القول في تأويل قوله تعالى : { وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذّلّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيّ وَقَالَ الّذِينَ آمَنُوَاْ إِنّ الْخَاسِرِينَ الّذِينَ خَسِرُوَاْ أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلاَ إِنّ الظّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مّقِيمٍ } .
يقول تعالى ذكره : وترى يا محمد الظالمين يعرضون على النار خاشِعِينَ مِنَ الذّلّ يقول : خاضعين متذللين . كما :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، : الخشوع : الخوف والخشية لله عزّ وجلّ ، وقرأ قول الله عزّ وجلّ : لَمّا رأَوُا العَذَابَ . . . إلى قوله : خاشِعِينَ مِنَ الذّلّ قال : قد أذلهم الخوف الذي نزل بهم وخشعوا له .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، في قوله : خاشِعِينَ قال : خاضعين من الذلّ .
وقوله : يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيّ يقول : ينظر هؤلاء الظالمون إلى النار حين يعرضون عليها من طرف خفيّ .
واختلف أهل التأويل في معنى قوله : مِنْ طَرْفٍ خَفِيَ فقال بعضهم : معناه : من طرف ذليل . وكأن معنى الكلام : من طرف قد خَفِي من ذلّةٍ . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذّلّ . . . إلى قوله : مِنْ طَرْفٍ خَفِيّ يعني بالخفيّ : الذليل .
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى : وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله عزّ وجلّ : مِنْ طَرْفٍ خَفِيّ قال : ذليل .
وقال آخرون : بل معنى ذلك أنهم يسارقون النظر . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيّ قال : يسارقون النظر .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ مِنْ طَرْفٍ خَفِيّ قال : يسارقون النظر .
واختلف أهل العربية في ذلك ، فقال بعض نحويي البصرة في ذلك : جعل الطرف العين ، كأنه قال : ونظرهم من عين ضعيفة ، والله أعلم . قال : وقال يونس : إن مِنْ طَرْفٍ مثل بطرفٍ ، كما تقول العرب : ضربته في السيف ، وضربته بالسيف .
وقال آخر منهم : إنما قيل : مِنْ طَرْفٍ خَفِيّ لأنه لا يفتح عينيه ، إنما ينظر ببعضها .
وقال آخرون منهم : إنما قيل : مِنْ طَرْفٍ خَفِيّ لأنهم ينظرون إلى النار بقلوبهم ، لأنهم يُحشرُون عُميا .
والصواب من القول في ذلك ، القول الذي ذكرناه عن ابن عباس ومجاهد ، وهو أن معناه : أنهم ينظرون إلى النار من طرف ذليل ، وصفه الله جلّ ثناؤه بالخفاء للذلة التي قد ركبتهم ، حتى كادت أعينهم أن تغور ، فتذهب .
وقوله : وَقالَ الّذِينَ آمَنُوا إنّ الخاسِرِينَ الّذِينَ خَسِرُوا أنْفُسَهُم وأهْلِيهِمْ يَوْمَ القِيامَةِ يقول تعالى ذكره : وقال الذين آمنوا بالله ورسوله : إن المغبونين الذين غبنوا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة في الجنة . كما :
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله : الّذِينَ خَسِرُوا أنْفُسَهُمْ وأهْلِيهِمْ يَوْمَ القِيامةِ قال : غبنوا أنفسهم وأهليهم في الجنة .
وقوله : ألا إنّ الظّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ يقول تعالى ذكره : ألا إن الكافرين يوم القيامة في عذاب لهم من الله مُقيم عليهم ، ثابت لا يزول عنهم ، ولا يَبيد ، ولا يخفّ .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وتراهم يعرضون عليها}، يعني على النار واقفين عليها.
{خاشعين}، يعني خاضعين، {من الذل} الذي نزل بهم.
{ينظرون من طرف خفي}، يعني يستخفون بالنظر إليها يسارقون النظر.
{وقال الذين آمنوا}... {إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم}، يعني غبنوا أنفسهم، فصاروا إلى النار.
{و} خسروا {وأهليهم يوم القيامة}: وغبنوا أهليهم في الجنة، فصاروا لغيرهم، ولو دخلوا الجنة أصابوا الأهل، فلما دخلوا النار حرموا، فصار ما في الجنة والأهلين لغيرهم.
{ألا إن الظالمين}، يعني المشركين، {في عذاب مقيم}، يعني دائم لا يزول عنهم.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وترى يا محمد الظالمين يعرضون على النار "خاشِعِينَ مِنَ الذّلّ "يقول: خاضعين متذللين...
وقوله: "يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيّ" يقول: ينظر هؤلاء الظالمون إلى النار حين يعرضون عليها من طرف خفيّ.
واختلف أهل التأويل في معنى قوله: "مِنْ طَرْفٍ خَفِيَ"؛
فقال بعضهم: معناه: من طرف ذليل. وكأن معنى الكلام: من طرف قد خَفِي من ذلّة...
وقال آخرون: بل معنى ذلك أنهم يسارقون النظر...
وقال آخرون منهم: إنما قيل: "مِنْ طَرْفٍ خَفِيّ" لأنهم ينظرون إلى النار بقلوبهم، لأنهم يُحشرُون عُميا.
والصواب من القول في ذلك... أن معناه: أنهم ينظرون إلى النار من طرف ذليل، وصفه الله جلّ ثناؤه بالخفاء للذلة التي قد ركبتهم، حتى كادت أعينهم أن تغور، فتذهب.
وقوله: "وَقالَ الّذِينَ آمَنُوا إنّ الخاسِرِينَ الّذِينَ خَسِرُوا أنْفُسَهُم وأهْلِيهِمْ يَوْمَ القِيامَةِ" يقول تعالى ذكره: وقال الذين آمنوا بالله ورسوله: إن المغبونين الذين غبنوا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة في الجنة...
وقوله: "ألا إنّ الظّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ" يقول تعالى ذكره: ألا إن الكافرين يوم القيامة في عذاب لهم من الله مُقيم عليهم، ثابت لا يزول عنهم، ولا يَبيد، ولا يخفّ.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يحتمل أن يكون قوله: {ينظرون من طرف خفيّ} أي لا ينظرون إلى الناس، ولا يُقبلون بوجوههم إليهم إلا نظر التلصُّص والتغفّل حياء منهم لسوء فِعالهم. وهكذا المعروف في الناس، لأن من صنع إلى آخر سوءا لا يتهيأ له رفع الطرف إليه متّصلا إلا على التلصّص منه والتغفّل. فعلى ذلك أولئك، والله أعلم.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
الضمير في قوله: {عليها} عائد على النار، وعاد الضمير مع أنها لم يتقدم لها ذكر من حيث دل عليها قوله: {رأوا العذاب}...
{من طرف خفي} قال قوم فيما حكى الطبري: لما كانوا يحشرون عمياً وكان نظرهم بعيون قلوبهم جعله طرفاً خفياً، أي لا يبدو نظرهم، وفي هذا التأويل تكلف...
{ألا إن الظالمين في عذاب مقيم} أي دائم قال القاضي، وهذا يدل على أن الكافر والفاسق يدوم عذابهما والجواب: أن لفظ الظالم المطلق في القرآن مخصوص بالكفر قال تعالى: {والكافرون هم الظالمون}...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
{إِنَّ الْخَاسِرِينَ} أي:الخسار الأكبر {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي: ذهب بهم إلى النار فعدموا لذتهم في دار الأبد، وخسروا أنفسهم، وفرق بينهم وبين أصحابهم وأحبابهم وأهاليهم وقراباتهم، فخسروهم، {أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ} أي: دائم سرمدي أبدي، لا خروج لهم منها ولا محيد لهم عنها...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{يعرضون} أي يجدد عرضهم ويكرر، وهو إلجاؤهم إلى أن يقارنوها بعرضهم الذي يلزم محاذاتهم لها أيضاً بطولهم ليعلموا أنها مصيرهم فلا مانع لها منهم.
{عليها} أي النار التي هي دار العذاب مكرراً عرضهم في طول الموقف مع ما هم فيه من تلك الأهوال بمقاساة ما عليهم من الأحمال الثقال حال كونهم {خاشعين} أي في غاية الضعة والإلقاء باليد خشوعاً هو ثابت لهم.
ولما كان الخشوع قد يكون محموداً قال: {من الذل}؛ لأنهم عرفوا إذ ذاك ذنوبهم وانكشفت لهم عظمة من عصوه...
{إن الخاسرين} أي الذين كملت خسارتهم هم خاصة.
{الذين خسروا أنفسهم} بما استغرقها من العذاب {وأهليهم} بمفارقتهم لهم إما في إطباق العذاب إن كانوا مثلهم في الخسران أو في دار الثواب إن كانوا من أهل الإيمان.
{ألا إن الظالمين} أي الراسخين في هذا الوصف فهم بحيث لا ينفكون عن فعل الماشي في الظلام بوضع الأشياء في غير مواضعها.
{في عذاب مقيم} لا يزايلهم أصلاً، فلذلك لا يفرغون منه في وقت من الأوقات، فلذلك كان خسرانهم لكل شيء.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الظاهر: أن المؤمنين يقولون هذا بمسمع من الظالمين فيزيد الظالمين تلهيباً لندامتهم ومهانتهم وخزيهم. فهذا الخبر مستعمل في إظهار المسرّة والبهجة بالسلامة مما لحق الظالمين، أي قالوه تحدثاً بالنعمة واغتباطاً بالسلامة يقوله كل أحد منهم أو يقوله بعضهم لبعض. وإنما جيء بحرف {إنَّ} مع أن القائل لا يشك في ذلك والسامع لا يشك فيه للاهتمام بهذا الكلام إذ قد تبيّنت سعادتهم في الآخرة وتوفيقهم في الدنيا بمشاهدة ضد ذلك في معانديهم.
والخسران: تلف مال التاجر، واستعير هنا لانتفاء الانتفاع بما كان صاحبه يُعِده للنفع، فإنهم كانوا يأمُلون نعيم أنفسهم والأنس بأهليهم حيثما اجتمعوا، فكُشف لهم في هذا الجمع عن انتفاء الأمرين؛ أو لأنهم كانوا يحسبون أن لا يحيوا بعد الموت فحسِبوا أنهم لا يَلْقَوْن بعده ألماً ولا توحشهم فرقة أهليهم؛ فكُشف لهم ما خيَّب ظنهم فكانوا كالتاجر الذي أمّل الربح فأصابه الخسران.