ثم قال - تعالى { وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون } .
والمضاف إلى كل هنا محذوف عوض عنه التنوين . والتقدير ولكل إنسان أو لكل قوم أو لكل من مات ، أو لكل من الرجال والنساء .
والموالى : جمع مولى . لفظ مشترك بين معان ، فيقال للسيد المعتق لعبده مولى ، لأنه ولى نعمته فى عتقه له . ويقال للعبد العتيق مولى لاتصال ولاية مولاه فى إنعامه عليه كما يقال لكل من الحليف والنصير والقريب مولى . ويقال لعصبة الشخص موالى .
قال الفخر الرازى : والمراد بالموالى هنا العصبة . ويؤكد ذلك ما رواه أبو صالح عن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أنا أولى بالمؤمنين . من مات وترك مالا فماله للموالى العصبة . ومن ترك كلا فأنا وليه " وقال - عليه الصلاة والسلام - " اقسموا هذا المال فما أبقت السهام فلأولى عصبة ذكر " .
هذا ، وللمفسرين فى تأويل هذه الآية الكريمة أقوال متعددة منها أن المعنى :
1- ولكل واحد من الرجال والنساء جعلنا ورثة عصبة ، يرثون مما تركه الوالدان والأقربون من المال .
2- أو المعنى : ولكل من مات من الرجال والنساء جعلنا مالى أى ورثة يقتسمون تركته عن طريق الإِرث ، ولا حق للحليف فيها لأنه ليس من عصبة هذا الميت .
3- أو المعنى : ولكل مال مما تركه الوالدان والأقربون جعلنا موالى أى ورثة يلونه ويجوزونه بعد أن يأخذ أصحاب الفروض نصيبهم .
وعلى هذه الوجوه يكون الوالدان والأقربون هم الذين يرثهم غيرهم من مواليهم أى عصبتهم .
4- قال الفخر الرازى : ويمكن أن تفسر الآية بحيث يكون الوالدان والأقربون هم الورثة ، فيكون المعنى :
ولكل واحد جعلنا ورثة فى تركته . ثم كأنه قيل : ومن هؤلاء الورثة ؟ فقيل . هم الوالدان والأقربون . وعلى هذا الوجه لا بد من الوقف عند قوله { مِمَّا تَرَكَ } :
هذا وتفسير الآية الكريمة بحيث يكون الوالدان والأقربون هم الذين يرثهم غيرهم من عصبتهم هو الأولى ، لأنه هو الظاهر فى معنى الآية ، وعليه سار جمهور المفسرين ، فقد قال ابن جرير : " فالموالى ها هنا : الورثة . ويعنى بقوله { مِمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون } مما تركه والداه وأقرباؤه من الميراث . فتأويل الكلام ، ولكل منكم أيها الناس جعلنا عصبة يرثون مما ترك والداه وأقرباؤه من ميراثهم .
وقال صاحب الكشاف : قوله { مِمَّا تَرَكَ } تبين لكل . أى : ولكل شئ مما ترك الوالدان والأقربون من المال جعلنا موالى أى ورثة يلونه ويحرزونه ، أو ولكل قوم جعلناهم موالى نصيب مما ترك الوالدان والأقربون . على أن { جَعَلْنَا مَوَالِيَ } صفة لكل ، والضمير الراجع إلى كل محذوف ، والكلام مبتدأ أو خبر . كما تقول : لكل من خلقه الله إنسانا من رزق الله . أى حظ من رزق الله .
وقال القرطبى : بين الله - تعالى - أن لكل إنسان ورثة وموالى ، فلينتفع كل واحد بما قسم الله له من الميراث ولا يتمن مال غيره .
وقوله { والذين عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } جملة من مبتدأ وخبر . وجئ بالفاء فى الخبر وهو قوله { فَآتُوهُمْ } لتضمن المبتدأ معنى الشرط .
وقوله { عَقَدَتْ } من العقد وهو الشد والربط والتوكيد والتغليظ ، ومنه قولهم : عقد العهد يعقده ، أى : شدة وأكده .
والأيمان : جمع يمين والمراد به هنا أيديهم اليمنى ، وإسناد العقد إليها على سبيل المجاز ، لأنهم كانوا عندما يؤثقون عقدا يضع كل واحد منهم يده فى يد الآخر ، ليكون ذلك علامة على انبرام العقد وتأكيده . ومن هنا قيل للعقود الصفقات لأن كل عاقد يصفق بيمنه على يميمن الآخر .
ويصح أن يكون المراد بالأيمان هنا الأقسام التى كانوا يقسمونها ويحلفونها عند التعاقد على شئ يهمهم أمره .
وقد قرأ عصام وحمزة والكسائى { عقدت أيمانكم } وقرأ الياقون { عاقدت أيمانكم } وعلى كلتا القراءتين فالمفعول محذوف أى والذين عقدت حلفهم أيمانكم أو عاقدتهم أيمانكم .
وللعلماه فى المرد بقوله { والذين عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ } أقوال منها :
1- أن المراد بهم الحلفاء وهم موالى الموالاة وكان لهم نصيب من الميراث ثم نسخ ، وقد ورد فى ذلك آثار منها ما أخرجه ابن جرير وغيره من قتادة قال : قوله تعالى - : { والذين عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } كان الرجل يعاقد الرجل فى الجاهلية فيقول : دمى دمك ، وهدمى هدمك . . أى مهدومى مهدومك وترثنى وأرثك ، وتلطب بى وأطلب بك ، فجعل له السدس من جميع المال في الإِسلام ، ثم يقسم أهل الميراث ميراثهم .
فنسخ ذلك بعد فى سورة الأنفال فقال الله - تعالى - { وَأْوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ الله } 2- ويرى بعضهم أن المراد بهم الأدعياء وهم الأبناء بالتبنى ، وكانوا يتوارثون بسبب ذلك ، ثم نسخه بآية سورة الأنفال السابقة .
3- ويرى فريق ثالث أن المراد بهم إخوان المؤاخاة ، فقد كان النبى صلى الله عليه وسلم يؤاخى بين الرجلين من أصحابه وكانت تلك المؤاخاة سببا فى التوارث ثم نسخ ذلك بآية الآنفال السابقة .
4- وقال أبو مسلم الأصفهانى : المراد بهم الأزواج ، إذ النكاح يسمى عقدا .
والذى نراه أولى هو القول الأول لكثرة الآثار التى تؤيده ، ولأنه هو الذى رجحه جمهور المفسرين ، وعليه يكون المعنى : والذين عقدت حلفهم أيمانكم وهو الذين تحالفتم معهم على التناصير وغيره { فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } أى فأعطوهم نصيبهم من الميراث وفاء بالعقود والعهود .
قال ابن جرير عند تفسيره لهذه الآية الكريمة . وأولى الأقوال بالصواب فى تأويل قوله - تعالى - { والذين عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } قول من قال : والذين عقدت أيمانكم على المحالفة ، وهم الحلفاء ، وذلك أنه معلوم عند جميع أهل العلم بأيام العرب وأخبارها : أن عقد الحلف بينها كان يكون بالأيمان والعهود والمواثيق على نحو ما قد ذكرنا من الروايات فى ذلك .
وقال ابن كثير : وقوله { والذين عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } أى والذين تحالفتم بالأيمان المؤكدة أنتم وهم فآتوهم نصيبهم من الميراث كما وعدتموهم فى الأيمان المغلظة ، إن الله شاهد بينكم فى تلك العقود والمعاهدات . وقد كان هذا فى ابتداء الإِسلام ثم نسخ بعد ذلك ، وأمروا أن يوفوا من عاقدوا ولا ينشئوا بعد نزول هذه الآية معاقدة .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله { إِنَّ الله كَانَ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً } أى إن الله - تعالى - كان وما زال عالما بجميع الأشياء ، ومطلعا على جبلها وخفيها ، وسيجازى الذين يتمسكون بشريعته بما يستحقون من ثواب . وسيجازى الذين يتمسكون بشريعته بما يستحقون من ثواب . وسيجازى الذين ينحرفون عنها بما يستحقون من عقاب .
فالجملة الكريمة تذييل قصد به الوعد لمن أطاع الله والوعيد لمن عصاه .
«كل » إنما تستعمل مضافة ظهر المضاف إليه أو تقدر ، فهي بمثابة قبل وبعد ، ولذلك أجاز بعض النحاة مررت بكل ، على حد قبل وبعد ، فالمقدر هنا على قول فرقة ، ولكل أحد وعلى قول فرقة «ولكل شيء » يعني : التركة ، والمولى في كلام العرب : لفظة يشترك فيها القريب القرابة ، والصديق ، والحليف ، والمعتَق ، والمعتِق ، والوارث ، والعبد ، فيما حكى ابن سيده ، ويحسن هنا من هذا الاشتراك الورثة ، لأنها تصلح على تأويل «ولكل أحد » ، وعلى تأويل ، «ولكل شيء » وبذلك فسر قتادة والسدي وابن عباس وغيرهم : أن «الموالي » : العصبة والورثة ، قال ابن زيد : لما أسلمت العجم سموا موالي استعارة وتشبيهاً ، وذلك في قول الله تعالى : { فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم }{[3992]} .
قال القاضي أبو محمد : وقد سمي قوم من العجم ببني العم ، و { مما } متعلقة «بشيء » ، تقديره ولكل شيء مما ترك الوالدان والأقربون جعلنا ورثة ، وهي متعلقة على تأويل «ولكل أحد » بفعل مضمر تقديره : ولكل أحد جعلنا موالي يرثون مما ترك الوالدان والأقربون ، ويحتمل على هذا أن تتعلق «من » ب { موالي } ، وقوله : { والذين } رفع بالابتداء والخبر في قوله : { فآتوهم } وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمر وابن عامر «عاقدت » على المفاعلة أي : أيمان هؤلاء عاقدت أولئك ، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي «عقَدت » بتخفيف القاف على حذف مفعول ، تقديره : عقدت إيمانكم حلفهم أو ذمتهم ، وقرأ حمزة في رواية على ابن كيشة{[3993]} عنه «عقّدت » مشددة القاف ، واختلف المتأولون في من المراد ب { الذين } ، فقال الحسن وابن عباس وابن جبير وقتادة وغيرهم : هم الأحلاف ، فإن العرب كانت تتوارث بالحلف فشدد الله ذلك بهذه الآية ، ثم نسخه بآية الأنفال { وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله }{[3994]} وقال ابن عباس أيضاً : هم الذين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم آخى بينهم ، فإنهم كانوا يتوارثون بهذه الآية حتى نسخ ذلك بما تقدم .
قال القاضي أبو محمد : وورد لابن عباس : أن المهاجرين كانوا يرثون الأنصار دون ذوي رحمهم ، للأخوة التي آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم ، فنزلت الآية في ذلك ناسخة ، وبقي إيتاء النصيب من النصر والمعونة ، أو من المال على جهة الندب في الوصية ، وقال سعيد بن المسيب : هم الأبناء الذين كانوا يتبنون ، والنصيب الذي أمر الناس بإيتائه هو الوصية لا الميراث ، وقال ابن عباس أيضاً : هم الأحلاف إلا أن النصيب هو المؤازرة في الحق والنصر والوفاء بالحلف لا الميراث ، وروي عن الحسن : أنها في قوم يوصى لهم فيموت الموصى له قبل نفوذ الوصية ووجوبها فأمر الموصي أن يؤديها إلى ورثة الموصى له .
قال القاضي أبو محمد : ولفظة المعاقدة والأيمان ترجح أن المراد الأحلاف لأن ما ذكر من غير الأحلاف ليس في جميعه معاقدة ولا أيمان ، و { شهيداً } معناه : أن الله شهيد بينكم على المعاقدة والصلة ، فأوفوا بالعهد بحسب ذلك مراقبة ورهبة .
الجملة معطوفة على جملة { ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض } [ النساء : 32 ] باعتبار كونه جامعاً لمعنى النهي عن الطمع في مال صاحب المال ، قُصد منها استكمال تبيين من لهم حقّ في المال .
وشأنُ ( كُلّ ) إذا حذف ما تضاف إليه أن يعوّض التنوين عن المحذوف ، فإن جرى في الكلام ما يدلّ على المضاف إليه المحذوف قُدّر المحذوف من لفظه أو معناه ، كما تقدم في قوله تعالى : { ولكل وجهة } في سورة البقرة ( 148 ) ، وكذلك هنا فيجوز أن يكون المحذوف ممّا دلّ عليه قوله - قبله - { للرجال نصيب وللنساء نصيب } [ النساء : 7 ] فيقدّر : ولكلّ الرجال والنساء جعلنا موالَي ، أو لكلّ تاركٍ جعلنا موالي .
ويجوز أن يقدّر : ولكلّ أحد أو شيء جعلنا موالي .
والجعل من قوله : { جعلنا } هو الجعل التشريعي أي شَرعْنا لكلّ موالي لهم حقّ في ماله كما في قوله تعالى : { فقد جعلنا لوليه سلطانا } [ الإسراء : 33 ] .
والموالي جمعُ مَولى وهو محلّ الوَلْيِ ، أي القرب ، وهو مَحلّ مجازي وقرب مجازي . والولاء اسم المصدر للوَلْي المجازي .
وفي نظم الآية تقادير جديرة بالاعتبار ، وجامعة لمعان من التشريع :
الأوّل : ولِكلّ تاركٍ ، أي تارك مالا جعلنا موالي ، أي أهل ولاء له ، أي قرب ، أي ورثة . ويتعلّق { مما ترك } بما في موالي من معنى يَلُونه ، أي يرثونه ، ومِن للتبعيض ، أي يرثون ممّا ترك . وما صدق ( ما ) الموصولة هو المال ، والصلة قرينة على كون المراد بالموالي الميراث ، وكون المضاف إليه ( كلّ ) هو الهالك أو التارك . { ولكل } متعلّق ب ( جعلنا ) ، قدّم على متعلّقه للاهتمام .
وقوله : { الوالدان } استئناف بياني بيّن به المراد في ( موالي ) ، ويصلح أن يبيّن به كلّ المقدّر له مضاف . تقديره : لكلّ تارك . وتبيين كلا اللفظين سواءٌ في المعنى ، لأنّ التارك : والد أو قريب ، والموالي : والدون أو قرابة . وفي ذِكر { الوالدان } غنية عن ذكر الأبناء لتلازمهما ، فإن كان الوالدان من الورثة فالهالك ولد وإلاّ فالهالك والد . والتعريف في { الوالدان والأقربون } عوض عن مضاف إليه أي : والداهم وأقربوهم ، والمضاف إليه المحذوفُ يدلّ عليه الموالي ، وهذا التقدير يناسب أن يكون ناشئاً عن قوله : { للرجال نصيب مما اكتسبوا } [ النساء : 32 ] ، أي ولكلّ من الصنفين جعلنا موالي يرثونه ، وهو الجَعل الذي في آيات المواريث .
والتقدير الثاني : ولكلّ شيء ممّا تركه الوالدان والأقربون جعلنا موالي ، أي قوماً يلونه بالإرث ، أي يرثونه ، أي يكون تراثاً لهم ، فيكون المضاف إليه المحذوف اسماً نكرة عامّا يبيّن نوعه المقام ، ويكون { مما ترك } بيانا لما في تنوين ( كلّ ) من الإبهام ، ويكون { والأقربون } فاعلا ( لتَرَك ) .
وهذا التقدير يناسب أن يكون ناشئاً عن قوله : { ما فضل الله به بعضكم على بعض } [ النساء : 32 ] أي في الأموال ، أي ولكلّ من الذين فضّلنا بعضهم على بعض جعلنا موالي يؤول إليهم المال ، فلا تتمنّوا ما ليس لكم فيه حقّ في حياة أصحابه ، ولا ما جعلناه للموالي بعد موت أصحابه .
التقدير الثالث : ولكلّ منكم جعلنا موالي ، أي عاصبين من الذين تركهم الوالدان ، مثل الأعمام والأجداد والأخوالِ ، فإنّهم قرباء الأبوين ، وممّا تركهم الأقربون مثل أبناء الأعمام وأبنائهم وإن تعدّدوا ، وأبناء الأخوات كذلك ، فإنّهم قرباء الأقربين ، فتكون الآية مشيرة إلى إرجاع الأموال إلى العصبة عند الجمهور ، وإلى ذوي الأرحام عند بعض الفقهاء ، وذلك إذا انعدم الورثة الذين في آية المواريث السابقة ، وهو حكم مجمل بيّنه قول النبي صلى الله عليه وسلم « ألْحِقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأوْلى رجلٍ ذكر » وقوله : « ابن أخت القوم منهم أو من أنفسهم » رواه أبو داود والنسائي ، وقوله : « الخال وارثُ من لا وارث له » أخرجه أبو داود والترمذي ، وقوله تعالى : { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله } [ الأنفال : 75 ] ، وبذلك أخذ أبو حنيفة ، وأحمد ، وعليه ف ( ما ) الموصولة في قوله : { مما ترك } بمعنى ( من ) الموصولة ، ولا بدع في ذلك . وهذا التقدير يناسب أن يكون ناشئاً عن قوله تعالى بعد آية المواريث { تلك حدود الله } [ البقرة : 187 ] فتكون تكملة لآية المواريث .
التقدير الرابع : ولكلّ منكم أيّها المخاطبون بقولنا : { ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض } [ النساء : 32 ] جعلنا موالي ، أي شَرَعْنا أحكام الولاء لمن هم موال لكم ، فحكم الولاء الذي تركه لكم أهاليكم : الوالدان والأقربون ، أي أهل الولاء القديم في القبيلة المنجرّ من حلف قديم ، أو بحكم الولاء الذي عاقدتْه الأيمان ، أي الأحلاف بينكم وبينهم أيّها المخاطبون ، وهو الولاء الجديد الشامل للتبنّي المحدث ، وللحلف المحدث ، مثل المؤاخاة التي فرضها النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار . فإنّ الولاء منه ولاء قديم في القبائل ، ومنه ما يتعاقد عليه الحاضرون ، كما اشار إليه أبو تمّام .
أعطيت لي دية القتيل وليس لي *** عقل ولا حلف هناك قَدِيمُ
وعلى هذا التقدير يكون { والذين عاقدت أيمانكم } معطوفة على { الوالدان والأقربون } وهذا التقدير يناسب أن يكون ناشئاً عن قوله تعالى : { تلك حدود الله } [ البقرة : 187 ] فتكون هذه الآية تكملة لآيات المواريث .
وللمفسّرين تقادير أخرى لا تلائم بعض أجزاء النظم إلا بتعسّف فلا ينبغي التعريج عليها .
وقوله : { والذين عاقدت أيمانكم } قيل معطوف على قوله : { الوالدان والأقربون } ، وقيل هو جملة مستأنفة استئنافاً بيانياً ، كأنّه قيل : من هم الموالي ؟ فقيل : { الوالدان والأقربون } الخ ، على أنّ قوله : { فأتاهم نصيبهم } خبر عن قوله : { والذين عاقدت } . وأدخلت الفاء في الخبر لتضمّن الموصول معنى الشرط ، ورجّح هذا بأنّ المشهور أنّ الوقت على قوله : { والأقربون } وليس على قوله : { أيمانكم } . والمعاقدة : حصول العقد من الجانبين ، أي الذين تعاقدتم معهم على أن يكونوا بمنزلة الأبناء أو بمنزلة الإخْوَة أو بمنزلة أبناء العمّ .
والأيمان جمع يَمين : إمّا بمعنى اليد ، أسند العقد إلى الأيدي مجازاً لأنّها تقارن المتعاقديِن لأنّهم يضعون أيدي بعضهم في أيدي الآخرين ، علامة على انبرام العقد ، ومن أجل ذلك سمّي العقد صَفقة أيضاً ؛ لأنّه يصفّق فيه اليَدُ على اليد ، فيكون من باب { أو ما ملكت أيمانكم } [ النساء : 3 ] ؛ وإمَّا بمعنى القَسَم لأنّ ذلك كان يَصحبه قَسَم ، ومن أجل ذلك سمّي حِلْفا ، وصاحبه حَليفاً . وإسناد العقد إلى الأيمان بهذا المعنى مجاز أيضاً ؛ لأنّ القسم هو سبب انعقاد الحلف .
والمراد ب { الذين عاقَدَتْ أيمانكم } : قيل موالي الحلف الذي كان العرب يفعلونه في الجاهلية ، وهو أن يَحالف الرجل الآخر فيقول له « دمي دَمُك وهَدْمي هَدْمُك أي إسقاط أحدهما للدم الذي يستحقّه يمضي على الآخر وثَأرِي ثَأرُكَ وحَرْبي حَرْبُك وسلْمي سلْمُك وترثني وأرثك وتطلب بي وأطلب بك وتعقل عنّي وأعقل عنك » . وقد جمع هذين الصنفين من الموالي الحُصَين بن الحُمَاممِ من شعراء الحماسة في قوله :
مواليكمُ مولَى الوِلاَدَةِ منكمُ . . . ومولَى اليمين حَابِس قد تُقِسِّمَا
قيل : كانوا جعلوا للمولى السدس في تركة الميت ، فأقرّته هذه الآية ، ثم نسختها آية الأنفال : { وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله } [ الأنفال : 75 ] قاله ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، وابن جبير ، ولعلّ مرادهم أنّ المسلمين جعلوا للمولَى السدس وصية لأنّ أهل الجاهلية لم تكن عندهم مواريث معيّنة . وقيل : نزلت هذه الآية في ميراث الإخوة الذين آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهم من المهاجرين والأنصار في أول الهجرة ، فكانوا يتوارثون بذلك دون ذوي الأرحام ، ثم نسخ الله ذلك بآية الأنفال ، فتكون هذه الآية منسوخة . وفي أسباب النزول للواحدي ، عن سعيد بن المسيّب ، أنّها نزلت في التبنّي الذي كان في الجاهلية ، فكان المتبنَّي يرث المتبنِّي ( بالكسر ) مثل تبنّي النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة الكلبي ، وتبنّي الأسود بن عبد يغوث المقداد الكَندي ، المشهور بالمقداد بن الأسود ، وتبنّي الخطاب بن نُفَيل عامراً بنَ ربيعة ، وتبنّي أبي حُذيفة بن عتبة بن ربيعة سالماً بن معقل الأصطخري ، المشهور بسالمٍ مولى أبي حذيفة ، ثم نسخ بالمواريث . وعلى القول بأنّ { والذين عاقدت أيمانكم } جملة مستأنفة فالآية غير منسوخة ؛ فقال ابن عباس في رواية ابن جبير عنه في « البخاري » هي ناسخة لتوريث المتآخِين من المهاجرين والأنصار ، لأنّ قوله : { مما ترك الوالدان والأقربون } حَصَر الميراث في القرابة ، فتعيّن على هذا أنّ قوله : { فأتوهم نصيبهم } أي نصيب الذين عاقدت أيمانُكم من النصر والمعونة ، أو فآتوهم نصيبهم بالوصية ، وقد ذهب الميراث . وقال سعيد بن المسيّب : نزلت في التبنّي أمراً بالوصية للمتبنَّى . وعن الحسن أنّها في شأن الموصَى له إذا مات قبل موت المُوصي أن تجعل الوصية لأقاربه لزوماً .
وقرأ الجمهور : { عاقدت } بألف بعد العين . وقرأه حمزة ، وعاصم ، والكسائي ، وخلف : { عَقَدَتْ بدون ألف ومع تخفيف القاف .
والفاءُ في قوله : { فأتوهم نصيبهم } فاءُ الفصيحةِ على جعل قوله : { والذين عاقدت أيمانكم } معطوفاً على { الوالدان والأقربون } ، أو هي زائدة في الخبر إن جعل { والذين عقدت } مبتدأً على تضمين الموصول معنى الشرطية . والأمر في الضمير المجرور على الوجهين ظاهر .