{ لَن تَنَالُواْ البر } مِنْ ناله نيلاً إذا أصابه ، والخطابُ للمؤمنين وهو كلامٌ مستأنفٌ سيق لبيان ما ينفعُ المؤمنين ويُقبلُ منهم إثرَ بيانِ ما لا ينفعُ الكفرةَ ولا يُقبل منهم . أي لن تبلُغوا حقيقةَ البِرِّ الذي يتنافس فيه المتنافسون ولن تُدركوا شأوَه ولن تلحَقوا بزُمْرة الأبرارِ أو لن تنالوا برَّ الله تعالى وهو ثوابُه ورحمتُه ورضاه وجنتُه { حتى تُنفِقُواْ } أي في سبيل الله عز وجل رغبةً فيما عنده ، و{ مِنْ } في قوله تعالى : { مِمَّا تُحِبُّونَ } تبعيضيّة ويؤيده قراءةُ من قرأ بعضَ ما تحبون ، وقيل : بيانيةٌ و{ مَا } موصولةٌ أو موصوفة ، أي مما تهوَوْن ويُعجبُكم من كرائمِ أموالِكم وأحبَّها إليكم كما في قوله تعالى : { أَنفِقُواْ مِن طيبات مَا كَسَبْتُمْ } [ البقرة ، الآية 267 ] أو مما يعُمّها وغيرَها من الأعمال والمُهَج ، على أن المرادَ بالإنفاق مطلقُ البذلِ وفيه من الإيذان بعزة منالِ البرِّ ما لا يخفى ، وكان السلفُ رضي الله عنهم إذا أحبوا شيئاً جعلوه لله عز وجل ، ورُوي أنها لما نزلت جاء أبو طلحةَ فقال : يا رسولَ الله إن أحبَّ أموالي إليَّ بَيْرحاءُ فضعْها يا رسولَ الله حيث أراك الله ، فقال عليه السلام : « بخٍ بخٍ ذاك مالٌ رائجٌ أو رابحٌ وإني أرى أن تجعلَها في الأقربين » ، فقسَمها في أقاربه ، وجاء زيدُ بنُ حارثةَ بفرسٍ له كان يحبُّها فقال : هذه في سبيل الله فحمل عليها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أسامةَ بنَ زيدٍ فكأن زيداً وجَدَ في نفسه وقال : إنما أردتُ أن أتصدقَ بها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أما إن الله تعالى قد قبِلها منك » . قيل : وفيه دَلالةٌ على أن إنفاقَ أحبِّ الأموالِ على أقربِ الأقاربِ أفضلُ . وكتب عمرُ رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعريِّ أن يشتريَ له جاريةً من سبْي جَلولأَ يوم فُتِحت مدائنُ كسرى فلما جاءت إليه أعجبتْه فقال : إن الله تعالى يقول : { لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ } [ آل عمران ، الآية : 92 ] فأعتقها ، وروي أن عمرَ بنَ عبد العزيز كانت لزوجته جاريةٌ بارعةُ الجمال وكان عمرُ راغباً فيها وكان قد طلبها منها مراراً فلم تُعطِها إياه ، ثم لما وليَ الخِلافةَ زيَّنَتْها وأرسلتها إليه فقالت : قد وهبتُكَها يا أميرَ المؤمنين فلتخدُمْك ، قال : من أين ملكتِها ، قالت : جئتُ بها من بيت أبي عبدِ الملك ، ففتش عن كيفية تملُّكِها إياها ، فقيل : إنه كان على فلانٍ العاملِ ديونٌ فلما تُوفيَ أُخِذت من ترِكَته ، ففتش عن حال العاملِ وأحضر ورثتَه وأرضاهم جميعاً بإعطاء المالِ ثم توجّه إلى الجارية وكان يهواها هوىً شديداً ، فقال : أنت حرةٌ لوجه الله تعالى ، فقالت : لمَ يا أميرَ المؤمنين وقد أزحْتَ عن أمرها كلَّ شُبهة ؟ قال : لستُ إذن ممن نهى النفسَ عن الهوى . { وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيء } ما شرطيةٌ جازمةٌ لتنفقوا منتصبةٌ به على المفعولية ومن تبعيضيةٌ متعلقةٌ بمحذوف هو صفةٌ لاسم الشرطِ ، أيْ أيَّ شيءٍ تنفقوا كائناً من الأشياء ، فإن المفردَ في مثل هذا الموضعِ واقعٌ موقعَ الجمعِ ، وقيل : محلُّ الجارِّ والمجرور النصبُ على التمييز أيْ أيَّ شيءٍ تنفقوا طيباً تحبُّونه أو خبيثاً تكرَهونه ، { فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ } تعليلٌ لجوابِ الشرطِ واقعٌ موقِعَه ، أي فمجازيكم يحسَبه جيداً كان أو رديئاً فإنه تعالى عليمٌ بكل شيءٍ تُنفِقونه علماً كاملاً بحيث لا يخفى عليه شيءٌ من ذاته وصفاته ، وتقديمُ الجارِّ والمجرور لرعاية الفواصلِ ، وفيه من الترغيب في إنفاق الجيدِ والتحذيرِ عن إنفاق الرديء ما لا يخفى .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.