القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصّادِقِينَ وَالصّادِقَاتِ وَالصّابِرِينَ وَالصّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدّقِينَ وَالْمُتَصَدّقَاتِ والصّائِمِينَ والصّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذّاكِرِينَ اللّهَ كَثِيراً وَالذّاكِرَاتِ أَعَدّ اللّهُ لَهُم مّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً } . يقول تعالى ذكره : إن المتذلّلين لله بالطاعة والمتذلّلات ، والمصدّقين والمصدّقات رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أتاهم به من عند الله ، والقانتين والقانتات لله ، والمطيعين لله والمطيعات له فيما أمرهم ونهاهم ، والصادقين لله فيما عاهدوه عليه والصادقات فيه ، والصابرين لله في البأساء والضرّاء على الثبات على دينه ، وحين البأس والصابرات ، والخاشعة قلوبهم لله وجَلاً منه ومن عقابه والخاشعات ، والمتصدّقين والمتصدقات ، وهم المؤدّون حقوق الله من أموالهم والمؤدّيات ، والصائمين شهر رمضان الذي فرض الله صومه عليهم والصائمات ، الحافظين فروجهم إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم ، والحافظات ذلك إلا على أزواجهنّ إن كنّ حرائر ، أو مَنْ ملكهنّ إن كنّ إماء ، والذاكرين الله بقلوبهم وألسنتهم وجوارحهم والذاكرات ، كذلك أعدّ الله لهم مغفرة لذنوبهم ، وأجرا عظيما : يعني ثوابا في الاَخرة على ذلك من أعمالهم عظيما ، وذلك الجنة .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : دخل نساء على نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقلن : قد ذكركنّ الله في القرآن ، ولم نُذكر بشيء ، أما فينا ما يُذْكَر ؟
وقوله تعالى : { إن المسلمين والمسلمات } الآية روي عن أم سلمة أنها قالت : إن سبب هذه الآية أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله يذكر الله تعالى الرجال في كتابه في كل شيء ولا يذكرنا ، فنزلت الآية في ذلك{[9512]} .
وروى قتادة أن نساء من الأنصار دخلن على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فقلن لهن : ذكركن الله في القرآن ولم يذكر سائر النساء بشيء فنزلت الآية في ذلك{[9513]} ، وروي عن ابن عباس أن نساء النبي قلن ما له تعالى يذكر المؤمنين ولا يذكر المؤمنات ، فنزلت الآية في ذلك{[9514]} .
وبدأ تعالى بذكر الإسلام الذي يعم الإيمان وعمل الجوارح ، ثم ذكر الإيمان تخصيصاً وتنبيهاً على أنه عظم الإسلام ودعامته ، و «القانت » : العابد المطيع ، و «الصادق » معناه : فيما عوهد عليه أن يفي به ويكمله ، و «الصابر » : عن الشهوات وعلى الطاعات في المكره والمنشط ، و «الخاشع » : الخائف لله المستكين لربوبيته الوقور ، و «المتصدق » : بالفرض والنفل ، وقيل هي في الفرض خاصة ، والأول أمدح ، و «الصائم » كذلك : في الفرض والنفل ، و «حفظ الفرج » هو : من الزنا وشبهه وتدخل مع ذلك الصيانة من جميع ما يؤدي إلى الزنا أو هو في طريقه ، وفي قوله : { الحافظات } حذف ضمير يدل عليه المتقدم والحافظاُتها ، وفي { الذاكرات } أيضاً مثله ، و «المغفرة » هي ستر الله ذنوبهم والصفح عنها ، و «الأجر العظيم » الجنة .
يجوز أن تكون هذه الجملة استئنافاً بيانياً لأن قوله : { ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحاً نؤتها أجرها مرتين } [ الأحزاب : 31 ] بعدَ قوله : { لستن كأحد من النساء } [ الأحزاب : 32 ] يثير في نفوس المسلمات أن يسألَنْ : أَهُنَّ مأجورات على ما يعملن من الحسنات ، وأهنّ مأمورات بمثل ما أمرت به أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أم تلك خصائص لنساء النبي عليه الصلاة والسلام ، فكان في هذه الآية ما هو جواب لهذا السؤال على عادة القرآن فيما إذا ذكر مأمورات يُعقبها بالتذكير بحال أمثالها أو بحال أضدادها .
ويجوز أن تكون استئنافاً ابتدائياً ورد بمناسبة ما ذكر من فضائل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم .
روى ابن جرير والواحدي عن قتادة : أن نساءً دخلْنَ على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فقلن : قد ذَكَرَكُنّ الله في القرآن ولم يذكرنا بشيء ، ولو كان فينا خير لذكرنا فأنزل الله هذه الآية .
وروى النسائي وأحمد : أن أم سلمة قالت للنبيء صلى الله عليه وسلم ما لنا لا نذكر في القرآن كما يذكر الرجال فأنزل الله تعالى هذه الآية .
وروى الترمذي والطبراني : « أن أم عُمارة الأنصارية أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : ما أرى النساء يُذْكَرن بشيء » فنزلت هذه الآية .
وقال الواحدي : « قال مقاتل : بلغني أن أسماء بنت عُميس لما رجعت من الحبشة مع زوجها جعفر بن أبي طالب دخلت على نساء النبي فقالت : هل نزل فينا شيء من القرآن ؟ قيل : لا ، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إن النساء لفي خيبة وخسار . قال : ومم ذلِك ؟ قالت : لأنهن لا يذكرن بالخير كما يذكر الرجال فأنزل الله هذه الآية » .
فالمقصود من أصحاب هذه الأوصاف المذكورة النساءُ ، وأما ذِكْر الرجال فللإِشارة إلى أن الصنفين في هذه الشرائع سواء ليعلموا أن الشريعة لا تختص بالرجال لا كما كان معظم شريعة التوراة خاصاً بالرجال إلا الأحكام التي لا تتصور في غير النساء ، فشريعة الإِسلام بعكس ذلك الأصل في شرائعها أن تعم الرجال والنساء إلا ما نُصّ على تخصيصه بأحد الصنفين ، ولعل بهذه الآية وأمثالها تقرر أصل التسوية فأَغنى عن التنبيه عليه في معظم أقوال القرآن والسنة ، ولعل هذا هو وجه تعداد الصفات المذكورة في هذه الآية لئلا يتوهم التسوية في خصوص صفة واحدة .
وسُلك مسلك الإِطناب في تعداد الأوصاف لأن المقام لزيادة البيان لاختلاف أفهام الناس في ذلك ، على أن في هذا التعداد إيماء إلى أصول التشريع كما سنبينه في آخر تفسير هذه الآية .
وبهذه الآثار يظهر اتصال هذه الآيات بالتي قبلها . وبه يظهر وجه تأكيد هذا الخبر بحرف { إنَّ } لدفع شك من شك في هذا الحكم من النساء .
والمراد ب { المسلمين والمسلمات } من اتصف بهذا المعنى المعروف شرعاً . والإِسلام بالمعنى الشرعي هو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقامُ الصلاة وإيتاء الزكاة وصومُ رمضان وحج البيت ، ولا يعتبر إسلاماً إلا مع الإيمان . وذكرُ { المؤمنين والمؤمنات بعده للتنبيه على أن الإِيمان هو الأصل ، وقد تقدم الكلام عليه عند قوله تعالى : { فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون } في البقرة ( 132 ) .
والمراد { بالمؤمنين والمؤمنات } الذين آمنوا . والإِيمان : أن يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ويؤمن بالقَدر خيرِه وشره . وتقدم الكلام على الإِيمان في أوائل سورة البقرة .
و { والقانتين والقانتات } : أصحاب القنوت وهو الطاعة لله وعبادته ، وتقدم آنفا { ومن يقنت منكن لله ورسوله } [ الأحزاب : 31 ] و { الصادقين والصادقات } من حصَل منهم صدق القول وهو ضد الكذب ، والصدق كله حسن ، والكذب لا خير فيه إلا لضرورة . وشمل ذلك الوفاءَ بما يُلتزم به من أمور الديانة كالوفاء بالعهد والوفاء بالنذر ، وتقدم عند قوله تعالى : { أولئك الذين صدقوا } في سورة البقرة ( 177 ) .
{ وبالصابرين والصابرات } : أهل الصبر والصبر محمود في ذاته لدلالته على قوة العزيمة ، ولكن المقصود هنا هو تحمل المشاق في أمور الدين ، وتحمُّل المكاره في الذبّ عن الحوزة الإسلامية ، وتقدم مستوفى عند قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا } آخر سورة آل عمران ( 200 ) .
و { بالخاشعين والخاشعات } : أهلُ الخشوع ، وهو الخضوع للَّه والخوفُ منه ، وهو يرجع إلى معنى الإِخلاص بالقلب فيما يعمله المكلف ، ومطابقة ذلك لما يَظهر من آثاره على صاحبه . والمراد : الخشوع للَّه بالقلب والجوارح ، وتقدم في قوله تعالى : { وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين } في سورة البقرة ( 45 ) .
و { بالمتصدقين والمتصدقات } : من يبذل الصدقة من ماله للفقراء ، وتقدم في قوله تعالى : { إلا من أمر بصدقة } في سورة النساء ( 114 ) . وفائدة ذلك للأمة عظيمة .
وأما ( الصائمون والصائمات ) فظاهرٌ ما في الصيام من تخلق برياضة النفس لطاعة الله ، إذ يترك المرء ما هو جبلي من الشهوة تقرباً إلى الله ، أي برهاناً على أن رضى الله عنه ألذُّ عنده من أشد اللذات ملازمة له .
وأما حفظ الفروج فلأن شهوة الفرج شهوة جبلية ، وهي في الرجل أشد ، وقد أثنى الله على الأنبياء بذلك فقال في يحيى { وحَصوراً } [ آل عمران : 39 ] وقال في مريم { والتي أحصنت فرجها } [ الأنبياء : 91 ] ، وهذا الحفظ له حدود سنتها الشريعة ، فالمراد : حفظ الفروج عن أن تستعمل فيما نهي عنه شرعاً ، وليس المراد : حفظها عن الاستعمال أصلاً وهو الرهبنة ، فإن الرهبنة مدحوضة في الإسلام بأدلة متواترة المعنى .
وأما ( الذاكرون والذاكرات ) فهو وصف صالح لأن يَكون من الذِّكر بكسر الذال وهو ذكر اللسان كالذي في قوله : { فاذكروني أذكُرْكُم } [ البقرة : 152 ] وقوله في الحديث : « ومن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي » ومن الذُّكر بضمها كما تقدم آنفاً في قوله : { واذكرن ما يتلى في بيوتكن } [ الأحزاب : 34 ] ، والذي في قوله : { ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم } [ آل عمران : 135 ] .
ومفعول و { الحافظات } محذوف دل عليه ما قبله من قوله : { والحافظين فروجهم } ، وكذلك مفعول و { الذاكرات } .
وقد اشتملت هذه الخصال العشر على جوامع فصول الشريعة كلها .
فالإِسلام : يجمع قواعد الدين الخمس المفروضةَ التي هي أعمال ، والإِيمان يجمع الاعتقادات القلبية المفروضة وهو شرط أعمال الإِسلام كلها ، قال تعالى : { ثم كان من الذين آمنوا } [ البلد : 17 ] .
والقنوت : يجمع الطاعات كلّها مفروضَها ومسنُونها ، وتركَ المنهيات والإقلاع عنها ممن هو مرتكبها ، وهو معنى التوبة ، فالقنوت هو تمام الطاعة ، فهو مساوٍ للتقوى . فهذه جوامع شرائع المكلفين في أنفسهم .
والصدق : يجمع كلّ عمل هو من موافقة القول والفعل للواقع في القضاء والشهادة والعقود والالتزامات وفي المعاملات بالوفاء بها وترك الخيانة ، ومطابقة الظاهر للباطن في المراتب كلّها . ومن الصدق صدق الأفعال .
والصبر : جامع لما يختص بتحمل المشاقّ من الأعمال كالجهاد والحسبة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومناصحة المسلمين وتحمل الأذى في الله ، وهو خلق عظيم هو مفتاح أبواب محامد الأخلاق والآداب والإِنصاف من النفس .
والخشوع : الإخلاص بالقلب والظاهر ، وهو الانقياد وتجنب المعاصي ، ويدخل فيه الإِحسان وهو المفسر في حديث جبريل « أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك » . ويدخل تحت ذلك جميع القُرَب النوافل فإنها من آثار الخشوع ، ويدخل فيه التوبة مما اقترفه المرء من الكبائر إذ لا يتحقق الخشوع بدونها .
والتصدق : يحتوي جميع أنواع الصدقات والعطيات وبذل المعروف والإِرفاق .
والصوم : عبادة عظيمة ، فلذلك خُصصت بالذكر مع أن الفرض منه مشمول للإِسلام في قوله : { إن المسلمين والمسلمات } ويفي صوم النافلة ، فالتصريح بذكر الصوم تنويه به . وفي الحديث " قال الله تعالى : الصوم لي وأنا أجزي به " . وحفظ الفروج : أريد به حفظها عما ورد الشرع بحفظها عنه ، وقد اندرج في هذا جميع أحكام النكاح وما يتفرع عنها وما هو وسيلة لها .
وذكرُ اللَّه كما علمت له محملان :
أحدهما : ذكرهُ اللساني فيدخل فيه قراءة القرآن وطلب العلم ودراسته .
قال النبي صلى الله عليه وسلم " ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة وغشيَتهم الرحمة وذكرهم الله فيمن عنده " ففي قوله : « وذكرهم اللَّه » إيماء إلى أن الجزاء من جنس عملهم فدل على أنهم كانوا في شيء من ذِكر الله وقد قال تعالى : { فاذكروني أذكرْكُم } [ البقرة : 152 ] وقال فيما أخبر عنه رسولُه صلى الله عليه وسلم " وإن ذكرني في مَلأَ ذكرته في ملأ خير منهم " . وشمل ما يذكر عقب الصلوات ونحو ذلك من الأذكار .
والمحمل الثاني : الذكر القلبي وهو ذكر الله عند أمره ونهيه كما قال عمر بن الخطاب : أفضل من ذكر الله باللسان ذكر الله عند أمره ونهيه ، وهو الذي في قوله تعالى : { والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم } [ آل عمران : 135 ] فدخل فيه التوبة ودخل فيها الارتداع عن المظالم كلها من القتل وأخذ أموال الناس والحِرابة والإِضرار بالناس في المعاملات . ومما يوضح شموله لهذه الشرائع كلها تقييده ب { كثيراً } لأن المرء إذا ذَكَر الله كثيراً فقد استغرق ذكره على المحملين جميعَ ما يُذكر الله عنده .
ويراعى في الاتصاف بهذه الصفات أن تكون جارية على ما حدده الشرع في تفاصيلها .
والمغفرة : عدم المؤاخذة بما فَرَط من الذنوب ، وقد تقدمت في قوله تعالى : { وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين } في سورة الأعراف ( 23 ) . واعلم أن عطف الصفات بالواو المفيد مجرد التشريك في الحكم دون حرفي الترتيب : الفاءِ وثم ، شأنه أن يكون الحكم المذكور معه ثابتاً لكل واحد اتصف بوصف من الأوصاف المشتق منها موصوفُه لأن أصل العطف بالواو أن يدل على مغايرة المعطوفات في الذات ، فإذا قلت : وجدت فيهم الكريم والشجاع والشاعر كان المعنى : أنك وجدتَ فيهم ثلاثة أُناس كل واحد منهم موصوف بصفة من المذكورات . وفي الحديث : فإن منهم المريض والضعيف وذا الحاجة أي أصحاب المرض والضعف والحاجة ، بخلاف العطف بالفاء كقوله تعالى : { والصافات صفاً فالزاجرات زجراً فالتاليات ذكراً } [ الصافات : 1 3 ] فإن الأوصاف المذكورة في تلك الآية ثابتة لموصوف واحد . ولهذا فحقّ جملة { أعد الله لهم مغفرة وأجراً عظيماً } أن تكون خبراً في المعنى عن كل واحد من المتعاطفات فكأنه قيل : إن المسلمين أعدّ الله لهم مغفرة وأجراً عظيماً ، إن المسلمات أعدّ الله لهن مغفرة وأجراً عظيماً ، وهكذا . والفعل الواقع في جملة الخبر وهو فعل { أعد } قد تعدى إلى مفعول ومعطوف على المفعول فصحة الإِخبار به عن كل واحد من الموصوفات المتعاطفات باعتبار المعطوف على مفعوله واضحة لأن الأجر العظيم يصلح لأن يُعطى لكل واحد ويقبل التفاوت فيكون لكل من أصحاب تلك الأوصاف أجره على اتصافه به ويكون أجر بعضهم أوفر من أجر بعض آخر .
وأما صحة الإِخبار بفعل { أعد } عن كل واحد من المتعاطفات باعتبار المفعول وهو { مغفرة } فيمنع منه ما جاء من دلائل الكتاب والسنة الدالة على أن الذنوب الكبيرة التي فرطت لا يضمن غفرانها للمذنبين إلا بشرط التوبة من المُذنِب وعداً من الله بقوله : { كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءاً بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم } [ الأنعام : 54 ] . وألحَقَت السنة بموجبات المغفرة الحجّ المبرور والجهاد في سبيل الله وأشياء أخرى .
والوجه في تفسير ذلك عندي : أن تُحمل كل صفة من هذه الصفات على عدم ما يعارضها مما يوجب التبعة ، أي سلامته من التلبس بالكبائر حملاً أُراعي فيه الجري على سَنَن القرآن في مثل مقام الثناء والتنويه بالمسلمين من اعتبار حال كمال الإِسلام كقوله : { أولئك هم المؤمنون حقاً } [ الأنفال : 4 ] فإنا لا نجد التفصيل بين أحوال المسلمين إلا في مقام التحذير من الذنوب .
والمرجع في هذا المحمل إلى بيان الإِجمال بالجمع بين أدلة الشريعة . وقد سكت جمهور المفسرين عن التصدّي لبيان مفاد هذا الوعد ولم يعرّج عليه فيما رأيت سوى صاحب « الكشاف » فجعل معنى قوله : { أعد الله لهم مغفرة وأجراً عظيماً } : أن الجامعين والجامعات لهذه الطاعات أعدّ الله لهم مغفرة وأجراً عظيماً ، وجعل واو العطف بمعنى المعية ، وجعل العطف على اعتبار المغايرة بين المتعاطفات في الأوصاف لا المغايرة بالذوات ، وهذا تكلّف وصنع باليد ، وتبعه البيضاوي وكثير . ويعكّر عليه أن جمع تلك الصفات لا يوجب المغفرة لأن الكبائر لا تسقطها عن صاحبها إلا التوبة ، إلا أن يضم إلى كلامه ضميمة وهي حمل { والذاكرين الله والذاكرات } على معنى المتصفين بالذكر اللساني والقلبي ، فيكون الذكر القلبي شاملاً للتوبة كما في قوله تعالى : { والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا اللَّه فاستغفروا لذنوبهم } [ آل عمران : 135 ] فيكون الذين جمعوا هذه الخصال العشر قد حصلت لهم التوبة ، غير أن هذا الاعتذار عن الزمخشري لا يتجاوز هذه الآية ، فإن في القرآن آيات كثيرة مثلها يضيق عنها نطاق هذا الاعتذار ، منها قوله تعالى : { وعباد الرحمان الذين يمشون على الأرض هوناً } إلى قوله : { أولئك يجزون الغرفة بما صبروا } الآية في سورة الفرقان ( 63 ، 75 ) .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: إن المتذلّلين لله بالطاعة والمتذلّلات، والمصدّقين والمصدّقات رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أتاهم به من عند الله، والقانتين والقانتات لله، والمطيعين لله والمطيعات له فيما أمرهم ونهاهم، والصادقين لله فيما عاهدوه عليه والصادقات فيه، والصابرين لله في البأساء والضرّاء على الثبات على دينه، وحين البأس والصابرات، والخاشعة قلوبهم لله وجَلاً منه ومن عقابه والخاشعات، والمتصدّقين والمتصدقات، وهم المؤدّون حقوق الله من أموالهم والمؤدّيات، والصائمين شهر رمضان الذي فرض الله صومه عليهم والصائمات، الحافظين فروجهم إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم، والحافظات ذلك إلا على أزواجهنّ إن كنّ حرائر، أو مَنْ ملكهنّ إن كنّ إماء، والذاكرين الله بقلوبهم وألسنتهم وجوارحهم والذاكرات، كذلك أعدّ الله لهم مغفرة لذنوبهم، "وأجرا عظيما": يعني ثوابا في الآخرة على ذلك من أعمالهم عظيما، وذلك الجنة...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات} يدل أن الإسلام والإيمان هما في الحقيقة واحد؛ أعني في حقيقة المعنى واحد، وإن كانا مختلفين بجهة لأن الإسلام، هو أن يجعل كل شيء لله سالما خالصا، لا يجعل لغيره فيه شركا ولا حقا، والإيمان هو التصديق لله بشهادة كل شيء له بالوحدانية والربوبية والألوهية، فمن جعل الأشياء لله خالصة سالمة، والذي صدق الله بشهادة كلية الأشياء له بالوحدانية والربوبية والألوهية واحد؛ لأن المخلص، هو الذي يرى كل شيء لله خالصا، والموحد، هو الذي يرى الوحدانية له والربوبية في كل شيء، فهما في حقيقة المعنى واحد.
{والقانتين والقانتات} القنوت، هو القيام في اللغة، روي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن أفضل الصلاة، فقال (طول القنوت) وفي بعضه: (طول القيام) [مسلم 756] فثبت أن القنوت، هو القيام، فيكون تأويله، القائمين والقائمات بجميع أوامر الله ومناهيه.
{والصادقين والصادقات} إلى آخره يكون في المعاملة في تصديق ما اعتقدوا وقبلوا.
وقوله تعالى: {والصابرين والصابرات} الصبر، هو كف النفس وحبسها عن التعاطي في جميع المحرمات المحظورات. وعلى ذلك يخرج قول أهل التأويل: {والصابرين والصابرات} على أمر الله وطاعته وعلى المآذي والمصائب؛ يكفون أنفسهم عن جميع ما لا يحل فيه، ويرون ذلك من تقديره.
{والخاشعين والخاشعات}: الخاشع المصلي، وقال بعضهم: الخاشع المتواضع؛ وأصل الخشوع: هو الخوف اللازم في القلب، وهو قول الحسن: يخافون الله في كل حال، ولا يخافون غيره، ويرجون الله، ولا يرجون غيره، هكذا عمل المؤمن تكون حقيقة خوفه ورجائه منه، وأما الكافر فإنه لا يخاف ربه ولا يرجوه لأنه لا يعرفه... {والمتصدقين والمتصدقات} أي المنفقين والمنفقات في طاعة الله.
{والذاكرين الله كثيرا والذاكرات} قال بعضهم: أي المصلون لله الصلوات الخمس، وقال بعضهم: باللسان على كل حال، لكن غيره، كأنه أولى بذلك؛ أي الذاكرين حق الله الذي عليهم...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
قال مجاهد: لا يكون العبد من الذاكرين الله كثيراً، حتى يذكر الله تعالى قائماً وقاعداً ومضطجعاً.
قال عطاء بن أبي رباح: مَن فوّض أمره إلى الله فهو داخل في قوله: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} ومن أقرّ بأنّ الله ربّه، وأنَّ محمّداً رسوله، ولم يخالف قلبه لسانه، فهو داخل في قوله: {وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} ومن أطاع الله في الفرض والرسول في السنّة فهو داخل في قوله: {وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ} ومن صان قوله عن الكذب فهو داخل في قوله: {وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ} ومن صلّى فلم يعرف مَن عن يمينه ويساره فهو داخل في قوله: {وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ} ومن صبر على الطاعة وعن المعصية وعلى الرزيّة فهو داخل في قوله: {وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ} ومن تصدّق في كلّ اسبوع بدرهم فهو داخل في قوله: {وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ} ومن صام في كلّ شهر أيّام البيض، الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر فهو داخل في قوله: {والصَّائِمِينَ والصَّائِمَاتِ} ومن حفظ فرجه عمّا لا يحلّ فهو داخل في قوله: {وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ} ومن صلّى الصلوات الخمس بحقوقها فهو داخل في قوله: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً}...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
... بدأ تعالى بذكر الإسلام الذي يعم الإيمان وعمل الجوارح، ثم ذكر الإيمان تخصيصاً وتنبيهاً على أنه عظم الإسلام ودعامته، و «القانت»: العابد المطيع، و «الصادق» معناه: فيما عوهد عليه أن يفي به ويكمله، و «الصابر»: عن الشهوات وعلى الطاعات في المكره والمنشط، و «الخاشع»: الخائف لله المستكين لربوبيته الوقور، و «المتصدق»: بالفرض والنفل، وقيل هي في الفرض خاصة، والأول أمدح، و «الصائم» كذلك: في الفرض والنفل، و «حفظ الفرج» هو: من الزنا وشبهه وتدخل مع ذلك الصيانة من جميع ما يؤدي إلى الزنا أو هو في طريقه، وفي قوله: {الحافظات} حذف ضمير يدل عليه المتقدم والحافظاُتها، وفي {الذاكرات} أيضاً مثله، و «المغفرة» هي ستر الله ذنوبهم والصفح عنها، و «الأجر العظيم» الجنة.
قال تعالى: {إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات} لما أمرهن ونهاهن وبين ما يكون لهن وذكر لهن عشر مراتب الأولى: الإسلام والانقياد لأمر الله والثانية: الإيمان بما يرد به أمر الله، فإن المكلف أولا يقول كل ما يقوله أقبله فهذا إسلام، فإذا قال الله شيئا وقبله صدق مقالته وصحح اعتقاده فهو إيمان، ثم اعتقاده يدعوه إلى الفعل الحسن والعمل الصالح، فيقنت ويعبد وهو المرتبة الثالثة: المذكورة بقوله: {والقانتين والقانتات}.
ثم إذا آمن وعمل صالحا كمل، فيكمل غيره ويأمر بالمعروف وينصح أخاه فيصدق في كلامه عند النصيحة وهو المراد بقوله: {والصادقين والصادقات}.
ثم إن من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر يصيبه أذى فيصبر عليه كما قال تعالى: {والصابرين والصابرات}.
ثم إنه إذا كمل وكمل، قد يفتخر بنفسه ويعجب بعبادته فمنعه منه بقوله: {والخاشعين والخاشعات}، أو نقول لما ذكر هذه الحسنات أشار إلى ما يمنع منها وهو إما حب الجاه أو حب المال من الأمور الخارجية أو الشهوة من الأمور الداخلة، والغضب منهما يكون لأنه يكون بسبب نقص جاه أو فوت مال أو منع من أمر مشتهى، فقوله: {والخاشعين والخاشعات} أي المتواضعين الذين لا يميلهم الجاه عن العبادة.
{والمتصدقين والمتصدقات} أي الباذلين الأموال الذين لا يكنزونها لشدة محبتهم إياها.
{والصائمين والصائمات} إشارة إلى الذين لا تمنعهم الشهوة البطنية من عبادة الله.
{والحافظين فروجهم والحافظات} أي الذين لا تمنعهم الشهوة الفرجية.
{والذاكرين الله كثيرا والذاكرات} يعني هم في جميع هذه الأحوال يذكرون الله ويكون إسلامهم وإيمانهم وقنوتهم وصدقهم وصبرهم وخشوعهم وصدقتهم وصومهم بنية صادقة لله.
واعلم أن الله تعالى في أكثر المواضع حيث ذكر الذكر قرنه بالكثرة، ههنا وفي قوله بعد هذا {يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا} وقال من قبل: {لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا} لأن الإكثار من الأفعال البدنية غير ممكن أو عسر، فإن الإنسان أكله وشربه وتحصيل مأكوله ومشروبه يمنعه من أن يشتغل دائما بالصلاة، ولكن لا مانع له من أن يذكر الله تعالى وهو آكل ويذكره وهو شارب أو ماش أو بائع أو شار، وإلى هذا أشار بقوله تعالى: {الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم} ولأن جميع الأعمال صحتها بذكر الله تعالى وهي النية...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
ولم يذكر لهذه الأوصاف متعلقاً إلا في قوله: {والحافظين فروجهم والذاكرين الله كثيراً}، نص على متعلق الحفظ لكونه منزلة العقلاء ومركب الشهوة الغالبة، وعلى متعلق الذكر بالاسم الأعظم، وهو لفظ الله، إذ هو العلم المحتوي على جميع أوصافه، ليتذكر المسلم من تذكره، وهو الله تعالى...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} دليل على أن الإيمان غير الإسلام، وهو أخص منه، لقوله تعالى: {قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14]. وفي الصحيحين:"لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن". فيسلبه الإيمان، ولا يلزم من ذلك كفره بإجماع المسلمين، فدل على أنه أخص منه كما قررناه في أول شرح البخاري.
{وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ} القنوت: هو الطاعة في سكون، فالإسلام بعده مرتبة يرتقي إليها، ثم القنوت ناشئ عنهما...
{وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ}: هذه سَجِيّة الأثبات، وهي الصبر على المصائب، والعلم بأن المقدور كائن لا محالة، وَتَلَقّي ذلك بالصبر والثبات، وإنما الصبر عند الصدمة الأولى، أي: أصعبه في أول وهلة، ثم ما بعده أسهل منه، وهو صدق السجية وثباتها.
{وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ} الخشوع: السكون والطمأنينة، والتؤدة والوقار والتواضع، والحامل عليه الخوف من الله ومراقبته.
ولما كان الصوم من أكبر العون على كسر الشهوة -كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الشباب، مَنْ استطاع منكم الباء فليتزوج، فإنه أغَضُّ للبصر، وأحْصَن للفرج، ومَنْ لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وِجَاء "- ناسب أن يذكر بعده: {وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ} أي: عن المحارم والمآثم إلا عن المباح.
الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي 875 هـ :
{والذاكرين الله كَثِيراً والذاكرات} وفي الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم قال: (سَبَقَ المُفَرِّدُون قالُوا: وَمَا المُفَرِّدُونَ، يَا رَسُولَ اللّهِ؟ قَالَ: الذَّاكِرُونَ اللّهَ كَثِيراً والذَّاكِرَاتُ) رواه مسلم... قال عياض: «والمُفَرِّدون» ضَبَطْنَاهُ على مُتْقِني شيوخِنا بفتح الفَاء وكَسرِ الراء، وقال ابن الأعرابي: فَرَّدَ الرجلُ إذا تَفَقَّهَ وَاعْتَزَلَ النَّاسَ، وخلا لمُرَاعاة الأمر والنهي، وقال الأزهريُّ: هم المُتَخَلُّونَ مِنَ النَّاسِ بذكْرِ اللّه تعالى...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان الإسلام مع كونه أكمل الأوصاف وأعلاها يمكن أن يكون بالظاهر فقط، أتبعه المحقق له وهو إسلام الباطن بالتصديق التام بغاية الإذعان، فقال عاطفاً له ولما بعده من الأوصاف التي يمكن اجتماعها بالواو للدلالة على تمكين الجامعين لهذه الأوصاف من كل وصف منها: {والمؤمنين والمؤمنات}.
ولما كان المؤمن المسلم قد لا يكون في أعماله مخلصاً قال: {والقانتين} أي المخلصين في إيمانهم وإسلامهم {والقانتات} ولما كان القنوت كما يطلق على الإخلاص المقتضي للمداولة قد يطلق على مطلق الطاعة قال: {والصادقين} في ذلك كله {والصادقات} أي في إخلاصهم في الطاعة، وذلك يقتضي الدوام.
ولما كان الصدق -وهو إخلاص القول والعمل عن شوب يلحقه أو شيء يدنسه- قد لا يكون دائماً، قال مسيراً إلى أن ما لا يكون دائماً لا يكون صدقاً في الواقع: {والصابرين والصابرات}.
ولما كان الصبر قد يكون سجية، دل على صرفه إلى الله بقوله: {والخاشعين والخاشعات}.
ولما كان الخشوع -وهو الخضوع والإخبات والسكون- لا يصح مع توفير المال فإنه سيكون إليه، قال معلماً أنه إذ ذاك لا يكون على حقيقته: {والمتصدقين} أي المنفقين أموالهم في رضى الله بغاية الجهد من نفوسهم بما أشار إليه إظهار التاء فرضاً وتطوعاً سراً وعلانية بما أرشد إليه الإظهار أيضاً تصديقاً لخشوعهم {والمتصدقات}.
ولما كان بذل المال قد لا يكون مع الإيثار، أتبعه ما يعين عليه فقال: {والصائمين} أي تطوعاً للإيثار بالقوت وغير ذلك {والصائمات}.
ولما كان حفظ الفروج وسائر الأعمال لا تكاد توجد إلا بالذكر. وهو الذي فيه المراقبة الموصلة إلى المحاضرة المحققة للمشاهدة المحيية بالفناء قال: {والذاكرين الله} أي مع استحضار ما له من الكمال بصفات الجلال والجمال {كثيراً} بالقلب واللسان في كل حالة {والذاكرات}.
ولما كان المطيع وإن جاوز الحد في الاجتهاد مقتصراً عن بلوغ ما يحق له، أشار إلى ذلك سبحانه بقوله مكرراً الاسم الأعظم إشارة إلى ذلك، وإلى صغر الذنوب إذا نسبت إلى عفوه: {أعد الله} أي الذي لا يقدر أحد أن يقدره حق قدره مع أنه لا يتعاظمه شيء.
{لهم مغفرة} أي لهفواتهم وما أتوه من سيئاتهم بحيث يمحو عينه وأثره فلا عتاب ولا عقاب، ولا ذكر له سبب من الأسباب.
ولما ذكر الفضل بالتجاوز، أتبعه التفضل بالكرم والرحمة فقال: {وأجراً عظيماً}.
وإعداد الأجر يدل على أن المراد بهذه الأوصاف اجتماعها لأن مظهر الإسلام نفاقاً كافر، وتارك شيء من الأوصاف متصف بضده، وحينئذ يكون مخلاً بالباقي، وأن المراد بالعطف التمكن والرسوخ في كل وصف منها، زيادة على التمكن الذي أفاده التعبير بالوصف دون الفعل، وحينئذ تعدم الكبائر فيتأتى تكفير الصغائر، فتأتي المغفرة والأجر.
وأما آية التحريم فلم تعطف لئلا يظن أنهن أنواع كل نوع يتفرد بوصف، وإفادة الرسوخ هنا في الأوصاف من سياق الامتنان والمدح بكونهن خيراً...
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{مَغْفِرَةً} لما اقترفُوا من الصَّغائرِ لأنهنَّ مكفراتٌ بما عملُوا من الأعمالِ الصَّالحةِ...
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :
قوله: {إِنَّ المسلمين} بدأ سبحانه بذكر الإسلام الذي هو مجرّد الدخول في الدين والانقياد له مع العمل، كما ثبت في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله جبريل عن الإسلام قال: «هو أن تشهد أن لا إله إلا الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتحج البيت، وتصوم رمضان».
ثم عطف على المسلمين {المسلمات} تشريفاً لهنّ بالذكر، وهكذا فيما بعد وإن كنّ داخلات في لفظ المسلمين والمؤمنين ونحو ذلك، والتذكير إنما هو لتغليب الذكور على الإناث كما في جميع ما ورد في الكتاب العزيز من ذلك.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وهذه الصفات الكثيرة التي جمعت في هذه الآية تتعاون في تكوين النفس المسلمة؛ فهي الإسلام، والإيمان، والقنوت، والصدق، والصبر، والخشوع، والتصدق، والصوم، وحفظ الفروج، وذكر الله كثيرا.. ولكل منها قيمته في بناء الشخصية المسلمة.
والإسلام: الاستسلام، والإيمان التصديق. وبينهما صلة وثيقة أو أن أحدهما هو الوجه الثاني للآخر. فالاستسلام إنما هو مقتضى التصديق. والتصديق الحق ينشأ عنه الاستسلام. والقنوت: الطاعة الناشئة من الإسلام والإيمان، عن رضى داخلي لا عن إكراه خارجي.
والصدق: هو الصفة التي يخرج من لا يتصف بها من صفوف الأمة المسلمة لقوله تعالى: (إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله) فالكاذب مطرود من الصف،صف هذه الأمة الصادقة.
والصبر: هو الصفة التي لا يستطيع المسلم حمل عقيدته والقيام بتكاليفها إلا بها، وهي تحتاج إلى الصبر في كل خطوة من خطواتها؛ الصبر على شهوات النفس، وعلى مشاق الدعوة، وعلى أذى الناس. وعلى التواء النفوس وضعفها وانحرافها وتلونها. وعلى الابتلاء والامتحان والفتنة. وعلى السراء والضراء، والصبر على كلتيهما شاق عسير.
والخشوع: صفة القلب والجوارح، الدالة على تأثر القلب بجلال الله، واستشعار هيبته وتقواه.
والتصدق: وهو دلالة التطهر من شح النفس، والشعور بمرحمة الناس، والتكافل في الجماعة المسلمة. والوفاء بحق المال. وشكر المنعم على العطاء.
والصوم: والنص يجعله صفة من الصفات إشارة إلى اطراده وانتظامه. وهو استعلاء على الضرورات، وصبر عن الحاجات الأولية للحياة. وتقرير للإرادة، وتوكيد لغلبة الإنسان في هذا الكائن البشري على الحيوان.
وحفظ الفرج: وما فيه من تطهر، وضبط لأعنف ميل وأعمقه في تركيب كيان الإنسان، وسيطرة على الدفعة التي لا يسيطر عليها إلا تقي يدركه عون الله، وتنظيم للعلاقات، واستهداف لما هو أرفع من فورة اللحم والدم في التقاء الرجل والمرأة، وإخضاع هذا الالتقاء لشريعة الله، وللحكمة العليا من خلق الجنسين في عمارة الأرض وترقية الحياة.
وذكر الله كثيرا: وهو حلقة الاتصال بين نشاط الإنسان كله وعقيدته في الله، واستشعار القلب لله في كل لحظة؛ فلا ينفصل بخاطر ولا حركة عن العروة الوثقى، وإشراق القلب ببشاشة الذكر، الذي يسكب فيه النور والحياة...
وتذكر المرأة في الآية بجانب الرجل كطرف من عمل الإسلام في رفع قيمة المرأة، وترقية النظرة إليها في المجتمع، وإعطائها مكانها إلى جانب الرجل فيما هما فيه سواء من العلاقة بالله؛ ومن تكاليف هذه العقيدة في التطهر والعبادة والسلوك القويم في الحياة...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
يجوز أن تكون هذه الجملة استئنافاً بيانياً لأن قوله: {ومن يقنت منكن لله ورسوله وتعمل صالحاً نؤتها أجرها مرتين} [الأحزاب: 31] بعدَ قوله: {لستن كأحد من النساء} [الأحزاب: 32] يثير في نفوس المسلمات أن يسألَنْ: أَهُنَّ مأجورات على ما يعملن من الحسنات، وأهنّ مأمورات بمثل ما أمرت به أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، أم تلك خصائص لنساء النبي عليه الصلاة والسلام، فكان في هذه الآية ما هو جواب لهذا السؤال على عادة القرآن فيما إذا ذكر مأمورات يُعقبها بالتذكير بحال أمثالها أو بحال أضدادها.
ويجوز أن تكون استئنافاً ابتدائياً ورد بمناسبة ما ذكر من فضائل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم...
وقد اشتملت هذه الخصال العشر على جوامع فصول الشريعة كلها:
فالإِسلام: يجمع قواعد الدين الخمس المفروضةَ التي هي أعمال.
والإِيمان يجمع الاعتقادات القلبية المفروضة وهو شرط أعمال الإِسلام كلها، قال تعالى: {ثم كان من الذين آمنوا} [البلد: 17].
والقنوت: يجمع الطاعات كلّها مفروضَها ومسنُونها، وتركَ المنهيات والإقلاع عنها ممن هو مرتكبها، وهو معنى التوبة، فالقنوت هو تمام الطاعة، فهو مساوٍ للتقوى،فهذه جوامع شرائع المكلفين في أنفسهم. والصدق: يجمع كلّ عمل هو من موافقة القول والفعل للواقع في القضاء والشهادة والعقود والالتزامات وفي المعاملات بالوفاء بها وترك الخيانة، ومطابقة الظاهر للباطن في المراتب كلّها. ومن الصدق صدق الأفعال.
والصبر: جامع لما يختص بتحمل المشاقّ من الأعمال كالجهاد والحسبة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومناصحة المسلمين وتحمل الأذى في الله، وهو خلق عظيم هو مفتاح أبواب محامد الأخلاق والآداب والإِنصاف من النفس.
والخشوع: الإخلاص بالقلب والظاهر، وهو الانقياد وتجنب المعاصي، ويدخل فيه الإِحسان وهو المفسر في حديث جبريل « أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك». ويدخل تحت ذلك جميع القُرَب النوافل فإنها من آثار الخشوع، ويدخل فيه التوبة مما اقترفه المرء من الكبائر إذ لا يتحقق الخشوع بدونها.
والتصدق: يحتوي جميع أنواع الصدقات والعطيات وبذل المعروف والإِرفاق.
والصوم: عبادة عظيمة، فلذلك خُصصت بالذكر مع أن الفرض منه مشمول للإِسلام في قوله: {إن المسلمين والمسلمات} ويفي صوم النافلة، فالتصريح بذكر الصوم تنويه به. وفي الحديث "قال الله تعالى: الصوم لي وأنا أجزي به".
ويراعى في الاتصاف بهذه الصفات أن تكون جارية على ما حدده الشرع في تفاصيلها...
واعلم أن عطف الصفات بالواو المفيد مجرد التشريك في الحكم دون حرفي الترتيب: الفاءِ وثم، شأنه أن يكون الحكم المذكور معه ثابتاً لكل واحد اتصف بوصف من الأوصاف المشتق منها موصوفُه لأن أصل العطف بالواو أن يدل على مغايرة المعطوفات في الذات، فإذا قلت: وجدت فيهم الكريم والشجاع والشاعر كان المعنى: أنك وجدتَ فيهم ثلاثة أُناس كل واحد منهم موصوف بصفة من المذكورات. وفي الحديث: فإن منهم المريض والضعيف وذا الحاجة أي أصحاب المرض والضعف والحاجة، بخلاف العطف بالفاء كقوله تعالى: {والصافات صفاً فالزاجرات زجراً فالتاليات ذكراً} [الصافات: 1 3] فإن الأوصاف المذكورة في تلك الآية ثابتة لموصوف واحد، ولهذا فحقّ جملة {أعد الله لهم مغفرة وأجراً عظيماً} أن تكون خبراً في المعنى عن كل واحد من المتعاطفات، فكأنه قيل: إن المسلمين أعدّ الله لهم مغفرة وأجراً عظيماً، إن المسلمات أعدّ الله لهن مغفرة وأجراً عظيماً، وهكذا.
والفعل الواقع في جملة الخبر وهو فعل {أعد} قد تعدى إلى مفعول ومعطوف على المفعول، فصحة الإِخبار به عن كل واحد من الموصوفات المتعاطفات باعتبار المعطوف على مفعوله واضحة؛ لأن الأجر العظيم يصلح لأن يُعطى لكل واحد ويقبل التفاوت فيكون لكل من أصحاب تلك الأوصاف أجره على اتصافه به ويكون أجر بعضهم أوفر من أجر بعض آخر.
وأما صحة الإِخبار بفعل {أعد} عن كل واحد من المتعاطفات باعتبار المفعول وهو {مغفرة} فيمنع منه ما جاء من دلائل الكتاب والسنة الدالة على أن الذنوب الكبيرة التي فرطت لا يضمن غفرانها للمذنبين إلا بشرط التوبة من المُذنِب وعداً من الله بقوله: {كتب ربكم على نفسه الرحمة أنه من عمل منكم سوءاً بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح فأنه غفور رحيم} [الأنعام: 54]، وألحَقَت السنة بموجبات المغفرة الحجّ المبرور والجهاد في سبيل الله وأشياء أخرى، والوجه في تفسير ذلك عندي: أن تُحمل كل صفة من هذه الصفات على عدم ما يعارضها مما يوجب التبعة، أي سلامته من التلبس بالكبائر حملاً أُراعي فيه الجري على سَنَن القرآن في مثل مقام الثناء والتنويه بالمسلمين من اعتبار حال كمال الإِسلام كقوله: {أولئك هم المؤمنون حقاً} [الأنفال: 4] فإنا لا نجد التفصيل بين أحوال المسلمين إلا في مقام التحذير من الذنوب، والمرجع في هذا المحمل إلى بيان الإِجمال بالجمع بين أدلة الشريعة.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
إنّ بعض هذه الصفات العشر تتحدّث عن مراحل الإيمان (الإقرار باللسان، والتصديق بالقلب والجنان، والعمل بالأركان). والقسم الآخر يبحث في التحكّم باللسان والبطن والشهوة الجنسية، والتي تشكّل ثلاثة عوامل مصيرية في حياة البشر وأخلاقهم، وتحدّثت في جانب آخر عن مسألة الدفاع عن المحرومين، والاستقامة أمام الحوادث الصعبة، أي الصبر الذي هو أساس الإيمان. وأخيراً تتحدّث عن عامل استمرار هذه الصفات، أي «ذكر الله تعالى»...
فإنّ الذكر علامة الفكر، والفكر مقدّمة للعمل، فليس الهدف هو الذكر الخالي من الفكر والعمل مطلقاً...