البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{تَنزِيلٗا مِّمَّنۡ خَلَقَ ٱلۡأَرۡضَ وَٱلسَّمَٰوَٰتِ ٱلۡعُلَى} (4)

وانتصاب { تنزيلاً } على أنه مصدر لفعل محذوف أي نزل { تنزيلاً ممن خلق } .

وقال الزمخشري : في نصب { تنزيلاً } وجوه أن يكون بدلاً من { تذكرة } إذا جعل حالاً لا إذا كان مفعولاً له ، لأن الشيء لا يعلل بنفسه ، وأن ينصب بنزل مضمراً ، وأن ينصب بأنزلنا لأن معنى { ما أنزلنا } { إلاّ تذكرة } أنزلناه تذكرة ، وأن ينصب على المدح والاختصاص ، وأن ينصب بيخشى مفعولاً به أي أنزله الله { تذكرة لمن يخشى } تنزيل الله وهو معنى حسن وإعراب بين انتهى .

والأحسن ما قدمناه أولاً من أنه منصوب بنزل مضمرة .

وما ذكره الزمخشري من نصبه على غير ذلك متكلف أما الأول ففيه جعل { تذكرة } و { تنزيلاً } حالين وهما مصدران ، وجعل المصدر حالاً لا ينقاس ، وأيضاً فمدلول { تذكرة } ليس مدلول { تنزيلاً } ولا { تنزيلاً } بعض { تذكرة } فإن كان بدلاً فيكون بدل اشتمال على مذهب من يرى أن الثاني مشتمل على الأول لأن التنزيل مشتمل على التذكرة وغيرها .

وأما قوله : لأن معنى ما أنزلناه إلاّ تذكرة أنزلناه تذكرة فليس كذلك لأن معنى الحصر يفوت في قوله أنزلناه تذكرة ، وأما نصبه على المدح فبعيد ، وأما نصبه بمن يخشى ففي غاية البعد لأن يخشى رأس آية وفاصل فلا يناسب أن يكون تنزيل مفعولاً بيخشى وقوله فيه وهو معنى حسن وإعراب بين عجمة وبعد عن إدراك الفصاحة .

وقرأ ابن أبي عبلة تنزيل رفعاً على إضمار هو ، وهذه القراءة تدل على عدم تعلق يخشى بتنزيل وأنه منقطع مما قبله فنصبه على إضمار نزل كما ذكرناه ، ومن الظاهر أنها متعلقة بتنزيل ويجوز أن يكون في موضع الصفة فيتعلق بمحذوف .

وفي قوله { ممن خلق } تفخيم وتعظيم لشأن القرآن إذ هو منسوب تنزيله إلى من هذه أفعاله وصفاته ، وتحقير لمعبوداتهم وتعريض للنفوس على الفكر والنظر وكأن في قوله { ممن خلق } التفات إذ فيها الخروج من ضمير التكلم وهو في ما أنزلناه إلى الغيبة وفيه عادة التفنن في الكلام وهو مما يحسن إذ لا يبقى على نظام واحد وجريان هذه الصفات على لفظ الغيبة والتفخيم بإسناد الإنزال إلى ضمير الواحد المعظم نفسه ، ثم إسناده إلى من اختص بصفات العظمة التي لم يشركه فيها أحد فحصل التعظيم من الوجهين .

وقال الزمخشري ويجوز أن يكون { أنزلنا } حكاية لكلام جبريل عليه السلام والملائكة النازلين معه انتهى .

وهذا تجويز بعيد بل الظاهر أنه إخبار من الله تعالى عن نفسه .

و { العلى } جمع العليا ووصف { السموات } بالعُلَى دليل على عظم قدرة من اخترعها إذ لا يمكن وجود مثلها في علوها من غيره تعالى ،