وبعد أن أمرهم - سبحانه - بمداومة خشيته ، والاستمرار على دينه أتبع ذلك بأمرهم بالاعتصام بدينه وبكتابه فقال - تعالى - { واعتصموا بِحَبْلِ الله جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ } .
فهذه الآية الكريمة تأكيد لما اشتملت عليه سابقتها من مداومة التقوى والطاعة لله رب العالمين .
والاعتصام : افتعال من عصم وهو طلب ما يعصم أى يمنع من السقوط والوقوع .
وأصل الحبل : ما يشد به للارتقاء أو التدلى أو للنجاة من غرق أو نحوه ، أو للوصول إلى شىء معين .
والمراد بحبل الله هنا : دينه ، أو عهده ، أو كتابه ، لأن التمسك بهذه الأشياء يوصل إلى النجاة والفلاح .
والمعنى : كونوا جميعا مستمسكين بكتاب الله وبدينه وبعهوده ، ولا تتفرقوا كما كان شأنكم فى الجاهلية بضرب بعضكم رقاب بعض ، بل عليكم أن تجتمعوا على طاعة الله وأن تكونوا كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا . وبذلك تفوزون وتسعدون وتنتصرون على أعدائكم .
ففى الجملة الكريمة استعارة تمثيلية حيث شبه - سبحانه - الحالة الحاصلة من تمسك المؤمنين بدينه وبكتابه وبعهوده وبوحدة كلمتهم ، بالحالة الحاصلة من تمسك جماعة بحبل وثيق مأمون الانقطاع ألقى إليهم من منقذ لهم من غرق أو سقوط أو نحوهما .
وإضافة الحبل إلى الله - تعالى - قرينة على هذا التمثيل .
وقوله { جَمِيعاً } حال من ضمير الجماعة فى قوله { واعتصموا } .
فالجملة الكريمة تأمر المسلمين جميعا أن يعتصموا بعهود الله وبدينه . وبكتابه ، وأن يكونوا كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ، وأن ينبذوا التفرق والاختلاف الذى يؤدى إلى ضعفهم وفشلهم .
قال الفخر الرازى عند تفسيره لهذه الآية ما ملخصه : واعلم أن كل من يمشى على طريق دقيق يخاف أن ينزلق رجله ، فإنه إذا تمسك بحبل مشدود الطرفين بجانبى ذلك الطريق أمن من الخوف . ولا شك أن طريق الحق طريق دقيق ، وقد انزلقت أرجل كثيرة من الخلق عنه ، فمن اعتصم بدلائل الله وبيناته فإنه يأمن من ذلك الخوف فكان المراد من الحبل هنا : كل شىء يمكن التوصل به إلى الحق فى طريق الدين ، وهو أنواع كثيرة فمنهم من قال المراد به عهد الله . . ومنهم من قال المراد به القرآن ، فقد جاء فى الحديث " هو حبل الله المتين " ومنهم من قال المراد به طاعة الله . . . وهذه الأقوال كلها متقاربة والتحقيق ما ذكرنا من أنه لما كان النازل فى البئر يعتصم بحبل تحرزا من السقوط فيها وكان كتاب الله وعهده ودينه وطاعته وموافقته لجماعة المؤمنين حرزا لصاحبه من السقوط فى جهنم ، جعل ذلك حبلا لله وأمروا بالاعتصام به . ثم أمرهم - سبحانه - بتذكر نعم الله عليهم فقال : { واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ على شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النار فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا } .
قوله { شَفَا حُفْرَةٍ } الشفا طرف الشىء وحرفه مثل شفا البئر ، وشفا الحفرة ومنه يقال : فلان أشفى على الشىء إذا اشرف عليه ، كأنه بلغ شفاه أى حده وحرفه .
والمعنى : واذكروا أيها المؤمنون وتنبهوا بعقولكم وقلوبكم إلى نعمة الله علكم بتأليف نفوسكم ورأب صدوعكم ، فقد كنتم فى الجاهلية أعداء متقاتلين متنازعين ، فألف بين قلوبكم بأخوة الإسلام فاصبحتم متحابين متناصحين متوادين وكنتم على وشك الوقوع فى النار بسبب اخلافكم وضلالكم فمن الله عليكم وأنقذكم من التردى فيها بهدايتكم إلى الحق عن طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم الذى أرسله ربه رحمة للعالمين . إذا فمن الواجب عليكم وفاء لهذه النعم أن تشكروا الله عليها وأن تطيعوا رسولكم صلى الله عليه وسلم وأن تتمسكوا بعرى المحبة والمودة والأخوة فيما بينكم .
قال ابن كثير : قوله - تعالى - { واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً } إلخ . هذا السياق فى شأن الأوس والخزرج ، فإنه كان بينهم حروب كثيرة فى الجاهلية وعداوة شديدة وضغائن وإحن طال بسببها قتالهم ، والوقائع بينهم ، فلما جاء الله بالإسلام . فدخل فيه من دخل منهم ، صاروا إخوانا متحابين بجلال الله ، متواصلين فى ذات الله ، متعاونين على البر والتقوى وكانوا على شفا حفرة من النار بسبب كفرهم فأنقذهم الله منها إذ هداهم للإيمان وقد امتن عليهم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم قسم غنائم حنين ، فعتب من عتب منهم بما فضل عليهم فى القسمة بما رآه ، فخطبهم فقال يا معشر الأنصار ، الم أجدكم ضلالا فهداكم الله بى ، وكنتم متفرقين فالفكم الله بى ، وعالة فأغناكم الله بى ؟ فكانوا كلما قال شيئاً قالوا : الله ورسوله آَمَنّ " .
وفى هذه الاية الكريمة تصوير بديع مؤثر لحالة المسلمين قبل الإسلام وحالتهم بعد الإسلام .
فقد صور - سبحانه - حالهم وترديهم فى الكفر والاختلاف والتقاتل قبل أن يدخلوا فى الإسلام بحال من يكون على حافة حفرة من النار يوشك أن يقع فيها .
وصور هدايته لهم إلى سبيل الحق والمحبة والإخاء بدخولهم فى الإسلام عن طريق محمد صلى الله عليه وسلم بحالة من يبعد غيره عن التردى فى النار وينقذه من الوقوع فيها .
قال صاحب الكشاف : " والضمير المجرور فى قوله { فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا } يعود للحفرة أو للنار أو للشفا ، وإنما أنث لإضافته إلى الحفرة - فاكتسب التأنيث من المضاف إليه - كما قال : كما شرقت صدر القناة من الدم . . . وشفا الحفرة وشفتها : حرفها بالتذكير والتأنيث .
فإن قلت : كيف جعلوا على حرف حفرة من النار ؟ قلت : لو ماتوا على ما كانوا عليه وقعوا في النار " فمثلت حياتهم التى يتوقع بعدها الوقوع فى النار بالقعود على حرفها ، مشفين - أى مشرفين - على الوقوع فيها " .
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله : { كذلك يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } .
أى كهذا البيان الواضح الذى سمعتموه فى هذه الآيات ، يبين الله لكم دائما من آياته ودلائله وحججه ما يسعدكم فى الدنيا والآخرة ، و ما يأخذ بيدكم إلى وسائل الهداية وأسبابها ، رجاء أن تكونوا ممن رضى الله عنهم وأرضاهم بسبب اهتدائهم إلى الصراط المستقيم .
وقوله : { وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا } قيل { بِحَبْلِ اللَّهِ } أي : بعهد الله ، كما قال في الآية بعدها : { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ } [ آل عمران : 112 ] أي بعهد وذمة{[5440]} وقيل : { بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ } يعني : القرآن ، كما في حديث الحارث الأعور ، عن علِيّ مرفوعا في صفة القرآن : " هُوَ حَبْلُ اللهِ الْمتِينُ ، وَصِرَاطُهُ الْمُسْتَقِيمُ " .
وقد وَرَدَ في ذلك حديث خاص بهذا المعنى ، فقال الإمام الحافظ أبو جعفر الطبري : حدثنا سعيد بن يحيى الأموي ، حدثنا أسباط بن {[5441]}محمد ، عن عبد الملك بن أبي سليمان العَرْزَمي ، عن عطية عن [ أبي ]{[5442]} سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كِتَابُ اللهِ ، هو حَبْلُ اللهِ الْمَمْدُودُ مِنَ السَّمَاءِ إلَى الأرْضِ " {[5443]} .
وروى ابن مَرْدُويَه من طريق إبراهيم بن مسلم الهَجَريّ ، عن أبي الأحْوَص ، عن عبد الله رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنَّ هَذَا الْقُرْآنَ هو حَبْلُ اللهِ الْمتِينُ ، وهو النور المبين وهُوَ الشِّفَاءُ النَّافِعُ ، عِصْمةٌ لِمَنْ تَمَسَّكَ بِهِ ، ونَجَاةٌ لِمَنِ اتَّبَعَهُ " {[5444]} .
وُروي من حديث حذيفة وزيد بن أرقم نحو ذلك . [ وقال وَكِيع : حدثنا الأعمش عن أبي وائل قال : قال عبد الله : إن هذا الصراط محتضر تحضره الشياطين ، يا عبد الله ، بهذا الطريق هلم إلى الطريق ، فاعتصموا بحبل الله فإن حبل الله القرآن ]{[5445]} .
وقوله : { وَلا تَفَرَّقُوا } أمَرَهُم بالجماعة ونهاهم عن التفرقة{[5446]} وقد وردت الأحاديثُ المتعددة بالنهي عن التفرق والأمر بالاجتماع والائتلاف{[5447]} كما في صحيح مسلم من حديث سُهَيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إنَّ اللهَ يَرْضَى لَكُمْ ثَلاثًا ، وَيَسْخَطُ لَكُمْ ثَلاثًا ، يَرْضى لَكُمْ : أنْ تَعْبدُوهُ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، وأنْ تَعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا ، وأنْ تُنَاصِحُوا مَنْ وَلاهُ اللهُ أمْرَكُمْ ؛ وَيَسْخَطُ لَكُمْ ثَلاثًا : قيلَ وَقَالَ ، وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ ، وإِضَاعَةَ الْمَالِ " {[5448]} .
وقد ضُمِنتْ لهم العِصْمةُ ، عند اتفاقهم ، من الخطأ ، كما وردت بذلك الأحاديث المتعددة أيضًا ، وخِيفَ عليهم الافتراق ، والاختلاف ، وقد وقع ذلك في هذه الأمة فافترقوا على ثلاث وسبعين فرقة ، منها فرقة{[5449]} ناجية إلى الجنة ومُسَلمة من عذاب النار ، وهم الذين على ما كان عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه .
وقوله : { وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا [ وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا ] {[5450]} } إلى آخر الآية ، وهذا السياق في شأن الأوْس والخَزْرَج ، فإنه كانت{[5451]} بينهم حُروبٌ كثيرة في الجاهلية ، وعداوة شديدة وضغائن ، وإحَنٌ وذُحُول{[5452]} طال بسببها قتالهم والوقائع بينهم ، فلما جاء الله بالإسلام فدخل فيه من دخل منهم ، صاروا إخوانا متحابين بجلال الله ، متواصلين في ذات الله ، متعاونين على البر والتقوى ، قال الله تعالى : { هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ [ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ]{[5453]} } [ الأنفال : 62 ] وكانوا على شفا حُفْرة من النار بسبب كفرهم ، فأبعدهم{[5454]} الله منها : أنْ هَدَاهُم للإيمان . وقد امتن عليهم بذلك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم يوم قَسَم غنائم حُنَيْنٍ ، فَعتَبَ من عتب{[5455]} منهم لمّا فَضَّل عليهم في القِسْمَة بما أراه الله ، فخطبهم فقال : " يَا مَعْشَرَ الأنْصَارِ ، ألَمْ أجدْكُمْ ضُلالا فَهَدَاكُمُ اللهُ بِي ، وَكُنْتُمْ مُتَفَرِّقِينَ فَألَّفَكُمُ اللهُ بِي ، وَعَالَةً فأغْنَاكُمْ اللهُ بِي ؟ " كلما قال شيئا قالوا : الله ورسوله أمنّ .
وقد ذكر محمد بن إسحاق بن يَسار وغيره : أن هذه الآية نزلت في شأن الأوس والخزرج ، وذلك أن رجلا من اليهود مَرَّ بملأ من الأوس والخزرج ، فساءه ما هُمْ عليه من الاتفاق والألْفَة ، فبعث رجلا معه وأمره أن يجلس بينهم ويذكرهم{[5456]} ما كان من حروبهم يوم بُعَاث وتلك الحروب ، ففعل ، فلم يزل ذلك دأبُه حتى حميت نفوس القوم وغضب بعضهم على بعض ، وتثاوروا ، ونادوا بشعارهم وطلبوا أسلحتهم ، وتواعدوا إلى الحرة ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأتاهم فجعل يُسكِّنهم ويقول : " أبِدَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ وأَنَا بَيْنَ أظْهُرِكُمْ ؟ " وتلا عليهم هذه الآية ، فندموا على ما كان منهم ، واصطلحوا وتعانقوا ، وألقوا السلاح ، رضي الله عنهم {[5457]} وذكر عِكْرِمة أن ذلك نزل فيهم حين تثاوروا في قضية الإفْك . والله أعلم .
وقوله تعالى : { واعتصموا بحبل الله جميعاً } معناه تمنعوا وتحصنوا به ، فقد يكون الاعتصام بالتمسك باليد ، وبارتقاء القنن ، وبغير ذلك ما هو منعة ، ومنه الأعصم في الجبل ، ومنه عصمة النكاح ، و «الحبل » في هذه الآية مستعار لما كان السبب الذي يعصم به ، وصلة ممتدة بين العاصم والمعصوم ، ونسبة بينهما ، شبه ذلك بالحبل الذي شأنه أن يصل شيئاً بشيء ، وتسمى العهود والمواثيق حبالاً ، ومنه قول الأعشى{[3382]} :
وإذَا تَجَوَّزَها حِبالُ قَبِيلَةٍ . . . أَخَذَتْ مِنَ الأَدْنَى إِلَيْكَ حِبَالهَا
إني بحبلِكِ واصلٌ حبلي{[3383]} *** . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ومنه قول الله تعالى : { إلا بحبل من الله وحبل من الناس }{[3384]} واختلفت عبارة المفسرين في المراد في هذه الآية { بحبل الله } ، فقال ابن مسعود : «حبل الله » الجماعة ، وروى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «إن بني إسرائيل افترقوا على إحدى وسبيعن فرقة ، وإن أمتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة قال فقيل يا رسول الله : وما هذه الواحدة ؟ قال فقبض يده وقال : الجماعة وقرأ ، { واعتصموا بحبل الله جميعاً }{[3385]} » ، وقال ابن مسعود في خطبة : عليكم جميعاً بالطاعة والجماعة فإنها حبل الله الذي أمر به ، وقال قتادة رحمه الله : «حبل الله » الذي أمر بالاعتصام به هوا لقرآن ، وقال السدي : «حبل الله » كتاب الله ، وقاله أيضاً ابن مسعود والضحاك ، وروى أبو سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «كتاب الله هو حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض »{[3386]} ، وقال أبو العالية : «حبل الله » في هذه الآية هو الإخلاص في التوحيد وقال ابن زيد : «حبل الله » هو الإسلام .
قال القاضي أبو محمد : وقيل غير هذا مما هو كله قريب بعضه من بعض ، وقوله تعالى : { جميعاً } حال من الضمير في قوله ، { اعتصموا } ، فالمعنى : كونوا في اعتصامكم مجتمعين : { ولا تفرقوا } يريد التفرق الذي لا يتأتى معه الائتلاف على الجهاد وحماية الدين وكلمة الله تعالى ، وهذا هو الافتراق بالفتن والافتراق في العقائد ، وأما الافتراق في مسائل الفروع والفقه فليس يدخل في هذه الآية ، بل ذلك ، هو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم : «خلاف أمتي رحمة »{[3387]} ، وقد اختلف الصحابة في الفروع أشد اختلاف ، وهم يد واحدة على كل كافر ، وأما الفتنة على علي بن أبي طالب رضي الله عنه فمن التفرق المنهي عنه ، أما أن التأويل هو الذي أدخل في ذلك أكثر من دخله من الصحابة رضي الله عن جميعهم .
{ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءَ فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ ءَايَتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ }
هذه الآية تدل على أن الخطاب بهذه الآية إنما هو للأوس والخزرج ، وذلك أن العرب وإن كان هذا اللفظ يصلح في جميعها فإنها لم تكن في وقت نزول هذه الآية اجتمعت على الإسلام ولا تألفت قلوبها ، وإنما كانت في قصة شاس بن قيس في صدر الهجرة ، وحينئذ نزلت هذه الآية ، فهي في الأوس والخزرج ، كانت بينهم عداوة وحروب ، منها يوم بعاث وغيره ، وكانت تلك الحروب والعداوة قد دامت بين الحيين مائة وعشرين سنة ، حتى رفعها الله بالإسلام ، فجاء النفر الستة من الأنصار إلى مكة حجاجاً ، فعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه عليهم ، وتلا عليهم القرآن ، كما كان يصنع مع قبائل العرب ، فآمنوا به وأراد الخروج معهم ، فقالوا يا رسول الله : إن قدمت بلادنا على ما بيننا من العداوة والحرب ، خفنا أن لا يتم ما نريده منك ، ولكن نمضي نحن ونشيع أمرك ، ونداخل الناس ، وموعدنا وإياك العام القابل ، فمضوا وفعلوا ، وجاءت الأنصار في العام القابل ، فكانت العقبة الثانية وكانوا اثني عشر رجلاً ، فيهم خمسة من الستة الأولين ، ثم جاؤوا من العام الثالث ، فكانت بيعة العقبة ، الكبرى ، حضرها سبعون وفيهم اثنا عشر نقيباً ، ووصف هذه القصة مستوعب في سيرة ابن هشام{[3388]} ، ويسر الله تعالى الأنصار للإسلام بوجهين ، أحدهما أن بني إسرائيل كانوا مجاورين لهم وكانوا يقولون لمن يتوعدونه من العرب ، يبعث لنا نبي الآن نقتلكم معه قتل عاد وإرم ، فلما رأى النفر من الأنصار محمداً صلى الله عليه وسلم ، قال بعضهم لبعض : هذا والله النبي الذي تذكره بنو إسرائيل فلا تسبقن إليه ، والوجه الآخر ، الحرب التي كانت ضربتهم وأفنت سراتهم ، فرجوا أن يجمع الله به كلمتهم كالذي كان ، فعدد الله تعالى عليهم نعمته في تأليفهم بعد العداوة ، وذكرهم بها ، وقوله تعالى : { فأصبحتم } عبارة عن الاستمرار وإن كانت اللفظة مخصوصة بوقت ما ، وإنما خصت هذه اللفظة بهذا المعنى من حيث هي مبدأ النهار ، وفيها مبدأ الأعمال ، فالحال التي يحسها المرء من نفسه فيها هي حاله التي يستمر عليها يومه في الأغلب ، ومنه قول الربيع بن ضبع{[3389]} : [ المنسرح ]
أصبحت لا أحمل السلاح ولا . . . أَمْلِكُ رَأْسَ البعيرِ إنْ نَفَرا
و «الإخوان » جمع أخ ، ويجمع إخوة ، وهذان أشهر الجمع فيه ، على ان سيبويه رحمه الله يرى أن إخوة اسم جمع ، وليس ببناء جمع لأن فعلاً لا يجمع على فعلة ، قال بعض الناس : الأخ في الدين يجمع إخواناً ، والأخ في النسب يجمع إخوة : هكذا كثر استعمالهم .
قال القاضي أبو محمد : وفي كتاب الله تعالى : { إنما المؤمنون إخوة }{[3390]} وفيه ، { أو بني إخوانهن }{[3391]} ، فالصحيح أنهما يقالان في النسب ، ويقالان في الدين ، و «الشفا » حرف كل جرم له مهوى ، كالحفرة والبئر والجرف والسقف والجدار ونحوه ، ويضاف في الاستعمال إلى الأعلى ، كقوله { شفا جرف }{[3392]} وإلى الأسفل كقوله { شفا حفرة } ، ويثنى شفوان ، فشبه تعالى كفرهم الذي كانوا عليه وحربهم المدنية من الموت بالشفا ، لأنهم كانوا يسقطون في جهنم دأباً ، فأنقذهم الله بالإسلام ، والضمير في { منها } عائد على النار ، أو على «الحفرة » ، العود على الأقرب أحسن ، وقال بعض الناس حكاه الطبري : إن الضمير عائد على «الشفا » ، وأنث الضمير من حيث كان الشفا مضافاً إلى مؤنث ، فالآية كقول جرير :
رَأَتْ مَرَّ السنينِ أَخَذْنَ مِنّي . . . كَمَا أَخذَ السّرارُ مِنَ الهِلاَلِ{[3393]}
قال القاضي : وليس الأمر كما ذكر ، والآية لا يحتاج فيها إلى هذه الصناعة ، إلا لو لم تجد معاداً للضمير إلا «الشفا » ، وأما ومعنا لفظ مؤنث يعود الضمير عليه ، ويعضده المعنى المتكلم فيه ، فلا يحتاج إلى تلك الصناعة وقوله تعالى : { كذلك يبين لكم آياته } إشارة إلى ما بين في هذه الآيات ، أي فكذلك يبين لكم غيرها ، وقوله ، { لعلكم } ترجٍّ في حق البشر ، أي من تأمل منكم الحال رجا الاهتداء{[3394]} .