إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{لَن تَنَالُواْ ٱلۡبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَۚ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيۡءٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ بِهِۦ عَلِيمٞ} (92)

{ لَن تَنَالُواْ البر } مِنْ ناله نيلاً إذا أصابه ، والخطابُ للمؤمنين وهو كلامٌ مستأنفٌ سيق لبيان ما ينفعُ المؤمنين ويُقبلُ منهم إثرَ بيانِ ما لا ينفعُ الكفرةَ ولا يُقبل منهم . أي لن تبلُغوا حقيقةَ البِرِّ الذي يتنافس فيه المتنافسون ولن تُدركوا شأوَه ولن تلحَقوا بزُمْرة الأبرارِ أو لن تنالوا برَّ الله تعالى وهو ثوابُه ورحمتُه ورضاه وجنتُه { حتى تُنفِقُواْ } أي في سبيل الله عز وجل رغبةً فيما عنده ، و{ مِنْ } في قوله تعالى : { مِمَّا تُحِبُّونَ } تبعيضيّة ويؤيده قراءةُ من قرأ بعضَ ما تحبون ، وقيل : بيانيةٌ و{ مَا } موصولةٌ أو موصوفة ، أي مما تهوَوْن ويُعجبُكم من كرائمِ أموالِكم وأحبَّها إليكم كما في قوله تعالى : { أَنفِقُواْ مِن طيبات مَا كَسَبْتُمْ } [ البقرة ، الآية 267 ] أو مما يعُمّها وغيرَها من الأعمال والمُهَج ، على أن المرادَ بالإنفاق مطلقُ البذلِ وفيه من الإيذان بعزة منالِ البرِّ ما لا يخفى ، وكان السلفُ رضي الله عنهم إذا أحبوا شيئاً جعلوه لله عز وجل ، ورُوي أنها لما نزلت جاء أبو طلحةَ فقال : يا رسولَ الله إن أحبَّ أموالي إليَّ بَيْرحاءُ فضعْها يا رسولَ الله حيث أراك الله ، فقال عليه السلام : « بخٍ بخٍ ذاك مالٌ رائجٌ أو رابحٌ وإني أرى أن تجعلَها في الأقربين » ، فقسَمها في أقاربه ، وجاء زيدُ بنُ حارثةَ بفرسٍ له كان يحبُّها فقال : هذه في سبيل الله فحمل عليها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أسامةَ بنَ زيدٍ فكأن زيداً وجَدَ في نفسه وقال : إنما أردتُ أن أتصدقَ بها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أما إن الله تعالى قد قبِلها منك » . قيل : وفيه دَلالةٌ على أن إنفاقَ أحبِّ الأموالِ على أقربِ الأقاربِ أفضلُ . وكتب عمرُ رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعريِّ أن يشتريَ له جاريةً من سبْي جَلولأَ يوم فُتِحت مدائنُ كسرى فلما جاءت إليه أعجبتْه فقال : إن الله تعالى يقول : { لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ } [ آل عمران ، الآية : 92 ] فأعتقها ، وروي أن عمرَ بنَ عبد العزيز كانت لزوجته جاريةٌ بارعةُ الجمال وكان عمرُ راغباً فيها وكان قد طلبها منها مراراً فلم تُعطِها إياه ، ثم لما وليَ الخِلافةَ زيَّنَتْها وأرسلتها إليه فقالت : قد وهبتُكَها يا أميرَ المؤمنين فلتخدُمْك ، قال : من أين ملكتِها ، قالت : جئتُ بها من بيت أبي عبدِ الملك ، ففتش عن كيفية تملُّكِها إياها ، فقيل : إنه كان على فلانٍ العاملِ ديونٌ فلما تُوفيَ أُخِذت من ترِكَته ، ففتش عن حال العاملِ وأحضر ورثتَه وأرضاهم جميعاً بإعطاء المالِ ثم توجّه إلى الجارية وكان يهواها هوىً شديداً ، فقال : أنت حرةٌ لوجه الله تعالى ، فقالت : لمَ يا أميرَ المؤمنين وقد أزحْتَ عن أمرها كلَّ شُبهة ؟ قال : لستُ إذن ممن نهى النفسَ عن الهوى . { وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيء } ما شرطيةٌ جازمةٌ لتنفقوا منتصبةٌ به على المفعولية ومن تبعيضيةٌ متعلقةٌ بمحذوف هو صفةٌ لاسم الشرطِ ، أيْ أيَّ شيءٍ تنفقوا كائناً من الأشياء ، فإن المفردَ في مثل هذا الموضعِ واقعٌ موقعَ الجمعِ ، وقيل : محلُّ الجارِّ والمجرور النصبُ على التمييز أيْ أيَّ شيءٍ تنفقوا طيباً تحبُّونه أو خبيثاً تكرَهونه ، { فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ } تعليلٌ لجوابِ الشرطِ واقعٌ موقِعَه ، أي فمجازيكم يحسَبه جيداً كان أو رديئاً فإنه تعالى عليمٌ بكل شيءٍ تُنفِقونه علماً كاملاً بحيث لا يخفى عليه شيءٌ من ذاته وصفاته ، وتقديمُ الجارِّ والمجرور لرعاية الفواصلِ ، وفيه من الترغيب في إنفاق الجيدِ والتحذيرِ عن إنفاق الرديء ما لا يخفى .