{ لاّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مّن نّجْوَاهُمْ إِلاّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَآءَ مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً } . .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : { لا خَيْرَ فِي كَثيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ } : لا خير في كثير من نجوى الناس جميعا . { إلاّ مَنْ أمَرَ بصَدَقَةٍ أوْ مَعْرُوفٍ } والمعروف : هو كل ما أمر الله به أو ندب إليه من أعمال البرّ والخير . { أوْ إصْلاحٍ بينَ النّاسِ } وهو الإصلاح بين المتباينين أو المختصمين بما أباح الله الإصلاح بينهما ليتراجعا إلى ما فيه الألفة واجتماع الكلمة على ما أذن الله وأمر به . ثم أخبر جلّ ثناؤه بما وعد من فعل ذلك ، فقال : { وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أجْرا عَظِيما } يقول : ومن يأمر بصدقة أو معروف من الأمر ، أو يصلح بين الناس ابتغاء مرضاة الله ، يعني طلب رضا الله بفعله ذلك¹ { فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أجْرا عَظِيما } يقول : فسوف نعطيه جزاء لما فعل من ذلك عظيما ، ولا حدّ لمبلغ ما سمى الله عظيما يعلمه سواه .
واختلف أهل العربية في معنى قوله : { لا خَيْرَ فِي كَثيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إلاّ مَنْ أمَرَ بِصَدَقَةٍ } فقال بعض نحويي البصرة : معنى ذلك : لا خير في كثير من نجواهم إلا في نجوى من أمر بصدقة . كأنه عطف «من » على الهاء والميم التي في «نجواهم » . وذلك خطأ عند أهل العربية لأن إلا لا تعطف على الهاء والميم في مثل هذا الموضع من أجل أنه لم ينله الجحد . وقال بعض نحويي الكوفة : قد تكون «مَن » في موضع خفض ونصب¹ وأما الخفض فعل قولك : { لا خَيْرَ فِي كَثيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ } إلا فيمن أمر بصدقة ، فتكون النجوى على هذا التأويل هم الرجال المناجون ، كما قال جلّ ثناؤه : { ما يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إلاّ هُوَ رَابِعُهُمْ } وكما قال : { وَإذْ هُمْ نَجْوَى } . وأما النصب ، فعلى أن تجعل النجوى فعلاً فيكون نصبا ، لأنه حينئذ يكون استثناء منقطعا ، لأنه من خلاف النجوى ، فيكون ذلك نظير قول الشاعر :
. . . . . . . . . . . . . . . . ***وَما بالرّبْعِ مِنْ أحَدِ
إلاّ أُوَارِيّ لاَءْيا مَا أُبَيّنُها *** . . . . . . . . . .
وقد يحتمل «من » على هذا التأويل أن يكون رفعا ، كما قال الشاعر :
وَبَلْدَةٍ لَيْسَ بِها أنِيسُ ***إلاّ اليَعافِيرُ وَإلاّ العِيسُ
قال أبو جعفر : وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك ، أن تجعل «من » في موضع خفض بالردّ على النجوى ، وتكون النجوى بمعنى جمع المتناجين ، خرج مخرج السكرى والجرحى والمرضى ، وذلك أن ذلك أظهر معانيه ، فيكون تأويل الكلام : لا خير في كثير من المتناجين يا محمد من الناس ، إلا فيمن أمر بصدقة أو معروف ، أو إصلاح بين الناس ، فإن أولئك فيهم الخير .
{ لا خير في كثير من نجواهم } من متناجيهم كقوله تعالى : { وإذ هم نجوى } أو من تناجيهم فقوله : { إلا من أمر بصدقة أو معروف } على حذف مضاف أي إلا نجوى من أمر أو على الانقطاع بمعنى ولكن من أمر بصدقة ففي نجواه الخير ، والمعروف كل ما يستحسنه الشرع ولا ينكره العقل . وفسرها هنا بالقرض وإغاثة الملهوف وصدقة التطوع وسائر ما فسر به . { أو إصلاح بين الناس } أو إصلاح ذات البين . { ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما } بني الكلام على الأمر ورتب الجزاء على الفعل ليدل على أنه لما دخل الآمر في زمرة الخيرين كان الفاعل أدخل فيهم ، وأن العمدة والغرض هو الفعل واعتبار الأمر من حيث إنه وصلة إليه ، وقيد الفعل بأن يقول لطلب مرضاة الله سبحانه وتعالى ، لأن الأعمال بالنيات وأن كل من فعل خيرا رياء وسمعة لم يستحق به من الله أجرا . ووصف الأجر بالعظم تنبيها على حقارة ما فات في جنبه من أعراض الدنيا . وقرأ حمزة وأبو عمرو " يؤتيه " بالياء .
الضمير في { نجواهم } عائد على الناس أجمع ، وجاءت هذه الآيات عامة التناول ، وفي عمومها يتدرج أصحاب النازلة ، وهذا عن الفصاحة والإيجاز المضمن الماضي والغابر في عبارة واحدة ، والنجوى : المسارَّة ، مصدر ، وقد تسمى به الجماعة ، كما يقال : قوم عدل ورضا{[4280]} ، وتحتمل اللفظة في هذه الآية أن تكون الجماعة وأن تكون المصدر نفسه ، فإن قدرناها الجماعة فالاستثناء متصل ، كأنه قال : لا خير في كثير من جماعاتهم المنفردة المتسارة إلا من ، وإن قدرنا اللفظة المصدر نفسه ، كأنه قال : لا خير في كثير من تناجيهم ، فالاستثناء منقطع بحكم اللفظ ، ويقدر اتصاله على حذف مضاف ، كأنه قال : إلا نجوى من ، قال بعض المفسرين : النجوى كلام الجماعة المنفردة كان ذلك سراً أو جهراً .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : انفراد الجماعة من الاستسرار ، والغرض المقصود أن النجوى ليست بمقصورة على الهمس في الأذن ونحوه ، و «المعروف » : لفظ يعم الصدقة والإصلاح ، ولكن خُصَّا بالذكر اهتماماً بهما ، إذ هما عظيماً الغناء في مصالح العباد ، ثم وعد تعالى «بالأجر العظيم » على فعل هذه الخيرات بنية وقصد لرضا الله تعالى . و { ابتغاء } نصب على المصدر ، وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم والكسائي { فسوف نؤتيه } بالنون وقرأ أبو عمر وحمزة «يؤتيه » بالياء والقراءتان حسنتان .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.