التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{أَفَلَمۡ يَسِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَتَكُونَ لَهُمۡ قُلُوبٞ يَعۡقِلُونَ بِهَآ أَوۡ ءَاذَانٞ يَسۡمَعُونَ بِهَاۖ فَإِنَّهَا لَا تَعۡمَى ٱلۡأَبۡصَٰرُ وَلَٰكِن تَعۡمَى ٱلۡقُلُوبُ ٱلَّتِي فِي ٱلصُّدُورِ} (46)

ثم ينتقل القرآن الكريم من هذا التهديد الشديد ، إلى التوبيخ والتقريع لهؤلاء المشركين ، الذين لا يعتبرون ولا يتعظون فيقول : { أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا . . . } .

والاستفهام للتوبيخ والإنكار ، والفاء للعطف على مقدر يستدعيه المقام .

والمعنى : إن مصارع الغابرين وديارهم ، يمر بها كفار قريش ، ويعرفونها ، فهم يرون فى طريقهم إلى الشام قرى صالح وقرى لوط . . . . قال - تعالى - : { وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ وبالليل أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } والشأن فى هذه الرؤية أن تجعل صاحبها يعتبر ويتعظ ، متى كان عنده قلب يعقل ما يجب فهمه ، أو أذن تسمع ما يجب سماعه وتنفيذه ، ولكن هؤلاء الجاهلين يرون مصارع الغابرين فلا يعقلون ، ولا يعتبرون ، ويسمعون الأحاديث عن تلك الآبار المعطلة ، والقصور الخالية من سكانها ، والمنازل المهدمة ، فلا يتعظون .

وقوله - تعالى - : { فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي فِي الصدور } بيان لسبب انطماس بصائرهم ، وقسوة قلوبهم .

والضمير فى قوله { فَإِنَّهَا } للقصة : أى : فإن الحال أنه لا يعتد بعمى الأبصار ، ولكن الذى يعتد به عمى القلوب التى فى الصدور ، وهؤلاء المشركون قد أصيبوا بالعمى الذى هو أشنع عمى وأقبحه ، وهو عمى القلوب عن الفهم وقبول الحق .

وذكر - سبحانه - أن مواضع القلوب فى الصدور ، لزيادة التأكيد ، ولزيادة إثبات العمى لتلك القلوب التى حدد - سبحانه - موضعها تحديدا دقيقا .

قال الآلوسى : فالكلام تذييل لتهويل ما نزل بهم من عدم فقه القلب ، وأنه العمى الذى لا عمى بعده ، بل لا عمى إلا هو ، أو المعنى : إن أبصارهم صحيحة سالمة لا عمى بها . وإن العمى بقلوبهم ، فكأنه قيل : أفلم يسيروا فى الأرض فتكون لهم قلوب ذات بصائر ، فإن الآفة ببصائر قلوبهم لا بأبصار عيونهم ، وهى الآفة التى كل آفة دونها . كأنه يحثهم على إزالة المرض وينعى عليهم تقاعدهم عنها .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{أَفَلَمۡ يَسِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَتَكُونَ لَهُمۡ قُلُوبٞ يَعۡقِلُونَ بِهَآ أَوۡ ءَاذَانٞ يَسۡمَعُونَ بِهَاۖ فَإِنَّهَا لَا تَعۡمَى ٱلۡأَبۡصَٰرُ وَلَٰكِن تَعۡمَى ٱلۡقُلُوبُ ٱلَّتِي فِي ٱلصُّدُورِ} (46)

{ أفلم يسيروا في الأرض } حث لهم على أن يسافروا ليروا مصارع المهلكين فيعتبروا ، وهو وإن كانوا قد سافروا فلم يسافروا لذلك . { فتكون لهم قلوب يعقلون بها } ما يجب أن يعقل من التوحيد بما حصل لهم من الاستبصار والاستدلال . { أو آذان يسمعون بها } ما يجب أن يسمع من الوحي والتذكير بحال من شاهدوا آثارهم . { فإنها } الضمير للقصة أو مبهم يفسره الأبصار . وفي { تعمى } راجع إليه والظاهر أقيم مقامه . { لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور } عن الاعتبار أي ليس الخلل في مشاعرهم وإنما أيفت عقولهم باتباع الهوى والانهماك في التقليد ، وذكر { الصدور } للتأكيد ونفي التجوز وفضل التنبيه على أن العمى الحقيقي ليس المتعارف الذي يخص البصر . قيل لما نزل { ومن كان في هذه أعمى } قال ابن أم مكتوم يا رسول الله أنا في الدنيا أعمى أفأكون في الآخرة أعمى فنزلت { فإنها لا تعمى الأبصار } .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{أَفَلَمۡ يَسِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَتَكُونَ لَهُمۡ قُلُوبٞ يَعۡقِلُونَ بِهَآ أَوۡ ءَاذَانٞ يَسۡمَعُونَ بِهَاۖ فَإِنَّهَا لَا تَعۡمَى ٱلۡأَبۡصَٰرُ وَلَٰكِن تَعۡمَى ٱلۡقُلُوبُ ٱلَّتِي فِي ٱلصُّدُورِ} (46)

ثم وبخهم على الغفلة وترك الاعتبار بقوله ، { أفلم يسيروا في الأرض } أي في البلاد فينظروا في أحوال الأمم المكذبة المعذبة ، وهذه الآية تقتضي أن العقل في القلب وذلك هو الحق ولا ينكر أن للدماغ اتصالاً بالقلب يوجب فساد العقل متى اختل الدماغ ، { فتكون } ، نصب بالفاء في جواب الاستفهام صرف الفعل من الجزم إلى النصب ، وقوله { فإنها لا تعمى الأبصار } ، لفظ مبالغة كأنه قال : ليس العمى عمى العين وإنما العمى حق العمى عمى القلب ، ومعلوم أن الأبصار تعمى ولكن المقصد ما ذكرناه ، وهذا كقوله عليه السلام ، «ليس الشديد بالصرعة{[8402]} وليس المسكين بهذا الطواف »{[8403]} والضمير في { فإنها } للقصة ونحوها من التقدير وقوله { التي في الصدور } ، مبالغة كقوله { يقولون بأفواههم }{[8404]} [ آل عمران : 167 ] كما تقول : نظرت إليه بعيني ونحو هذا .


[8402]:أخرجه البخاري، ومسلم، وأحمد، عن أبي هريرة رضي الله عنه، ورمز له الإمام السيوطي في الجامع الصغير بأنه حديث صحيح، ولفظه كما ذكره: (ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب). ولفظه في (النهاية) لابن الأثير: (ما تعدون الصرعة فيكم؟ قالوا: الذي لا يصرعه الرجال، قال: هو الذي يملك نفسه عند الغضب)، ثم فسر الصرعة بقوله: المبالغ في الصراع الذي لا يغلب.
[8403]:أخرجه البخاري، ومسلم، وأحمد في مسنده، وأبو داود، والنسائي، عن أبي هريرة رضي الله عنه، ولفظه كما ذكره في الجامع الصغير (ليس المسكين الذي يطوف على الناس فترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدق عليه، ولا يقوم فيسأل الناس)، وقد رمز له الإمام السيوطي في الجامع الصغير بالصحة.
[8404]:من قوله تعالى في الآية (15) من سورة (النور): {وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم}، ومن قوله تعالى في الآية (4) من سورة (الأحزاب): {وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم}.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{أَفَلَمۡ يَسِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَتَكُونَ لَهُمۡ قُلُوبٞ يَعۡقِلُونَ بِهَآ أَوۡ ءَاذَانٞ يَسۡمَعُونَ بِهَاۖ فَإِنَّهَا لَا تَعۡمَى ٱلۡأَبۡصَٰرُ وَلَٰكِن تَعۡمَى ٱلۡقُلُوبُ ٱلَّتِي فِي ٱلصُّدُورِ} (46)

تفريع على جملة { فكأين من قرية أهلكناها } [ الحج : 45 ] وما بعدها .

والاستفهام تعجيبي من حالهم في عدم الاعتبار بمصارع الأمم المكذّبة لأنبيائها ، والتعجيب متعلّق بمن سافروا منهم ورأوا شيئاً من تلك القرى المهلكة وبمن لم يسافروا ، فإن شأن المسافرين أن يخبروا القاعدين بعجائب ما شاهدوه في أسفارهم كما يشير إليه قوله تعالى : { أو آذان يسمعون بها } . فالمقصود بالتعجيب هو حال الذين ساروا في الأرض ، ولكن جعل الاستفهام داخلاً على نفي السير لأن سير السائرين منهم لما لم يفدهم عبرة وذكرى جُعل كالعدم فكانَ التعجيب من انتفائه ، فالكلام جارٍ على خلاف مقتضى الظاهر .

والفاء في { فتكون } سببية جوابية مسبب ما بعدها على السير ، أي لم يسيروا سيراً تكون لهم به قلوب يعقلون بها وآذان يسمعون بها ، أي انتفى أن تكون لهم قلوب وآذان بهذه المثابة لانتفاء سيرهم في الأرض . وهذا شأن الجواب بالفاء بعد النفي أن تدخل الفاء على ما هو مسبب على المنفي لو كان ثابتاً وفي هذا المعنى قال المعرّي :

وقيل أفادَ بالأسفار مالاً *** فقلنا هل أفادَ بها فُؤادا

وهذا شأن الأسفار أن تفيد المسافر ما لا تفيده الإقامة في الأوطان من اطلاع على أحوال الأقوام وخصائص البلدان واختلاف العادات ، فهي تفيد كل ذي همّة في شيء فوائدَ تزيد هِمتَه نفاذاً فيما تتوجه إليه وأعظم ذلك فوائد العبرة بأسباب النجاح والخسارة .

وأطلقت القلوب على تقاسيم العقل على وجه المجاز المرسل لأن القلب هو مُفيض الدم وهو مادة الحياة على الأعضاء الرئيسية وأهمها الدماغ الذي هو عضو العقل ، ولذلك قال : { يعقلون بها } وإنما آلة العقل هي الدماغ ولكن الكلام جرَى أوله على متعارف أهل اللغة ثم أجري عقب ذلك على الحقيقة العلمية فقال : { يعقلون بها } فأشار إلى أن القلوب هي العقل .

ونزّلت عقولهم منزلة المعدوم كما نزّل سَيْرهم في الأرض منزلة المعدوم .

وأما ذكر الآذان فلأنّ الأذن آلة السمع والسائر في الأرض ينظر آثار الأمم ويسمع أخبار فنائهم فيستدل من ذلك على ترتب المسببات على أسبابها ؛ على أن حظ كثير من المتحدث إليهم وهم الذين لم يسافروا أن يتلقوا الأخبار من المسافرين فيعلموا ماعلمه المسافرون علماً سبيلُه سماع الأخبار .

وفي ذكر الآذان اكتفاء عن ذكر الأبصار إذ يعلم أن القلوب التي تعقل إنما طريق علمها مشاهدة آثار العذاب والاستئصال كما أشار إليه قوله بعد ذلك : { فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمي القلوب التي في الصدور } .

فحصل من مجموع نظم الآية أنهم بمنزلة الأنعام لهم آلات الاستدلال وقد انعدمت منهم آثارها فلهم قلوب لا يعقلون بها ولهم آذان لا يسمعون بها ولهم أعين لا يبصرون بها وهذا كقوله تعالى : { ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء صم بكم عمي فهم لا يعقلون }

[ البقرة : 171 ] .

والفاء في جملة { فإنها لا تعمى الأبصار } تفريع على جواب النفي في قوله : { فتكون لهم قلوب يعقلون بها } ، وفذلكة للكلام السابق ، وتذييل له بما في هذه الجملة من العموم .

والضمير في قوله { فإنها } ضمير القصة والشأن ، أي فإن الشأن والقصة هو مضمون الجملة بعدَ الضمير ، أي لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب ، أي فإن الأبصار والأسماع طرق لحصول العلم بالمبصرات والمسموعات ، والمدرِك لذلك هو الدماغ فإذا لم يكن في الدماغ عقل كان المبصر كالأعمى والسامع كالأصمّ ، فآفة ذلك كله هو اختلال العقل .

واستعير العَمى الثاني لانتفاء إدراك المبصرات بالعقل مع سلامة حاسّة البصر لشبهه به في الحالة الحاصلة لصاحبه .

والتعريف في { الأبصار } ، و { القلوب } ، و { الصدور } تعريفُ الجنس الشامل لقلوب المتحدّث عنهم وغيرهم ، والجمْع فيها باعتبار أصحابها .

وحرف التوكيد في قوله : { فإنها لا تعمى الأبصار } لغرابة الحكم لا لأنه مما يشك فيه .

وغالب الجمل المفتتحة بضمير الشأن اقترانُها بحرف التوكيد .

والقصر المستفاد من النفي وحرف الاستدراك قصر ادعائيّ للمبالغة بجعل فقد حاسة البصر المسمى بالعمى كأنه غير عمىً ، وجعل عدم الاهتداء إلى دلالة المبصرات مع سلامة حاسة البصر هو العمى مبالغة في استحقاقه لهذا الاسم الذي استعير إليه ، فالقصر ترشيح للاستعارة .

ففي هذه الآية أفانين من البلاغة والبيان وبَداعة النظم .

و { التي في الصدور } صفة ل { القلوب } تفيد توكيداً للفظ { القلوب . } فوزانه وزان الوصف في قوله تعالى : { ولا طائر يطير بجناحيه } [ الأنعام : 38 ] . ووزان القيد في قوله : { يقولون بأفواههم } [ آل عمران : 167 ] فهو لزيادة التقرير والتشخيص .

ويفيد هذا الوصف وراء التوكيد تعريضاً بالقوم المتحدث عنهم بأنهم لم ينتفعوا بأفئدتهم مع شدّة اتصالها بهم إذ هي قارة في صدورهم على نحو قول عمر بن الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم « فالآن أنت أحبّ إليّ من نفسي التي بين جنبيَّ » فإن كونها بين جنبيه يقتضي أن تكون أحبّ الأشياء إليه .