{ وَالسّارِقُ وَالسّارِقَةُ فَاقْطَعُوَاْ أَيْدِيَهُمَا جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } . .
يقول جلّ ثناؤه : ومن سرق من رجل أو امرأة ، فاقطعوا أيها الناس يده . ولذلك رفع السارق والسارقة ، لأنهما غير معينين ، ولو أريد بذلك سارق وسارقة بأعيانهما لكان وجه الكلام النصب . وقد رُوي عن عبد لله بن مسعود أنه كان يقرأ ذلك : «والسارقو ن والسارقات » .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يزيد بن هارون ، عن ابن عون ، عن إبراهيم ، قال : في قراءتنا قال : وربما قال في قراءة عبد الله : «والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهما » .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن علية ، عن ابن عون ، عن إبراهيم : في قراءتنا : «والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهما » .
وفي ذلك دليل على صحة ما قلنا من معناه ، وصحة الرفع فيه ، وأن السارق والسارقة مرفوعان بفعلهما على ما وصفت للعلل التي وصفت . وقال تعالى ذكره : فاقْطَعُوا أيْدِيَهُما والمعنى أيديهما اليمنى كما :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : فاقْطَعُوا أيْدِيَهُما : اليمنى .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن جابر ، عن عامر ، قال : في قراءة عبد الله : «والسارق والسارقة فاقطعوا أيمانهما » .
ثم اختلفوا في السارق الذي عناه الله ، فقال بعضهم : عني بذلك سارق ثلاثة دراهم فصاعدا وذلك قول جماعة من أهل المدينة ، منهم مالك بن أنس ومن قال بقوله . واحتجوا لقولهم ذلك بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم «قطع في مجنّ قيمته ثلاثة دراهم » .
وقال آخرون : بل عنى بذلك : سارق ربع دينار أو قيمته . وممن قال ذلك الأوزاعي ومن قال بقوله . واحتجوا لقولهم ذلك بالخبر الذي رُوي عن عائشة أنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «القَطْعُ في رُبْعِ دينارٍ فَصَاعِدا » .
وقال آخرون : بل عني بذلك سارق عشرة دراهم فصاعدا . وممن قال ذلك أبو حنيفة وأصحابه . واحتجوا في ذلك بالخبر الذي رُوي عن عبد الله بن عمر وابن عباس ، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم «قطع في مجنّ قيمته عشرة دراهم » .
وقال آخرون : بل عنى بذلك : سارق ربع دينار أو قيمته . وممن قال ذلك الأوزاعي ومن قال بقوله . واحتجوا لقولهم ذلك بالخبر الذي رُوي عن عائشة أنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «القَطْعُ في رُبْعِ دينارٍ فَصَاعِدا » .
وقال آخرون : بل عني بذلك سارق عشرة دراهم فصاعدا . وممن قال ذلك أبو حنيفة وأصحابه . واحتجوا في ذلك بالخبر الذي رُوي عن عبد الله بن عمر وابن عباس ، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم «قطع في مجنّ قيمته عشرة دراهم » .
وقال آخرون : بل عني بذلك سارق القليل والكثير . واحتجوا في ذلك بأن الاَية على الظاهر ، وأنه ليس لأحد أن يخصّ منها شيئا إلاّ بحجة يجب التسليم لها . وقالوا : لم يصحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر بأن ذلك في خاصّ من السّرّاق . قالوا : والأخبار فيما قَطَع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطربة مختلفة ، ولم يرو عنه أحد أنه أُتِي بسارق درهم فخلّى عنه ، وإنما رووا عنه أنه قطع في مجنّ قيمته ثلاثة دراهم . قالوا : وممكن أن يكون لو أتى بسارق ما قيمته دانق أن يقطع . قالوا : وقد قطع ابن الزبير في درهم . ورُوي عن ابن عباس أنه قال : الاَية على العموم .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا عبد المؤمن ، عن نجدة الحنفي ، قال : سألت ابن عباس عن قوله : وَالسّارِقُ والسّارِقَةُ أخاصّ أم عامّ ؟ فقال : بل عامّ .
والصواب من القول في ذلك عندنا قول من قال : الاَية معنيّ بها خاصّ من السراق ، وهو سراق ربع دينار فصاعدا أو قيمته ، لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : «القَطْعُ في رُبعِ دِينَارٍ فصَاعِدا » . وقد استقصيت ذكر أقوال المختلفين في ذلك مع عللهم التي اعتلوا بها لأقوالهم ، والتلميح عن أوْلاها بالصواب بشواهده في كتابنا كتاب السرقة ، فكرهنا إطالة الكتاب بإعادة ذلك في هذا الموضع . وقوله : جَزَاءً بِمَا كَسَبا نَكالاً مِنَ اللّهِ يقول : مكافأة لهما على سرقتهما وعملهما في التلصص بمعصية الله . نَكَالاً مِنَ الله يقول : عقوبة من الله على لصوصيتهما . وكان قتادة يقول في ذلك ما :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَالسّارِقُ والسّارِقَةُ فاقْطَعُوا أيدِيَهُما جَزَاءً بِمَا كَسَبا نِكالاٍ مِنَ اللّهِ وَالله عَزَيزٌ حَكيمٌ : لا تَرْثُوا لهم أن تقيموا فيهم الحدود ، فإنه والله ما أمر الله بأمر قطّ إلاّ وهو صلاح ، ولا نهى عن أمر قطّ إلاّ وهو فساد .
وكان عمر بن الخطاب يقول : اشتدّوا على السّراق فاقطعوهم يدا يدا ورِجلاً رجلاً . وقوله : وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكيمٌ يقول جلّ ثناؤه : والله عزيز في انتقامه من هذا السارق والسارقة وغيرهما من أهل معاصيه ، حكيم في حكمه فيهم وقضائه عليهم . يقول : فلا تفرطوا إيها المؤمنون في إقامة حكمي على السارق وغيرهم من أهل الجرئم الذين أوجبت عليهم حدودا في الدنيا عقوبة لهم ، فإني بحكمي قضيت ذلك عليهم ، وعلمي بصلاح ذلك لهم ولكم .
{ والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } جملتان عند سيبويه إذ التقدير فيما يتلى عليكم السارق والسارقة أي حكمهما ، وجملة عند المبرد والفاء للسببية دخل الخبر لتضمنهما معنى الشرط إذ المعنى : والذي سرق والتي سرقت ، وقرئ بالنصب وهو المختار في أمثاله لأن الإنشاء لا يقع خبرا إلا بإضمار وتأويل . والسرقة : أخذ مال الغير في خفية ، وإنما توجب القطع إذا كانت من حرز والمأخوذ ربع دينار أو ما يساويه لقوله عليه الصلاة والسلام " القطع في ربع دينار فصاعدا " وللعلماء خلاف في ذلك لأحاديث وردت فيه وقد استقصيت الكلام فيه في شرح المصابيح ، والمراد بالأيدي الإيمان ويؤيده قراءة ابن مسعود رضي الله عنه أيمانهما ، ولذلك ساغ وضع الجمع موضع المثنى كما في قوله تعالى : { فقد صغت قلوبكم } اكتفاء بتثنية المضاف إليه ، واليد اسم لتمام العضو ولذلك ذهب الخوارج إلى أن المقطع هو المنكب ، والجمهور على أنه الرسغ لأنه عليه الصلاة والسلام أتي بسارق فأمر بقطع يمينه منه . { جزاء بما كسبا نكالا من الله } منصوبان على المفعول له أو المصدر ودل على فعلهما فاقطعوا { والله عزيز حكيم } .
قرأ جمهور القراء «والسارقُ والسارقةُ » بالرفع ، وقرأ عيسى بن عمر وإبراهيم بن أبي عبلة «والسارقَ والسارقَةَ » بالنصب ، قال سيبويه رحمه الله الوجه في كلام العرب النصب كما تقول زيداً اضربه ، ولكن أبت العامة إلا الرفع يعني عامة القراء وجلهم ، قال سيبويه الرفع في هذا وفي قوله : { الزانية والزاني }{[4532]} وفي قول الله : { واللذان يأتيانها منكم }{[4533]} هو على معنى فيما فرض عليكم . والفاء في قوله تعالى : { فاقطعوا } ردت المستقل غير مستقل ، لأن قوله فيما«فرض عليكم السارق » جملة حقها وظاهرها الاستقلال ، لكن المعنى المقصود ليس إلا في قوله : { فاقطعوا } فهذه الفاء هي التي ربطت الكلام الثاني بالأول وأظهرت الأول هنا غير مستقل ، وقال أبو العباس المبرد وهو قول جماعة من البصريين ، اختار أن يكون «والسارقُ والسارقةُ » رفعاً بالابتداء لأن القصد ليس إلى واحد بعينه فليس هو مثل قولك ، زيداً فاضربه إنما هو كقولك من سرق فاقطع يده ، قال الزجاج وهذا القول هو المختار .
قال القاضي أبو محمد : أنزل سيبويه النوع السارق منزلة الشخص المعين ، وقرأ عبد الله بن مسعود وإبراهيم النخعي «والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهم » ، وقال الخفاف : وجدت في مصحف أبي بن كعب «والسُّرَّق والسُّرَّقة » هكذا ضبطا بضم السين المشددة وفتح الراء المشددة فيهما هكذا ضبطهما أبو عمرو .
قال القاضي أبو محمد : ويشبه أن يكون هذا تصحيفاً من الضابط لأن قراءة الجماعة إذا كتب «السارق » بغير ألف وافقت في الخط هذه ، وأخذ ملك الغير يتنوع بحسب قرائنه ، فمنه الغصب وقرينته علم المغصوب منه وقت الغصب أو علم مشاهد غيره ، ومنه الخيانة وقرينتها أن الخائن قد طرق له إلى المال بتصرف ما ، ومنه السرقة وقرائنها أن يؤخذ مال لم يطرق إليه على غير علم من المسروق ماله وفي خفاء من جميع الناس فيما يرى السارق ، وهذا هو الذي يجب عليه القطع وحده من بين أخذة الأموال لخبث هذا المنزع وقلة العذر فيه ، وحاط الله تعالى البشر على لسان نبيه بأن القطع لا يكون إلا بقرائن ، منها الإخراج من حرز ، ومنه القدر المسروق على اختلاف أهل العلم فيه ، ومنها أن يعلم السارق بتحريم السرقة ، وأن تكون السرقة فيما يحل ملكه ، فلفظ { السارق } في الآية عموم معناه الخصوص ، فأما القدر المسروق فقالت طائفة لا قطع إلا في ربع دينار فصاعداً ، قال به عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي وعائشة وعمر بن عبد العزيز والأوزاعي والليث والشافعي وأبو ثور ، وفيه حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «القطع في ربع دينار فصاعداً »{[4534]} وقال مالك رحمه الله : تقطع اليد في ربع دينار أو في ثلاثة دراهم ، فإن سرق درهمين وهي ربع دينار لانحطاط الصرف لم يقطع وكذلك العروض لا يقطع فيها إلا أن تبلغ ثلاثة دراهم قل الصرف أو كثر ، وفي القطع قول رابع وهو أن لا قطع إلا في خمسة دراهم أو قيمتها ، روي هذا عن عمر ، وبه قال سليمان بن يسار وابن ابي ليلى وابن شبرمة ، ومنه قول أنس بن مالك : قطع أبو بكر في مجنّ قيمته خسمة دراهم .
قال القاضي أبو محمد : ولا حجة في هذا على أن الخمسة حد وقال أبو حنيفة وأصحابه وعطاء : لا قطع في أقل من عشرة دراهم ، وقال أبو هريرة وأبو سعيد الخدري : لا تقطع اليد في أقل من أربعة دراهم ، وقال عثمان البتي : تقطع اليد في درهم فما فوقه{[4535]} ، وحكى الطبري أن عبد الله بن الزبير قطع في درهم وروي عن الحسن بن أبي الحسن أنه قال : تقطع اليد في كل ما له قيمة قل أو كثر على ظاهر الآية . وقد حكى الطبري نحوه عن ابن عباس ، وهو قول أهل الظاهر وقول الخوارج ، وروي عن الحسن أيضاً أنه قال : تذاكرنا القطع في كم يكون على عهد زياد فاتفق رأينا على درهمين وأكثر العلماء على أن التوبة لا تسقط عن السارق القطع ، وروي عن الشافعي أنه إذا تاب قبل أن يقدر عليه وتمتد إليه يد الأحكام فإن القطع يسقط عنه قياساً على المحارب ، وجمهور الناس على أن القطع لا يكون إلا على من أخرج من حرز ، وقال الحسن بن أبي الحسن إذا جمع الثياب في البيت قطع وإن لم يخرجها ، وقوله تعالى : { فاقطعوا أيديهما } جمع الأيدي من حيث كان لكل سارق يمين واحدة وهي المعرضة للقطع في السرقة أولاً فجاءت للسراق أيد وللسارقات أيد ، فكأنه قال اقطعوا أَيمان النوعين فالتثنية في الضمير إنما هي للنوعين . قال الزجاج عن بعض النحويين ، إنما جعل تثنية ما في الإنسان منه واحد جمعاً كقوله : { صنعت قلوبكما }{[4536]} لأن أكثر أعضائه فيه منه اثنان فحمل ما كان فيه الواحد على مثال ذلك قال أبو إسحاق : وحقيقة هذا الباب أن ما كان في الشيء منه واحد لم يثن ولفظ به على لفظ الجمع لأن الإضافة تبينه . فإذا قلت أشبعت بطونهما علم أن للاثنين بطنين .
قال القاضي أبو محمد : كأنهم كرهوا اجتماع تثنيتين في كلمة .
واختلف العلماء في ترتيب القطع ، فمذهب مالك رحمه الله وجمهور الناس أن تقطع اليمنى من يد السارق ثم إن عاد قطعت رجله اليسرى ثم إن عاد قطعت يده اليسرى ثم إن عاد قطعت رجله اليمنى ، ثم إن سرق عزر وحبس ، وقال علي بن أبي طالب والزهري وحماد بن أبي سليمان وأحمد بن حنبل : تقطع يده اليمنى ثم إن سرق قطعت رجله اليسرى ثم إن سرق عزر وحبس .
وروي عن عطاء بن أبي رباح : لا تقطع في السرقة إلا اليد اليمنى فقط ثم إن سرق عزر وحبس .
قال القاضي أبو محمد : وهذا تمسك بظاهر الآية ، والقول شاذ فيلزم على ظاهر الآية أن تقطع اليد ثم اليد . ومذهب جمهور الفقهاء أن القطع في اليد من الرسغ وفي الرجل من الفصل ، وروي عن علي بن أبي طالب أن القطع في اليد من الأصابع وفي الرجل من نصف القدم . وقوله تعالى : { جزاء بما كسبا } نصبه على المصدر ، وقال الزجاج مفعول من أجله . وكذلك : { نكالاً من الله } والنكال العذاب ، والنكل القيد ، وسائر معنى الآية بيّن وفيه بعض الأعراب حكاية .