إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{تَنزِيلٗا مِّمَّنۡ خَلَقَ ٱلۡأَرۡضَ وَٱلسَّمَٰوَٰتِ ٱلۡعُلَى} (4)

وقوله تعالى : { تَنْزِيلاً } مصدرٌ مؤكدٌ لمضمر مستأنفٌ مقرّر لما قبله ، أي نُزّل تنزيلاً أو لما تفيده الجملةُ الاستثنائيةُ فإنها متضمِّنةٌ لأن يقال : أنزلناه للتذكرة والأولُ هو الأنسبُ بما بعده من الالتفات أو منصوبٌ على المدح والاختصاص ، وقيل : هو منصوبٌ بيخشى على المفعولية أي يخشى تنزيلاً من الله تعالى ، وأنت خبير بأن تعليقَ الخشيةِ والخوفِ ونظائرِهما بمطلق التنزيلِ غيرُ معهودٍ ، نعم قد يعلق ذلك ببعض أجزائه المشتملة على الوعيد ونظائرِه كما في قوله تعالى : { يَحْذَرُ المنافقون أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم } وقيل : هو بدلٌ من تذكرةً لكن لا على أنه مفعولٌ له لأنزلنا إذ لا يعلل الشيءُ بنفسه ولا بنوعه ، بل على أنه مصدرٌ بمعنى الفاعل واقعٌ موقعَ الحال من الكاف في عليك أو من القرآن ، ولا مساغَ له إلا بأن يكون قيداً لأنزلنا بعد تقيّده بالقيد الأول وقد عرفت حاله فيما سلف ، وقرئ تنزيلٌ على أنه خبر لمبتدأ محذوف ومِنْ في قوله تعالى : { مّمَّنْ خَلَق الأرض والسماوات العلى } متعلقةٌ بتنزيلاً أو بمضمر هو صفةٌ له مؤكدةٌ لما في تنكيره من الفخامة الذاتية بالفخامة الإضافية ، ونسبةُ التنزيلِ إلى الموصول بطريق الالتفات إلى الغَيبة بعد نسبته إلى نون العظمة لبيان فخامتِه تعالى بحسب الصفات والأفعال إثرَ بيانها بحسب الذات بطريق الإبهامِ ، ثم التفسيرِ لزيادة تحقيق وتقريرٍ ، وتخصيصُ خلقِهما بالذكر مع أن المراد خلقُهما بجميع ما يتعلق بهما كما يفصح عنه قوله تعالى : { لَّهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } الآية ، لأصالتهما واستتباعِهما لما عداهما ، وتقديمُ الأرض لكونه أقربَ إلى الحس وأظهرَ عنده ، ووصفُ السماوات بالعُلا وهو جمعُ العليا تأنيثُ الأعلى لتأكيد الفخامةِ مع ما فيه من مراعاة الفواصل ، وكل ذلك إلى قوله تعالى : { لَهُ الأسماء الحسنى } مَسوقٌ لتعظيم شأنِ المنزِّل عز وجل المستتبعِ لتعظيم شأنِ المنزَّل الداعي إلى تربية المهابةِ ، وإدخالِ الروعةِ المؤديةِ إلى استنزال المتمرّدين عن رتبة العتوِّ والطُّغيان واستمالِتهم نحو الخشية المُفْضِية إلى التذكرة والإيمان .