التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{۞وَإِن تَعۡجَبۡ فَعَجَبٞ قَوۡلُهُمۡ أَءِذَا كُنَّا تُرَٰبًا أَءِنَّا لَفِي خَلۡقٖ جَدِيدٍۗ أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمۡۖ وَأُوْلَـٰٓئِكَ ٱلۡأَغۡلَٰلُ فِيٓ أَعۡنَاقِهِمۡۖ وَأُوْلَـٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ} (5)

وبعد هذا الحديث المتنوع عن مظاهر قدرة الله في خلقه ، ساق - سبحانه - بعض أقوال المشركين الفاسدة ، ورد عليها بما يدحضها فقال - تعالى - :

{ وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً أَإِنَّا لَفِي . . . } .

قال القرطبى : قوله - تعالى - : { وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ } أى : إن تعجب يا محمد من تكذيبهم لك بعدما كنت عندهم الصادق الأمين . فأعجب منه تكذيبهم بالبعث - لأن من شاهد ما عدد - سبحانه - من الآيات الدالة على قدرته . أيقن بأن من قدر على إنشائها ، كانت الإِعادة أهون شئ عليه وأيسره ، والله - تعالى - لا يتعجب ، ولا يجوز عليه التعجب ، لأنه - أى التعجب - تغير النفس بما تخفى أسبابه ، وذلك في حقه - تعالى - محال ، وإنما ذكر ذلك ليتعجب منه نبيه والمؤمنون .

وجوز بعضهم أن يكون الخطاب لكل من يصلح له ، أى : وإن تعجب أيها العاقل لشئ بعد أن شاهدت من مظاهر قدرة الله في هذا الكون ما شاهدت فازدد تعجبا ممن ينكر بعد كل هذا قدرته - سبحانه - على إحياء الموتى .

قال الجمل : وقوله { فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ } فيه وجهان : أحدهما أنه خبر مقدم وقولهم مبتدأ مؤخر ، ولا بد من حذف صصفة لتتم الفائدة ، أى : فعجب أى عجب قولهم . أو فعجب غريب قولهم . والثانى أنه مبتدأ ، وسوغ الابتداء ما ذكرته من الوصف المقدر ، ولا يضر حينئذ كون معرفة .

والتنكير في قوله { فعجب } للتهويل والتعظيم .

وجملة { أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } في محل نصب مقول القول .

أى : وإن تعجب من شئ - أيها الرسول الكريم - فاعجب من قول أولئك المشركين : أئذا صرنا ترابا وعظاما نخرة بعد موتنا أئنا بعد ذلك لنعاد إلى الحياة مرة أخرى من جديد .

والاستفهام للإِنكار ، لاستبعادهم الشديد إعادتهم إلى الحياة مرة أخرى لمحاسبتهم على أعمالهم ، كما حكى القرآن عنهم قولهم في آية أخرى : { أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ } وكرر همزة الاستفهام في { أئذا } ، { وأئنا } لتأكيد هذا الإنكار .

ثم بين - سبحانه - بعد ذلك جزاءهم على هذا القول الباطل فقال - تعالى - { أولئك الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ . . . }

أى : أولئك المنكرون لقدرة الله - تعالى - على البعث ، هم الذين كفروا بربهم { وَأُوْلَئِكَ الأغلال في أَعْنَاقِهِمْ } والأغلال : جمع غل . وهو قيد من حديد تشد به اليد إلى العنق ، وهو أشد أنواع القيود .

أى : وأولئك هم الذين توضع الأغلال والقيود في أيديهم وأعناقهم يوم القيامة ، عندما يساقون إلى النار بذلة وقهر ، بسبب إنكارهم لقدرة الله على إعادتهم إلى الحياة ، وبسبب جحودهم لنعم خالقهم ورازقهم .

قال - تعالى - : { إِذِ الأغلال في أَعْنَاقِهِمْ والسلاسل يُسْحَبُونَ . فِي الحميم ثُمَّ فِي النار يُسْجَرُونَ } وقيل إن الجملة الكريمة تمثيل لحالهم في الدنيا ، حيث شبه - سبحانه - امتناعهم عن الإِيمان ، وعدم التفاتهم إلى الحق ، بحال قوم في أعناقهم قيود لا يستطيعون معها التفاتا أو تحركاً .

والأول أولى لأن حمل الكلام على الحقيقة واجب ، ما دام لا يوجد مانع يمنع منه ، وهنا لا مانع ، بل صريح القرآن يشهد له .

وقوله : { وأولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدونَ } أى : وأولئك الموصوفون بما ذكر ، هم أصحاب النار التي لا ينفكون عنها . ولا يخرجون منها .

وكرر - سبحانه - اسم الإِشارة ، للتنبيه على أنهم أحرياء بما سيرد بعده من عقوبات .

وجاء به للبعيد ، للإِشارة إلى بعد منزلتهم في الجحود والضلال .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{۞وَإِن تَعۡجَبۡ فَعَجَبٞ قَوۡلُهُمۡ أَءِذَا كُنَّا تُرَٰبًا أَءِنَّا لَفِي خَلۡقٖ جَدِيدٍۗ أُوْلَـٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمۡۖ وَأُوْلَـٰٓئِكَ ٱلۡأَغۡلَٰلُ فِيٓ أَعۡنَاقِهِمۡۖ وَأُوْلَـٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ} (5)

هذه آية توبيخ للكفرة أي «وإن تعجب » يا محمد من جهالتهم وإعراضهم عن الحق - فهم أهل لذلك ، وعجب وغريب ومزر بهم «قولهم » : أنعود بعد كوننا «تراباً » - خلقاً جديداً - ويحتمل اللفظ منزعاً آخر أي وإن كنت تريد عجباً فلهم ، فإن من أعجب العجب «قولهم »{[6900]} .

واختلف القراء في قراءة قوله : { أئذا كنا تراباً } فقرأ ابن كثير وأبو عمرو : «أئذا كنا تراباً أئنا لفي خلق جديد » جميعاً بالاستفهام ، غير أن أبا عمرو يمد الهمزة ثم يأتي بالياء ساكنة ، وابن كثير يأتي بياء ساكنة بعد الهمزة من غير مد . وقرأ نافع «أئذا كنا » مثل أبي عمرو ، واختلف عنه في المد ، وقرأ «إنا لفي خلق جديد » مكسورة على الخبر ، ووافقه الكسائي في اكتفائه بالاستفهام الأول عن الثاني ، غير أنه كان يهمز همزتين ، وقرأ عاصم وحمزة «أئذا كنا تراباً أئنا » بهمزتين فيهما . وقرأ ابن عامر «إذا كنا » مكسورة الألف من غير استفهام «ءائنا » يهمز ثم يمد ثم يهمز ، فمن قرأ بالاستفهامين فذلك للتأكيد والتحفي والاهتبال بهذا التقدير ، ومن استفهم في الأول فقط فإنما القصد بالاستفهام الموضع الثاني ، و «إذا ظرف له ، و » إذا «في موضع نصب بفعل مضمر ، تقديره : انبعث أو نحشر إذا . ومن استفهم في الثاني فقط فهو بين ، - ولا حول ولا قوة إلا بالله - .

والإشارة ب { أولئك } إلى القوم القائلين : { أئذا كنا تراباً } وتلك المقالة إنما هي تقرير مصمم على الجحد والإنكار للبعث ، فلذلك حكم عليهم بالكفر .

وقوله : { وأولئك الأغلال } يحتمل معنيين :

أحدهما : الحقيقة وأنه أخبر عن كون { الأغلال في أعناقهم } في الآخرة فهي كقوله تعالى : { إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل }{[6901]} [ غافر : 71 ] .

ويحتمل أن يكون مجازاً وأنه أخبر عن كونهم مغللين عن الإيمان ، فهي إذن تجري مجرى الطبع والختم على القلوب ، وهي كقوله تعالى : { إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً فهي إلى الأذقان ، فهم مقمحون }{[6902]} [ يس : 8 ] وباقي الآية بين .

وقال بعض الناس { الأغلال } -هنا - عبارة عن الأعمال ، أي أعمالهم الفاسدة في أعناقهم كالأغلال .

قال القاضي أبو محمد : وتحرير هذا هو في التأويل الثاني الذي ذكرناه .


[6900]:قال العلماء: التعجب: تغير النفس بما تخفى أسبابه، وذلك في حق الله تعالى محال، فهو لا يتعجب ولا يجوز عليه التعجب، وإنما ذكر ذلك ليتعجب منه نبيه والمؤمنون، وقيل: الآية في منكري الصانع، أي: إن تعجب من إنكارهم الصانع مع الأدلة الواضحة بأن المتغير لا بد له من مغير فهو محل التعجب.
[6901]:من الآية (71) من سورة (غافر).
[6902]:من الآية (8) من سورة (يس).