِ على نفسك فإن لها عليك حقاً ، أي ما أنزلناه عليك لتتعب بنهك نفسِك وحملِها على الرياضات الشاقةِ والشدائدِ الفادحة وما بُعثت إلا بالحنيفية السمحة ، وقيل : إن أبا جهل والنضْرَ بنَ الحارث قالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إنك شقيٌّ حيث تركت دينَ آبائِك وإن القرآنَ نزل عليك لتشقى به ، فرُدّ ذلك بأنا ما أنزلناه عليك لِما قالوا ، والأولُ هو الأنسبُ كما يشهد به الاستثناء الآتي .

هذا ، وإما اسمٌ للقرآن محلُّه الرفعُ على أنه مبتدأٌ وما بعده خبرُه ، والقرآنُ ظاهرٌ أوقع موقعَ العائد إلى المبتدأ كأنه قيل : القرآنُ ما أنزلناه عليك لتشقى ، أو النصبُ على إضمار فعلِ القسم أو الجرُّ بتقدير حرفِه وما بعده جوابُه ، وعلى هذين الوجهين يجوز أن يكون اسماً للسورة أيضاً بخلاف الوجهِ الأول فإنه لا يتسنى على ذلك التقدير لكن لا لأن المبتدأ يبقى حينئذ بلا عائد ولا قائم مَقامَه ، فإن القرآنَ صادقٌ على الصورة لا محالة إما بطريق الاتحاد بأن يراد به القدْرُ المشترَكُ بين الكل والبعض ، أو باعتبار الاندراجِ إن أريد به الكلُّ ، بل لأن نفيَ كونِ إنزالِه للشقاء يستدعي سبقَ وقوعِه الشقاء مترتباً على إنزاله قطعاً إما بحسب الحقيقة كما لو أريد به معنى التعب أو بحسب زعْم الكفرةِ كما لو أريد به ضدُّ السعادة ، ولا ريب في أن ذلك إنما يُتصور في إنزال ما أُنزل من قبل ، وأما إنزالُ السورةِ الكريمة فليس مما يمكن ترتبُ الشقاءِ السابق عليه حتى يُتصدّى لنفيه عنه . أما باعتبار الاتحادِ فظاهرٌ وأما باعتبار الأندارجِ فلأن مآلَه أن يقال : هذه السورةُ ما أنزلنا القرآنَ المشتمِلَ عليها لتشقى ، ولا يخفى أن جعْلَها مُخبَراً عنها مع أنه لا دخلَ لإنزالها في الشقاء السابق أصلاً مما لا يليق بشأن التنزيلِ الجليل .