ثم بين - سبحانه - ما يجب على المؤمنين نحو نبيهم صلى الله عليه وسلم ونحو أزواجه ، وما يجب للأقارب فيها بينهم ، فقال - تعالى - : { النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ . . . } .
أى : النبى صلى الله عليه وسلم أحق بالمؤمنين بهم من أنفسهم وأولى فى المحبة والطاعة ، فإذا ما دعاهم إلى أمر ، ودعتهم أنفسهم إلى خلافه ، وجب أن يؤثروا ما دعاهم إليه ، على ما تدعوهم إليه أنفسهم ، لأنه صلى الله علي وسلم لا يدعوهم إلا إلى ما ينفعهم ، أما أنفسهم فقد تدعوهم إلى ما يضرهم .
وفى الحديث الصحيح الذى رواه الإِمام مسلم عن أبى هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن مثلى ومثل أمتى ، كمثل رجل استوقد نارا ، فجعلت الدواب والفراش يقعن فيه - أى فى الشئ المستوقد - وأنا آخذ بِحُجزكم - أى : وأنا آخذ بما يمنعكم من السقوط كملابسكم ومعاقد الإِزار - وأنتم تقحمون فيه " أى : وأنتم تحاولون الوقوع فيما يحرقكم - . قال القرطبى : قال العلماء : الحجزة : السراويل ، والمعقد للإِزار ، فإذا أراد الرجل إمساك من يخاف سقوطه أخذ بذلك الموضع منه ، وهذا مثل لاجتهاد نبينا صلى الله عليه وسلم فى نجاتنا ، وحرصه على تخليصنا من الهلكات التى بين أيدينا ، فهو أولى بنا من أنفسنا .
وقال الإِمام ابن كثير . قد علم الله - تعالى - شفقة رسوله صلى الله عليه وسلم على أمته ، ونصحه لهم : فجعله أولى بهم من أنفسهم ، وحكمه فيهم مقدما على اختيارهم لأنفسهم .
وفى الصحيح " والذى نفسى بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين " .
وروى البخارى عن هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم قال : " ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به فى الدنيا والآخرة . اقرءوا إن شئتم : { النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ } فأيما مؤمن ترك مالا فليرثه عصبته من كانوا ، فإن ترك دينا أو ضياعا فليأتنى فأنا مولاه " .
وروى الإِمام أحمد عن جابر عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول : " أنا أولى بكل مؤمن من نفسه فأيما رجل مات وترك دينا فإلى ، ومن ترك مالا فلورثته " .
وقال الآلوسى : وإذا كان صلى الله عليه وسلم بهذه المثابة فى حق المؤمنين ، يجب عليهم أن يكون أحب إليهم من أنفسهم ، وحكمه - عليه الصلاة والسلام - عليهم أنفذ من حكمها ، وحقه آثر لديهم من حقوقها ، وشفقتهم عليه أقدم من شفقتهم عليها .
وسبب نزول الآية - على ما قيل - ما روى من أنه صلى الله عليه وسلم أراد غزوة تبوك ، فأمر الناس بالخروج : فقال أناس منهم : نستأذن آباءنا وأمهاتنا فنلزت . ووجه دلالتها على السبب أنه صلى الله عليه وسلم إذا كان أولى من أنفسهم ، فهو أولى من الأبوين بالطريق الأولى .
ثم بين - سبحانه - منزلة أزواجه صلى الله عليه وسلم بالنسبة للمؤمنين فقال : { وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } أى : وأزواجه صلى الله عليه وسلم بمنزلة أمهاتكم - أيها المؤمنون - فى الاحترام والإِكرام ، وفى حرمة الزواج بهن .
قالوا : وأما ما عدا ذلك كالنظر إليهن ، والخلوة بهن ، وإرثهن . فهن كالأجنبيات .
ثم بين - سبحانه - أن التوارث إنما يكون بين الأقارب فقال - تعالى - { وَأُوْلُو الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ الله مِنَ المؤمنين والمهاجرين إِلاَّ أَن تفعلوا إلى أَوْلِيَآئِكُمْ مَّعْرُوفاً كَانَ ذَلِكَ فِي الكتاب مَسْطُوراً } .
والمراد بأولى الأرحام : الأقارب الذين تربط بينهم رابطة الرحم كالآباء والأبناء والإِخوة ، والأخوات .
وقوله : { فِي كِتَابِ الله } متعلق بقوله { أولى } أو بمحذوف على أنه حال من الضمير فى { أولى } .
والمراد بالمؤمنين والمهاجرين . من لا تربط بينهم وبين غيرهم رابطة قرابة .
قال ابن كثير : وقد أورد ابن أبى حاتم عن الزبير بن العوام قال : أنزل الله - عز وجل - فينا خاصة معشر قريش والأنصار : { وَأُوْلُو الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ } وذلك أنا معشر قريش ، لما قدمنا المدينة قدمناه ولا أموال لنا ، فوجدنا الأنصار نعم الإِخوان ، فواخيناهم ووارثناهم . . حتى أنزل الله هذه الآية فينا معشر قريش والأنصار خاصة ، فرجعنا إلى مواريثنا .
وشبيه بهذه الآية فى وجوب أن يكون التوارث بحسب قرابة الدم ، قوله - تعالى - فى آخر آية من سورة الأنفال : { والذين آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فأولئك مِنكُمْ وَأْوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ الله إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } والاستثناء فى قوله - سبحانه - : { إِلاَّ أَن تفعلوا إلى أَوْلِيَآئِكُمْ مَّعْرُوفاً } رجح بعضهم أنه استثناء منقطع . وقوله { أَن تفعلوا } مبتدأ ، وخبره محذوف .
والمراد بالكتاب فى قوله { كَانَ ذَلِكَ فِي الكتاب مَسْطُوراً } القرآن الكريم ، أو اللوح المحفوظ .
والمعنى : وأولو الأرحام وهم الأقارب ، بعضهم أولى ببعض فى التوارث فيما بينهم ، وفى تبادل المنافع بعضهم مع بعض ، وهذه الأولية والأحقية ثابتة فى كتاب الله - تعالى - حيث بين لكم فى آيات المواريث التى بسورة النساء ، كيفية تقسيم التركة بين الأقارب ، وهم بهذا البيان أولى فى ميراث الميت من المؤمنين والمهاجرين الذين لا تربطهم بالميت صلة القرابة .
هذا هو حكم الشرع فيما يتعلق بالتوارث ، لكن إذا أردتم - أيها المؤمنون - أن تقدموا إلى غير أقاربكم من المؤمنين معروفا ، كأن توصوا له ببعض المال فلا بأس ، ولا حرج عليكم فى ذلك .
وهذا الحكم الذى بيناه لكم فيما يتعلق بالتوارث بين الأقارب ، كان مسطورا ومكتوبا فى اللوح المحفوظ ، وفى آيات القرآن التى سبق نزولها ، فاعملوا بما شرعناه لكم ، واتركوا ما نهيناكم عنه .
قال الشوكانى ما ملخصه : قوله : { إِلاَّ أَن تفعلوا إلى أَوْلِيَآئِكُمْ مَّعْرُوفاً } هذا الاستثناء إما متصل من أعم العام ، والتقدير : وأولو الأرحام بعضهم اولى ببعض فى كل شئ من الإِرث وغيره ، إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا ، من صدقة أو وصية ، فإن ذلك جائز .
وإما منقطع . والمعنى : لكن فعل المعروف للأولياء لا بأس به .
والإِشارة بقوله : { كَانَ ذَلِكَ } تعود إلى ما تقدم ذكره . أى : كان نسخ الميراث بالهجرة والمخالفة والمعاقدة ، ورده إلى ذوى الأرحام من القرايات { فِي الكتاب مَسْطُوراً } أى : فى اللوح المحفوظ ، أو فى القرآن مكتوبا .
وبذلك نرى الآية الكريمة قد وضحت ما يجب على المؤمنين نحو نبيهم ، وما يجب عليهم نحو أزواجه ، وما يجب عليهم نحو أقاربهم فيما يتعلق بالتوارث .
وقوله تعالى : { النبي أولى بالمؤمنين } الآية أزال الله تعالى بها أحكاماً كانت في صدر الإسلام منها : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يصلي على ميت عليه دين ، فذكر الله تعالى أنه { أولى بالمؤمنين من أنفسهم } فجمع هذا أن المؤمن يلزم أن يحب النبي أكثر من نفسه حسب حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه{[9455]} ، ويلزمه أن يمتثل أوامره أحبت نفسه ذلك أو كرهت ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزلت هذه الآية : «أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، من ترك مالاً فلورثته ، ومن ترك ديناً أو ضياعاً ، فعلي ، أنا وليه ، اقرؤوا إن شئتم { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم }{[9456]} » ، وقال بعض العلماء العارفين هو أولى بهم من أنفسهم لأن أنفسهم تدعوهم إلى الهلاك وهو يدعوهم إلى النجاة .
قال الفقيه الإمام القاضي : ويؤيد هذا قوله عليه السلام «أنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تقتحمون فيها تقحم الفراش »{[9457]} .
وشرف تعالى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بأن جعلهن أمهات المؤمنين في حرمة النكاح وفي المبرة وحجبهن رضي الله عنهن بخلاف الأمهات ، قال مسروق قالت امرأة لعائشة رضي الله عنها : يا أمه ، فقالت لست لك بأم وإنما أنا أم رجالكم . وفي مصحف أبيّ بن كعب «وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم » ، وقرأ ابن عباس «من أنفسهم وهو أب لهم وأزواجه أمهاتهم » ، وسمع عمر هذه القراءة فأنكرها ، فقيل له إنها في مصحف أبيّ فسأله فقررها أبيّ وأغلظ لعمر ، وقد قيل في قول لوط عليه السلام : { هؤلاء بناتي }{[9458]} [ هود : 78 ] إنما أراد المؤمنات ، أي تزوجوهن .
ثم حكم تعالى بأن أولي الأرحام أحق مما كانت الشريعة قررته من التوارث بأخوة الإسلام وبالهجرة ، فإنه كان بالمدينة توارث في صدر الإسلام بهذين الوجهين{[9459]} ، اختلفت الرواية في صفته وليس لمعرفته الآن حكم فاختصرته ، ورد الله تعالى المواريث على الأنساب الصحيحة ، وقوله تعالى : { في كتاب الله } يحتمل أن يريد القرآن ، ويحتمل أن يريد اللوح المحفوظ ، وقوله تعالى : { من المؤمنين } متعلق ب { أولى } الثانية{[9460]} ، وهذه الأخوة والهجرة التي ذكرنا ، وقوله تعالى : { إلا أن تفعلوا } يريد الإحسان في الحياة والصلة والوصية عند الموت ، قاله قتادة والحسن وعطاء وابن الحنيفة ، وهذا كله جائز أن يفعل مع الولي على أقسامه ، والقريب الكافر يوصي له بوصية{[9461]} ، واختلف العلماء هل يجعل هو وصياً ، فجوز بعض ومنع بعض ورد النظر في ذلك إلى السلطان بعض ، منهم مالك بن أنس رضي الله عنه ، وذهب مجاهد وابن زيد والرماني وغيره إلى أن المعنى إلى أوليائكم من المؤمنين .
قال القاضي أبو محمد : ولفظ الآية يعضد هذا المذهب ، وتعميم لفظ الولي أيضاً حسن كما قدمناه ، إذ ولاية النسب لا تدفع في الكافر ، وإنما يدفع أن يلقى إليه بالمودة كولي الإسلام .
و { الكتاب } الذي سطر ذلك فيه يحتمل الوجهين اللذين ذكرنا ، و { مسطوراً } من قولك سطوت الكتاب إذا أثبته إسطاراً ومنه قول العجاج :
«في الصحف الأولى التي كان سطراً{[9462]} » ،
{ النبى أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ }
استئناف بياني أن قوله تعالى : { وما جعل أدعياءكم أبناءكم } [ الأحزاب : 4 ] وقوله { ادعوهم لآبائهم } [ الأحزاب : 5 ] كان قد شمل في أول ما شمله إبطال بنوّة زيد بن حارثة للنبيء صلى الله عليه وسلم فكان بحيث يثير سؤالاً في نفوس الناس عن مدى صلة المؤمنين بنبيئهم صلى الله عليه وسلم وهل هي علاقة الأجانب من المؤمنين بعضهم ببعض سواء فلأجل تعليم المؤمنين حقوق النبي وحرمته جاءت هذه الآية مبينة أن النبي أوْلى بالمؤمنين من أنفسهم . والمعنى : أنه أولى بكل مؤمن من أنفس المؤمنين . و { مِنْ } تفضيلية .
ثم الظاهر أن الأنفس مراد بها جمع النفس وهي اللطيفة الإنسانية كقوله { تعلم ما في نفسي } [ المائدة : 116 ] ، وأن الجمع للتوزيع على كل مؤمن آيل إلى كل فرد من الأنفس ، أي : أن النبي أولى بكل مؤمن من نفس ذلك المؤمن ، أي : هو أشد ولاية ، أي : قرباً لكل مؤمن من قرب نفسه إليه ، وهو قرب معنوي يراد به آثار القرب من محبة ونصرة . ف { أولى } اسم تفضيل من الوَلْي وهو القرب ، أي : أشد قرباً . وهذا الاسم يتضمن معنى الأحقية بالشيء فيتعلق به متعلِّقه ببناء المصاحبة والملابسة . والكلام على تقدير مضاف ، أي : أولى بمنافع المؤمنين أو بمصالح المؤمنين ، فهذا المضاف حذف لقصد تعميم كل شأن من شؤون المؤمنين الصالحة .
والأنفس : الذوات ، أي : هو أحق بالتصرف في شؤونهم من أنفسهم في تصرفهم في شؤونهم . ومن هذا المعنى ما في الحديث الصحيح من قول عمر بن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم « لأنتَ أحبّ إليّ من كل شيء إلاّ من نفسي التي بين جنبَيّ » فقال له النبي صلى الله عليه وسلم « لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبَّ إليه من نفسه . فقال عمر : والذي أنزل عليك الكتاب لأنت أحبّ إليّ من نفسي » . ويجوز أن يكون المراد بالأنفس مجموع نوعهم كقوله : { إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم } [ آل عمران : 164 ] ، ويجوز أن يكون المراد بالأنفس الناس . والمعنى : أنه أولى بالمؤمنين من ولاية بعضهم لبعض ، أي : من ولاية جميعهم لبعضهم على نحو قوله تعالى : { ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم } [ البقرة : 85 ] ، أي : يقتل بعضكم بعضاً ، وقوله : { ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً } [ النساء : 29 ] .
والوجه الأول أقوى وأعمّ في اعتبار حرمة النبي صلى الله عليه وسلم وهو يفيد أولويته بمن عدا الأنفس من المؤمنين بدلالة فحوى الخطاب . وأما الاحتمال الثاني فإنه لا يفيد أنه أولى بكل مؤمن بنفس ذلك المؤمن إلا بدلالة قياس الأدْوَن ، ولذلك استثنى عمر بن الخطاب بادىء الأمر نفسه فقال : لأنت أحب إليّ إلا مِن نفسي التي بين جنبيّ . وعلى كلا الوجهين فالنبي عليه الصلاة والسلام أولى بالمؤمنين من آبائهم وأبنائهم ، وعلى الاحتمال الأول أولى بكل مؤمن من نفسه .
وسننبه عليه عند قوله تعالى : { وأزواجه أمهاتهم } فكانت ولاية النبي صلى الله عليه وسلم بالمؤمنين بعد إبطال التبني سواء على جميع المؤمنين .
وفي الحديث : " ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة اقرأوا إن شئتم { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم } " ولِما علمتَ من أن هذه الولاية راجعة إلى حرمته وكرامته تعلم أنها لا تتعدّى ذلك فيما هو من تصرفات الناس وحقوق بعضهم من بعض ، مثل ميراث الميت من المسلمين فإن ميراثه لورثته ، وقد بينه قول النبي : أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فأيّما مؤمن ترك مالاً فليرثه ورثته من كانوا ، فإن ترك ديناً أو ضياعاً فليأتني فأنا مولاه . وهذا ملاك معنى هذه الآية .
عَطَف على حقوق النبي صلى الله عليه وسلم حقوقَ أزواجه على المسلمين لمناسبة جريان ذكر حق النبي عليه الصلاة والسلام فجعَل الله لهن ما للأمهات من تحريم التزوج بهن بقرينة ما تقدم من قوله { وما جعَل أزواجَكُم اللاء تظّهرون منهنّ أمهاتكم } [ الأحزاب : 4 ] .
وأما ما عدا حكم التزوج من وجوه البر بهن ومواساتهن فذلك راجع إلى تعظيم أسباب النبي صلى الله عليه وسلم وحرماته ولم يزل أصحاب النبي والخلفاء الراشدون يتوخّون حُسن معاملة أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ويؤثرونهنّ بالخير والكرامة والتعظيم . وقال ابن عباس عند حمل جنازة ميمونة : « هذه زوج نبيئكم فإذا رفعتم نعشها فلا تزعزعوا ولا تزلزلوا وارفقوا » رواه مسلم . وكذلك ما عدا حكم الزواج من وجوه المعاملة غير ما يرجع إلى التعظيم . ولهذه النكتة جيء بالتشبيه البليغ للمبالغة في شبههن بالأمهات للمؤمنين مثل الإرث وتزوج بناتهن ، فلا يُحسب أن تركاتهن يرثها جميع المسلمين ، ولا أن بناتهن أخوات للمسلمين في حرمة التزوج بهن .
وأما إطلاق وصف خال المؤمنين على الخليفة معاوية لأنه أخو أم حبيبة أم المؤمنين فذلك من قبيل التعظيم كما يقال : بنُو فلان أخوال فلان ، إذا كانوا قبيلة أمه .
والمراد بأزواجه اللآتي تزوجهنّ بنكاح فلا يدخل في ذلك ملك اليمين ، وقد قال الصحابة يوم قريظة حين تزوج النبي صلى الله عليه وسلم صفية بنت حيّي : أهي إحدى ما ملكت يمينه أم هي إحدى أمهات المؤمنين ؟ فقالوا : ننظر ، فإذا حجبها فهي إحدى أمهات المؤمنين وإذا لم يحجبها فهي ما ملكت يمينه ، فلما بنى بها ضرب عليها الحجاب ، فعلموا أنها إحدى أمهات المؤمنين ، ولذلك لم تكن مارية القبطية إحدى أمهات المؤمنين .
ويشترط في اعتبار هذه الأمومة أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم بنى بالمرأة ، فأما التي طلقها قبل البناء مثل الجَونية وهي أسماء بنت النعمان الكِندية فلا تعتبرمن أمهات المؤمنين .
وذكر ابن العربي أن امرأة كان عقد عليها النبي صلى الله عليه وسلم تزوجت في خلافة عمر فهَمَّ عمر برجمها . فقالت : لِمَ وما ضرَب عليّ النبي حجاباً ولا دُعيت أمَّ المؤمنين ؟ فكفَّ عنها . وهذه المرأة هي ابنة الجَون الكندية تزوجها الأشعث بن قيس . وهذا هو الأصح وهو مقتضى مذهب مالك وصححه إمام الحرمين والرافعي من الشافعية . وعن مقاتل : يحرم تزوج كل امرأة عقد عليها النبي صلى الله عليه وسلم ولو لم يبن بها . وهو قول الشافعي وصححه في « الروضة » ، واللآء طلّقهنُ الرسول عليه الصلاة والسلام بعد البناء بهن فاختلف فيهن على قولين ، قيل : تثبت حرمة التزوج بهن حفظاً لحرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل : لا يثبت لهن ذلك ، والأول أرجح . وقد أُكد حكم أمومة أزواج النبي صلى الله عليه وسلم للمؤمنين بقوله تعالى : { وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب } [ الأحزاب : 53 ] ، وبتحريم تزوج إحداهن على المؤمنين بقوله ( تعالى ) : { ولا أن تنكِحوا أزواجه من بعده أبداً إن ذلكم كان عند الله عظيماً } [ الأحزاب : 53 ] . وسيجيء بيان ذلك عند ذكر هاتين الآيتين في أواخر هذه السورة .
وروي أن ابن مسعود قرأ بعدها : وهو أب لهم . وروي مثله عن أُبَيّ بن كعب وعن ابن عباس . وروي عن عكرمة : كان في الحرف الأول « وهو أبوهم » .
ومحملها أنها تفسير وإيضاح وإلا فقد أفاد قوله تعالى : { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم } أكثر من مفاد هذه القراء .
{ وَأُوْلُو الارحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِى كتاب الله مِنَ المؤمنين والمهاجرين إِلاَّ أَن تفعلوا إلى أَوْلِيَآئِكُمْ مَّعْرُوفاً كَانَ ذَلِكَ فِى الكِتَابِ مَسْطُوراً }
أعقب نسخ أحكام التبنّي التي منها ميراث المتبنِّي مَن تبناه والعكس بإبطال نظيره وهو المَواخاة التي كانت بين رجال من المهاجرين مع رجال من الأنصار وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لمّا نزل بالمدينة مع من هاجر معه ، جعل لكل رجل من المهاجرين رجلاً أخاً له من الأنصار فآخى بين أبي بكر الصديق وبين خارجة بن زيد ، وبين الزبير وكعب بن مالك ، وبين عبد الرحمان بن عوف وسعد بن الربيع ، وبين سلمان وأبي الدرداء ، وبين عثمان بن مظعون وأبي قتادة الأنصاري ؛ فتوارث المتآخون منهم بتلك المؤاخاة زماناً كما يرث الإخوة ثم نسخ ذلك بهذه الآية ، كما نسخ التوارث بالتبنّي بآية { ادعوهم لآبائهم } [ الأحزاب : 5 ] ، فبينت هذه الآية أن القرابة هي سبب الإرث إلا الانتساب الجعلي .
فالمراد بأولي الأرحام : الإخوة الحقيقيون . وعبر عنهم بأولي الأرحام لأن الشقيق مقدم على الأخ للأب في الميراث وهم الغالب ، فبينت الآية أن أُولي الأرحام بعضهم أولى ببعض في الميراث من ولاية المتآخين المهاجرين والأنصار فعمَّ هذا جميع أولي الأرحام وخُصص بقوله { من المؤمنين والمهاجرين } على أحد وجهين في الآيتين في معنى { مِن } وهو بمنزلة العام الوارد على سبب خاص وهو مطلق في الأولوية والمطلق من قبيل المجمل ، وإذ لم يكن معه بيان فمحمل إطلاقه محمل العموم ، لأن الأولوية حال من أحوال أولي الأرحام وعموم الأشخاص يستلزم عموم الأحوال ، فالمعنى : أن أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض في جميع الولايات إلا ما خصصه أو قيَّده الدليل .
والآية مبيّنة في أن القرابة الحقيقية أرجح من الأخوة الجعلية ، وهي مجملة في تفصيل ذلك فيما بين أولي الأرحام ، وذلك مفصل في الكتاب والسنة في أحكام المواريث . وتقدم الكلام على لفظ { أولوا } عند قوله تعالى { واتقون يا أولي الألباب } في سورة البقرة ( 197 ) .
ومعنى { في كتاب الله } فيما كتبه ، أي : فرضه وحكم به . ويجوز أن يراد به القرآن إشارة إلى ما تضمنته آية المواريث ، وقد تقدم نظير هذه الآية في آخر سورة الأنفال . وتقدم الكلام في توريث ذوي الأرحام إن لم يكن للميت وارث معلوم سهمه .
و { أولوا الأرحام } مبتدأ ، و { بعضهم } مبتدأ ثان و { أوْلَى } خبرُ الثاني والجملة خبر المبتدأ الأول ، و { في كتاب الله } متعلق ب { أوْلى } .
وقوله { من المؤمنين والمهاجرين } يجوز أن يتعلق باسم التفضيل وهو { أولى } فتكون { مِن } تفضيلية . والمعنى : أولوا الأرحام أولى بإرث ذوي أرحامهم من إرث أصحاب ولاية الإيمان والهجرة بتلك الولاية ، أي : الولاية التي بين الأنصار والمهاجرين . وأريد بالمؤمنين خصوصُ الأنصار بقرينة مقابلته بعطف { والمهاجرين } على معنى أصحاب الإيمان الكامل تنويهاً بإيمان الأنصار لأنهم سبقوا بإيمانهم قبل كثير من المهاجرين الذين آمنوا بعدهم فإن الأنصار آمنوا دَفعة واحدة لمّا أبلغهم نقباؤهم دعوة محمد صلى الله عليه وسلم إياهم بعد بيعة العقبة الثانية . قال تعالى : { والذين تبوّءوا الدار والإيمان من قبلهم } [ الحشر : 9 ] أي : من قبل كثير من فقراء المهاجرين عدا الذين سبق إيمانهم . فالمعنى : كل ذي رحم أولى بإرث قريبه من أن يرثه أنصاري إن كان الميت مهاجراً ، أو أن يرثه مهاجر إن كان الميت من الأنصار ، فيكون هذا ناسخاً للتوارث بالهجرة الذي شرع بآية الأنفال ( 72 ) : { والذين ءامنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولاَيَتهم من شيء حتى يهاجروا } فتوارث المسلمون بالهجرة فكان الأعرابي المسلم لا يرث قريبه المهاجر ، ثم نسخ بآية هذه السورة . ويجوز أن يكون قوله { من المؤمنين } ظرفاً مستقرّاً في موضع الصفة ، أي : وأولوا الأرحام الكائنون من المؤمنين والمهاجرين ، بعضهم أولى ببعض ، أي : لا يرث ذو الرحم ذا رحمه إلا إذا كانا مؤمنيْن ومهاجرين ، فتكون الآية ناسخة للتوارث بالحلف والمؤاخاة الذي شرع عند قدوم المهاجرين إلى المدينة ، فلما نزلت هذه الآية رجعوا إلى مواريثهم فبينت هذه الآية أن القرابة أولى من الحلف والمواخاة ، وأيّاً مَّا كان فإن آيات المواريث نسخت هذا كله . ويجوز أن تكون { من } بيانية ، أي : وأولوا الأرحام المؤمنون والمهاجرون ، أي : فلا يرث أولوا الأرحام الكافرون ولا يرث من لم يهاجر من المؤمنين لقوله تعالى : { والذين كَفَروا بعضُهم أولياء بعض } [ الأنفال : 73 ] ثم قال : { والذين ءامنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا } [ الأنفال : 72 ] .
والاستثناء بقوله { إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفاً } منقطع ، و { إلا } بمعنى ( لكنْ ) لأن ما بعد { إلا } ليس من جنس ما قبلها فإن الأولوية التي أثبتت لأولي الأرحام أولوية خاصة وهي أولوية الميراث بدلالة السياق دون أولوية حسن المعاشرة وبذل المعروف . وهذا استدراك على ما قد يتوهم من قطع الانتفاع بأموال الأولياء عن أصحاب الولاية بالإخاء والحلف فبين أن الذي أُبطل ونسخ هو انتفاع الإرث وبَقي حكم المواساة وإسداء المعروف بمثل الإنفاق والإهداء والإيصاء .
وجملة { كان ذلك في الكتاب مسطوراً } تذييل لهذه الأحكام وخاتمة لها مؤذنة بانتهاء الغرض من الأحكام التي شُرعت من قوله { ادعوهم لآبائهم } [ الأحزاب : 5 ] إلى هنا ، فالإشارة بقوله { ذلك } إلى المذكور من الأحكام المشروعة فكان هذا التذييل أعمّ مما اقتضاه قوله { بعضهم أوْلَى ببعض في كتاب الله } . وبهذا الاعتبار لم يكن تكريراً له ولكنه يتضمنه ويتضمن غيره فيفيد تقريره وتوكيده تبعاً وهذا شأن التذييلات .
والتعريف في { الكِتَاب } للعهد ، أي : كتاب الله ، أي : ما كتبه على الناس وفرضه كقوله { كتابُ الله عليكم } [ النساء : 24 ] ، فاستعير الكتاب للتشريع بجامع ثبوته وضبطه التغيير والتناسي ، كما قال الحارث بن حلزة :
حذر الجور والتطاخي وهل ين *** قض ما في المهارق الأهواء
ومعنى هذا مثل قوله تعالى : { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله } في سورة الأنفال ( 75 ) . فالكتاب : استعارة مكنية وحرف الظرفية ترسيخ للاستعارة .
والمسطور : المكتوب في سطور ، وهو ترشيح أيضاً للاستعارة وفيه تخييل للمكنية .
وفعل كان } في قوله { كان ذلك } لتقوية ثبوته في الكتاب مسطوراً ، لأن { كان } إذا لم يقصد بها أن اسمها اتصف بخبرها في الزمن الماضي كانت للتأكيد غالباً مثل { وكان الله غفوراً رحيماً } [ الأحزاب : 4 ] أي : لم يزل كذلك .