اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{تَنزِيلٗا مِّمَّنۡ خَلَقَ ٱلۡأَرۡضَ وَٱلسَّمَٰوَٰتِ ٱلۡعُلَى} (4)

قوله : { تَنْزِيلاً } في نصبه أوجه :أحدها : أن يكون بدلاً من " تَذْكِرَةً " إذا جعل حالاً لا إذا{[23044]} كان مفعولاً ، لأن الشيء لا يعلِّلُ بنفسه ، لأنه يصير التقدير : مَا أنْزَلْنَا القرآنَ إِلاَّ لِلتَّنْزِيل .

الثاني : أن ينتصب ب " نزل " مضمراً .

الثالث : أن ينتصب ب " أنْزَلْنَا " ، لأن معنى ما أنْزَلْنَا إلاَّ تذكرة : أنْزَلْنَاهُ تَذْكِرَةً .

الرابع : أن ينتصب على المدح والاختصاص .

الخامس : أن ينتصب ب " يَخْشَى " مفعولاً به ، أي أنزله للتذكرة لِمَنْ يَخْشَى تنزيلَ الله ، وهو معنى حسن وإعراب بيِّن{[23045]} . قال أبو حيان : والأحسن ما قدَّمناه أولاً من أنَّه منصوب ب " نَزَل " مضمرةً{[23046]} ، وما ذكره الزمخشري من نصبه على غيره{[23047]} فمتكلف : أما الأول ففيه جعل " تَذْكِرَةً " و " تَنْزِيلاً " {[23048]} حالين وهما مصدران ، وجعل المصدر حالاً لا ينقاس{[23049]} . وأيضاً فمدلول " تَذْكِرَةً " ليس مدلولاً " تَنْزِيلاً " ، ولا " تَنْزِيلاً " {[23050]} بعض " تّذْكِرَةً " فإن كان بدلاً فيكون بدلَ اشتمال على مذهب من يرى أن الثاني مشتمل على الأول ؛ لأن التنزيل مشتمل على التذكرة ، وغيرها{[23051]} . وأما قوله : لأن معنى ما أنزلناه إلا تذكرةً أنْزَلناهُ تَذْكِرَةً ، فليس كذلك ، لأن معنى الحصر يفوت في قوله : { أنزلناه تذكرةً } . وأما{[23052]} نصبه على المدح فبعيد .

وأمَّا نصبه على " يَخشَى " ففي غاية البُعد ، لأن " يَخْشَى " رأس آية وفاصلة فلا يناسب أن يكون " تَنْزِيلاً " منصوباً ب " يَخْشَى " ، وقوله : وهو معنى حسن وإعراب بيِّن عجمة وبُعْدٌ عن إدراك الفصاحة{[23053]} . قال شهاب الدين : ويكفيه رد الشيء الواضح من غير دليل ونسبة هذا الرجل إلى عدم الفصاحة ووجود العجمة{[23054]} .

قوله :{ مِمَّنْ خَلَقَ }{[23055]} . يجوز في ( مِنْ ) أن يتعلق ب " تَنْزِيلاً " {[23056]} ، وأن يتعلق بمحذوف على أنه صفة ل " تَنْزِيلاً " {[23057]} .

وفي " خَلَقَ " ( التفات ){[23058]} من تكلُّم في قوله : { مَا أنْزَلْنَا }{[23059]} إلى الغيبة{[23060]} وجوز الزمخشري أن يكون " مَا أنْزَلْنَا " حكاية لكلام جبريل عليه السلام{[23061]} وبعض الملائكة فلا التفات على{[23062]} هذا{[23063]} .

قوله{[23064]} : { العُلَى } جمع عُلْيَا ، نحو دُنْيَا ودُنًى ، ونظيره في الصحيح{[23065]} كُبْرَى وَكُبَر ، وفُضْلَى وفُضَل ، يقال سماء عُلْيَا وسموات عُلَى{[23066]} .

ومعنى الآية : " تَنْزِيلاً مَمَّنْ خَلَقَ " {[23067]} أي : ( مِنَ الله الذي خلق الأرضَ والسَّمَواتِ العُلَى ){[23068]} يعني العالية{[23069]} الرفيعة{[23070]} .

وفائدة وصف السَّماوات بالعُلَى : الدلالة{[23071]} على عظم قدرة من يخلق مثلها في علوها ( وبعد مرتقاها ) {[23072]} {[23073]} .


[23044]:في ب: لاذا.
[23045]:ذكر الزمخشري هذه الأوجه في الكشاف 2/427.
[23046]:فإنه قال: (وانتصب "تنزيلا" على أنه مصدر لفعل محذوف أي نزل تنزيلا ممن خلق) البحر المحيط 6/225. أي أنه مفعول مطلق مؤكد لعامله.
[23047]:في ب: خبره. وهو تحريف.
[23048]:في ب: تنزيل.
[23049]:يكثر مجيء المصدر المنكر حالا مثل طلع زيد بغتة، وجاء ركضا، وقتلته صبرا، وذلك على التأويل بالوصف، فيؤول بغتة بوصف أي مباغتا، وركضا أي راكضا، وصبرا أي: مصبورا. قال ابن مالك: ومــصدر منكر حـــالا يقع *** بكثرة كبغتة زيد طلع ومع كثرته فقال سيبويه والجمهور لا ينقاس مطلقا سواء أكان نوعا من العامل أم لا، كما لا ينقاس المصدر الواقع نعتا أو خبرا بجامع الصفة المعنوية. وقاسه المبرد فيما كان نوعا من العامل فيه لأنه حينئذ يدل على الهيئة بنفسه، فأجاز قياسا: جاء زيد سرعة، لأن السرعة نوع من المجيء. ومنع: جاء ضَحِكًا، لأن الضحك ليس نوعا من المجيء. وقاسه الناظم في التسهيل وابنه في شرح النظم بعد (أمّا) بفتح الهمزة وتشديد الميم نحو: أمّا علما فعالِِم، أي مهما يُذكر شخص في حال علم فالمذكور عالم وأيضا: بعد خبر شبِّه به مبتدؤه مثل: زيد زهير شعرا. والعامل فيها ما في زهير من معنى الفعل إذ معناه مجيد، وصاحب الحال ضمير مستتر في زهير لما تقرر من أن الجامد المؤول بالمشتق يتحمل الضمير. وأيضا: إذا كان الخبر مقرونا بـ(أل) الدالة على الكمال، مثل: أنت الرجل علما. فعلما حال والعامل فيها ما في الرجل من معنى الفعل إذ معناه الكامل. وذهب الكوفيون إلى أن المصدر منصوب بفعل محذوف أي أنه مفعول مطلق. انظر شرح التصريح 1/374 – 375، شرح الأشموني 2/172-174.
[23050]:في ب: تنزيل.
[23051]:اختلف في المشتمل في بدل الاشتمال هل هو الأول، أو الثاني، أو العامل؟ فقال الرماني هو الأول واختاره في التسهيل، وعلله الجزولي بأن الثاني إما صفة للأول كأعجبتني الجارية حسنها، أو مكتسب من صفة نحو سُلب زيد ماله فإن الأول اكتسب من الثاني كونه مالكا. ورد بأنه يلزم منه أن يجيز ضربت زيدا عبده على الاشتمال، وهم قد منعوا ذلك. وقال الفارسي في الحجة المشتمل هو الثاني، قال: بدليل سرق زيد ثوبه، ورد بسرق زيد فرسه. وقيل المشتمل هو المسند، قال ذلك المبرد والسيرافي وابن جني وابن الباذش وابن أبي العافية وابن الأبرش، بمعنى أن الفعل يستدعيهما، أحدهما على سبيل الحقيقة والقصد والآخر على سبيل المجاز والتبع، فنحو سُلب زيد ثوبه الإسناد فيه حقيقة إلى الثاني مجازا في الأول إذ المسلوب هو الثوب. وقيل بمعنى أنه اشتمل عن التابع والمتبوع معا، إذ الإعجاب في: أعجبتني الجارية حسنها مشتمل على الجارية وعلى حسنها. انظر شرح التصريح 2/157، والهمع 2/126.
[23052]:في ب: وهما. وهو تحريف.
[23053]:البحر المحيط 6/225.
[23054]:الدر المصون 5/20.
[23055]:في ب: ممن خلق الأرض والسماوات.
[23056]:انظر التبيان 2/884، والكشاف 2/427، والمحيط 6/225.
[23057]:انظر الكشاف 2/427، البحر المحيط 6/225.
[23058]:ما بين القوسين سقط من ب.
[23059]:في ب: أنا أنزلنا. وهو تحريف.
[23060]:انظر الكشاف 2/427، البحر المحيط 6/225، 226.
[23061]:عليه السلام : سقط من ب.
[23062]:في ب: إلى وهو تحريف.
[23063]:قال الزمخشري (ويجوز أن يكون "أنزلنا" حكاية لكلام جبريل والملائكة النازلين معه) الكشاف 2/427. وقد استبعد أبو حيان ما جوزه الزمخشري فإنه قال: (وهذا تجويز بعيد بل الظاهر أنه إخبار من الله تعالى عن نفسه) البحر المحيط 6/226.
[23064]:في الأصل: و.
[23065]:في ب: الفصيح. وهو تحريف.
[23066]:لأن ما كان على وزن (فُعْلَى) أنثى (أفعل) صفة يجمع على (فُعَل) كالكبرى أنثى الأكبر، والوسطى أنثى الأوسط والصغرى أنثى الأصغر، فتقول في الجمع كبر – فتقول في الجمع كبر – وُسط – صغر. انظر شرح التصريح 2/306.
[23067]:في ب: تنزيلا ممن خلق الأرض والسماوات العلى.
[23068]:ما بين القوسين سقط من ب.
[23069]:في ب: العاليات.
[23070]:انظر البغوي 5/410.
[23071]:في ب: للدلالة. وهو تحريف.
[23072]:انظر الكشاف 2/427، والفخر الرازي 22/5.
[23073]:ما بين القوسين في ب: وارتفاعها.