ثم تعود السورة مرة أخرى إلى تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم وإلى الرد على شبهات أعدائه فتقول : { وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ . . . } .
أى : وما أرسلنا قبلك - أيها الرسول الكريم - أحدا من رسلنا ، إلا وحالهم وشأنهم أنهم يأكلون الطعام الذى يأكله غيرهم من البشر . ويمشون فى الأسواق كما يمشى غيرهم من الناس ، طلبا للرزق .
وإذاً فقول المشركين فى شأنك " مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشى فى الأسواق " قول يدل على جهالاتهم وسوء نياتهم فلا تتأثر به ، ولا تلتفت إليه ، فأنت على الحق وهم على الباطل .
وقوله - تعالى - : { وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً } بيان لسنة من سنن الله - تعالى - فى خلقه ، اقتضتها حكمته ومشيئته .
أى : اختبرنا بعضكم ببعض ، وبلونا بعضكم ببعض ، ليظهر قوى الإيمان من ضعيفه ، إذ أن قوى الإيمان لتصديقه بقضاء الله وقدره يثبت على الحق ويلتزم بما أمره الله - تعالى - به ، أما ضعيف الإيمان فإنه يحسد غيره على ما آتاه الله - تعالى - من فضله . كما حسد المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم على منصب النبوة الذى أعطاه الله - تعالى - إياه { وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ } قال القرطبى : قوله - تعالى - : { وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ } أى : إن الدنيا دار بلاء وامتحان ، فأراد - سبحانه - أن يجعل بعض العبيد فتنة لبعض على العموم فى جميع الناس ، فالصحيح : فتنى للمريض . والغنى : فتنة للفقير . . ومعنى هذا ، أن كل واحد مختبر بصاحبه ، فالغنى ممتحن بالفقير ، فعليه أن يواسيه ولا يسخر منه ، والفقير ممتحن بالغنى ، فعليه أن لا يحسده . ولا يأخذ منه إلا ما أعطاه ، وأن يصبر كل واحد منهما على الحق . . والرسول المخصوص بكرامة النبوة فتنة لأشراف الناس من الكفار فى عصره . . . فالفتنة : أن يحسد المبتلَى المعافَى . والصبر : أن يحبس كلاهما نفسه ، هذا عن البطر وذاك عن الضجر .
والاستفهام فى قوله - تعالى - : { أَتَصْبِرُونَ } للتقرير أى : أتصبرون على هذا الابتلاء والاختبار فتنالوا من الله - تعالى - الأجر ، أم لا تصبرون فيزداد همكم وغمكم ؟
ويصح أن يكون الاستفهام بمعنى الأمر . أى : اصبروا على هذا الابتلاء كما فى قوله - تعالى - : { . . . وَقُلْ لِّلَّذِينَ أُوتُواْ الكتاب والأميين أَأَسْلَمْتُمْ . . . } أى : أسلموا . . . وكما فى قوله - سبحانه - : { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } أى : انتهوا عن الخمر والميسر .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله { وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً } أى : وكان ربك أيها - الرسول الكريم - بصيرا بأحوال النفوس الطاهرة والخفية ، وبتقلبات القلوب وخلجاتها . فاصبر على أذى قومك ، فإن العاقبة لك ولأتباعك المؤمنين .
فهذا التذييل فيه ما فيه من التسلية والتثبيت لفؤاد النبى صلى الله عليه وسلم .
يقول تعالى مخبرا عن جميع مَنْ بعثه من الرسل المتقدمين : إنهم كانوا يأكلون الطعام ، ويحتاجون إلى التغذي به { وَيَمْشُونَ فِي الأسْوَاقِ } أي : للتكسب والتجارة ، وليس ذلك بمناف لحالهم ومنصبهم ؛ فإن الله جعل لهم من السمات الحسنة ، والصفات الجميلة ، والأقوال الفاضلة ، والأعمال الكاملة ، والخوارق الباهرة ، والأدلة [ القاهرة ]{[21439]} ، ما يستدل به كل ذي لب سليم ، وبصيرة مستقيمة ، على صدق ما جاءوا به من الله عز وجل . ونظير هذه الآية الكريمة قوله تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى } [ يوسف : 109 ] { وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ } [ الأنبياء : 8 ] .
وقوله : { وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ } أي : اختبرنا بعضكم ببعض ، وبلونا بعضكم ببعض ، لنعلم مَن يُطيع ممن يعصي ؛ ولهذا قال : { أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا } أي : بمن يستحق أن يوحى إليه ، كما قال تعالى : { اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } [ الأنعام : 124 ] ، ومن يستحق أن يهديه الله لما أرسلهم به ، ومن لا يستحق ذلك .
وقال محمد بن إسحاق في قوله : { وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ } قال : يقول الله : لو شئت أن أجعل الدنيا مع رسلي فلا يخالفون ، لفعلت ، ولكنّي قد أردتُ أن أبتلي العباد بهم ، وأبتليهم{[21440]} بهم .
وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يقول الله : إني مُبْتَلِيك ، ومُبْتَلٍ بك " {[21441]} . وفي المسند عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لو شئت لأجرى الله معي جبال الذهب والفضة " ، وفي الصحيح أنه - عليه أفضل الصلاة والسلام - خُير بين أن يكون نبياً ملكا أو عبداً رسولا فاختار أن يكون عبدا رسولا .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاّ إِنّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبّكَ بَصِيراً } .
وهذا احتجاج من الله تعالى ذكره لنبيه على مشركي قومه الذين قالوا : ما لِهَذَا الرّسُولِ يَأْكُلُ الطّعامَ ويَمْشِي فِي الأسْوَاقِ وجواب لهم عنه ، يقول لهم جلّ ثناؤه : وما أنكر يا محمد هؤلاء القائلون ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ، من أكلك الطعام ومشيك في الأسواق ، وأنت لله رسول فقد علموا أنا ما أرسلنا قبلك من المرسلين إلاّ إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق كالذي تأكل أنت وتمشي ، فليس لهم عليك بما قالوا من ذلك حجة .
فإن قال قائل : فإن «مَنْ » ليست في التلاوة ، فكيف قلت معنى الكلام : إلاّ مَنْ إِنهم ليأكلون الطعام ؟ قيل : قلنا في ذلك معناه : أن الهاء والميم في قوله : «إنهم » ، كناية أسماء لم تُذكر ، ولا بدّ لها من أن تعود على من كُنِي عنه بها ، وإنما ترك ذكر «مَنْ » وإظهاره في الكلام اكتفاء بدلالة قوله : مِنَ المُرْسَلِينَ عليه ، كما اكتفي في قوله : وَما مِنّا إلاّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ من إظهار «مَنْ » ، ولا شكّ أن معنى ذلك : وما منا إلاّ من له مقام معلوم ، كما قيل : وَإنْ مِنْكُمْ إلاّ وَارِدُها ومعناه : وإن منكم إلاّ من هو واردها فقوله : إنّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطّعامَ صلة ل «مَنِ » المتروك ، كما يقال في الكلام : ما أرسلت إليك من الناس إلاّ مَنْ إنه ليبلغك الرسالة ، فإنه «ليبلغك الرسالة » صلة ل «مَنْ » .
وقوله : وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً يقول تعالى ذكره : وامتحنا أيها الناس بعضكم ببعض ، جعلنا هذا نبيّا وخصصناه بالرسالة ، وهذا ملِكا وخصصناه بالدنيا ، وهذا فقيرا وحرمناه الدنيا ، لنختبر الفقير بصبره على ما حُرِم مما أعطيه الغنيّ ، والملك بصبره على ما أعطيه الرسول من الكرامة ، وكيف رضي كل إنسان منهم بما أعطى وقُسِم له ، وطاعته ربه مع ما حرِم مما أعطى غيره . يقول : فمن أجل ذلك لم أعط محمدا الدنيا ، وجعلته يطلب المعاش في الأسواق ، ولأبتليكم أيها الناس ، وأختبر طاعتكم ربكم وإجابتكم رسوله إلى ما دعاكم إليه ، بغير عَرَض من الدنيا ترجونه من محمد أن يعطيكم على اتباعكم إياه لأني لو أعطيته الدنيا ، لسارع كثير منكم إلى اتباعه طمعا في دنياه أن ينال منها .
وبنحو الذي قلنا تأويل في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن أبي رجاء ، قال : ثني عبد القدوس ، عن الحسن ، في قوله : وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً . . . الاَية ، يقول هذا الأعمى : لو شاء الله لجعلني بصيرا مثل فلان ، ويقول هذا الفقير : لو شاء الله لجعلني غنيّا مثل فلان ، ويقول هذا السقيم : لو شاء الله لجعلني صحيحا مثل فلان .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، في قوله : وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أتَصْبرُونَ قال : يُمْسك عن هذا ويُوَسّع على هذا ، فيقول : لم يعطني مثل ما أعطى فلانا ، ويُبْتَلَى بالوجع كذلك ، فيقول : لم يجعلني ربي صحيحا مثل فلان في أشباه ذلك من البلاء ، ليعلم من يصبر ممن يجزع .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : ثني ابن إسحاق ، قال : ثني محمد بن أبي محمد ، فيما يروي الطبري ، عن عكرِمة ، أو عن سعيد ، عن ابن عباس ، قال : وأنزل عليه في ذلك من قولهم : ما لِهَذَا الرّسُولِ يَأْكُلُ الطّعامَ ويَمْشِي فِي الأسْوَاقِ . . . الاَية : وَما أرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ المُرْسَلِينَ إلاّ إِنّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطّعامَ ويَمْشُونَ فِي الأسْوَاقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أتَصْبِرُونَ أي جعلت بعضكم لبعض بلاء ، لتصبروا على ما تسمعون منهم ، وترون من خلافهم ، وتتبعوا الهدى بغير أن أعطيهم عليه الدنيا ولو شئت أن أجعل الدنيا مع رسلي فلا يخالفون لفعلت ، ولكني قد أردت أن أبتلي العباد بكم وأبتليكم بهم .
وقوله : وكانَ رَبّكَ بَصِيرا يقول : وربك يا محمد بصير بمن يجزع ومن يصبر على ما امتُحِن به من المحن . كما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج : وكانَ رَبّكَ بَصِيرا إن ربك لبصير بمن يجزع ومن يصبر .
{ وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق } أي إلا رسلا إنهم فحذف الموصوف لدلالة المرسلين عليه وأقيمت الصفة مقامه كقوله تعالى : { وما منا إلا له مقام معلوم } ، ويجوز أن تكون حالا اكتفى فيها بالضمير وهو جواب لقومهم { مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق } . وقرىء { يمشون } أي تمشيهم حوائجهم أو الناس . { وجعلنا بعضكم } أيها الناس . { لبعض فتنة } ابتلاء ومن ذلك ابتلاء الفقراء بالأغنياء ، والمرسلين بالمرسل إليهم ومناصبتهم لهم العداوة وإيذائهم لهم ، وهو تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم على ما قالوه بعد نقضه ، وفيه دليل على القضاء والقدر . { أتصبرون } علة للجعل والمعنى { وجعلنا بعضكم لبعض فتنة } لنعلم أيكم يصبر ونظيره قوله تعالى : { ليبلوكم أيكم أحسن عملا } ، أو حث على الصبر على ما افتتنوا به { وكان ربك بصيرا } بمن يصبر أبو بالصواب فيما يبتلى به وغيره .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وهذا احتجاج من الله تعالى ذكره لنبيه على مشركي قومه الذين قالوا:"ما لِهَذَا الرّسُولِ يَأْكُلُ الطّعامَ ويَمْشِي فِي الأسْوَاقِ" وجواب لهم عنه، يقول لهم جلّ ثناؤه: وما أنكر يا محمد هؤلاء القائلون ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، من أكلك الطعام ومشيك في الأسواق، وأنت لله رسول فقد علموا أنا ما أرسلنا قبلك من المرسلين إلاّ إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق كالذي تأكل أنت وتمشي، فليس لهم عليك بما قالوا من ذلك حجة.
فإن قال قائل: فإن «مَنْ» ليست في التلاوة، فكيف قلت معنى الكلام: إلاّ مَنْ إِنهم ليأكلون الطعام؟ قيل: قلنا في ذلك معناه: أن الهاء والميم في قوله: «إنهم»، كناية أسماء لم تُذكر، ولا بدّ لها من أن تعود على من كُنِي عنه بها، وإنما ترك ذكر «مَنْ» وإظهاره في الكلام اكتفاء بدلالة قوله: مِنَ المُرْسَلِينَ عليه، كما اكتفي في قوله: "وَما مِنّا إلاّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ "من إظهار «مَنْ»، ولا شكّ أن معنى ذلك: وما منا إلاّ من له مقام معلوم، كما قيل: "وَإنْ مِنْكُمْ إلاّ وَارِدُها" ومعناه: وإن منكم إلاّ من هو واردها فقوله: "إنّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطّعامَ" صلة ل «مَنِ» المتروك، كما يقال في الكلام: ما أرسلت إليك من الناس إلاّ مَنْ إنه ليبلغك الرسالة، فإنه «ليبلغك الرسالة» صلة ل «مَنْ».
وقوله: "وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً" يقول تعالى ذكره: وامتحنا أيها الناس بعضكم ببعض، جعلنا هذا نبيّا وخصصناه بالرسالة، وهذا ملِكا وخصصناه بالدنيا، وهذا فقيرا وحرمناه الدنيا، لنختبر الفقير بصبره على ما حُرِم مما أعطيه الغنيّ، والملك بصبره على ما أعطيه الرسول من الكرامة، وكيف رضي كل إنسان منهم بما أعطى وقُسِم له، وطاعته ربه مع ما حرِم مما أعطى غيره. يقول: فمن أجل ذلك لم أعط محمدا الدنيا، وجعلته يطلب المعاش في الأسواق، ولأبتليكم أيها الناس، وأختبر طاعتكم ربكم وإجابتكم رسوله إلى ما دعاكم إليه، بغير عَرَض من الدنيا ترجونه من محمد أن يعطيكم على اتباعكم إياه لأني لو أعطيته الدنيا، لسارع كثير منكم إلى اتباعه طمعا في دنياه أن ينال منها...
عن ابن عباس، قال: وأنزل عليه في ذلك من قولهم: "ما لِهَذَا الرّسُولِ يَأْكُلُ الطّعامَ ويَمْشِي فِي الأسْوَاقِ..." "وَما أرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ المُرْسَلِينَ إلاّ إِنّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطّعامَ ويَمْشُونَ فِي الأسْوَاقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أتَصْبِرُونَ" أي جعلت بعضكم لبعض بلاء، لتصبروا على ما تسمعون منهم، وترون من خلافهم، وتتبعوا الهدى بغير أن أعطيهم عليه الدنيا ولو شئت أن أجعل الدنيا مع رسلي فلا يخالفون لفعلت، ولكني قد أردت أن أبتلي العباد بكم وأبتليكم بهم.
وقوله: "وكانَ رَبّكَ بَصِيرا" يقول: وربك يا محمد بصير بمن يجزع ومن يصبر على ما امتُحِن به من المحن...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
إنّي جعلت بعضكم بلاءً لبعض لتصبروا على ما تسمعون منهم وترون من خلافهم وتتبعوا الهدى بغير أن أُعطيهم عليه الدنيا، ولو شئت أن أجعل الدنيا مع رُسلي فلا يخالفون لفعلت، ولكن قدّرت أن أبتلي العباد بكم وأبتليكم بهم...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أخبر أن الذين تَقْدَّموه من الرسل كانوا بَشَراً، ولم تكن الخصوصية لهم إلا ظهورَ المعجزات عليهم. وفي الجملة الفضائل بالمعاني لا بالصورة، ثم قال: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً}. فَضَّلَ بعضاً على بعض، وأمر المفضولَ بالصبر والرضاء، والفاضلَ بالشكر على العطاء وخصَّ قوماً بالبلاء وجعلهم فتنة لأهل البلاء، وخصَّ قوماً بالعوافي، وآخرين بالأسقام والآلام، فلا لِمَن نَعَّمَه مناقب، ولا لِمَنْ امتحنه معايب... فبحُكمِه لا يِجُرْمهم، وبفضله لا بفعلهم، وبإرادته لا بعبادتهم، وباختياره لا بأوضارهم، وبأقذاره لا بأوزارهم، وبه لا بهم. قوله: {أَتَصْبِرُونَ؟} استفهام في معنى الأمر، فَمَنْ ساعَدَه التوفيقُ صبر وشكر ومن قارنه الخذلان أبي وكفر.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
وما أرسلنا قبلك أحداً من المرسلين إلاّ آكلين وماشين... {فِتْنَةً} أي محنة وابتلاء. وهذا تصبير لرسول الله صلى الله عليه وسلم على ما قالوه واستبدعوه، من أكله الطعام ومشيه في الأسواق بعد ما احتج عليهم بسائر الرسل..
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
" وما أرسلنا قبلك من المرسلين "نزلت جوابا للمشركين حيث قالوا:"مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق "[الفرقان: 7].
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
يقول تعالى مخبرا عن جميع مَنْ بعثه من الرسل المتقدمين: إنهم كانوا يأكلون الطعام، ويحتاجون إلى التغذي به {وَيَمْشُونَ فِي الأسْوَاقِ} أي: للتكسب والتجارة، وليس ذلك بمناف لحالهم ومنصبهم؛ فإن الله جعل لهم من السمات الحسنة، والصفات الجميلة، والأقوال الفاضلة، والأعمال الكاملة، والخوارق الباهرة، والأدلة القاهرة، ما يستدل به كل ذي لب سليم، وبصيرة مستقيمة، على صدق ما جاءوا به من الله عز وجل.
مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير لابن باديس 1359 هـ :
وما أرسلنا قبلك رجالا من المرسلين إلا حالة أنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق: أي ما أرسلناهم في حالة من الأحوال إلا في هذه الحال. و إن واللام والحصر بما و إلا، كل هذه لتأكيد المعنى الذي سيق إليه الكلام، و هو إثبات أن رسول البشر لا يكون إلا بشرا ردا على منكري ذلك المشركين. وعبر بالمضارع في يأكلون ويمشون؛ لأنهما من ضروريات بشريتهم، فهو يتجدد ويتكرر منهم. وأكل الطعام والمشي في الأسواق كناية عن البشرية، لأنهما وصفان لازمان لها...وعلمنا أن الرسول لا يكون إلا من جنس المرسل إليهم، ليحصل الاتصال، و يمكن التلقي. وأن أهل الأرض لو كانوا ملائكة لأرسل لهم ملك، و أنهم لو أنزل عليهم بشر لكسى حلة البشرية و لا لتلبس عليهم أمره، و لقالوا فيه مثل ما قالوا في المرسلين من البشر...وعلمنا أن البشر يؤهل للرسالة باصطفاء الله له، و من مقتضى ذلك الاصطفاء تطهيره من أول نشأته من أوضار البشرية، وظلم الجسمانية وتسفلها فتبقى روحه على غاية الطهر، والعلوية النورانية مستعدة للاتصال بالملأ الأعلى، حتى تستكمل قواها فيأتيها الملك بالوحي...وعلمنا: أن الرسل و إن كانوا موافقين لنا الخلقة البشرية.. فإنهم مباينون لنا غاية المباينة في الخلقة النفسية، من حيث الطهر والكمال..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
هذا رد على قولهم: {مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق}...
فقد توسلوا به إلى إبطال رسالته بثبوت صفات البشر له، فكان الرد عليهم بأن جميع الرسل كانوا متصفين بصفات البشر، ولم يكن المشركون منكرين وجود رسل قبل محمد صلى الله عليه وسلم... وإذ كانوا موجودين فبالضرورة كانوا يأكلون الطعام إذ هم من البشر ويمشون في أسواق المدن والبادية لأن الدعوة تكون في مجامع الناس...وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو قريشاً في مجامعهم ونواديهم ويدعو سائر العرب في عكاظ وفي أيام الموسم...فضمير الخطاب في قوله: {بعضكم} يعم جميع الناس بقرينة السياق. وكلا البعضين مبهم يبينه المقام. وحال الفتنة في كلا البعضين مختلف، فبعضها فتنة في العقيدة، وبعضها فتنة في الأمن، وبعضها فتنة في الأبدان.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
هذا بيان أن الرسل لا يكونون إلا من البشر، وذلك ليستطيعوا أن يرشدوهم ويوجهوهم، ويهديهم الله تعالى بهم...لا بد أن يعيشوا كما يعيش الضعفاء، فلا يكونون ملوكا أو من حواشي الملوك، وإذا كان بعض الأنبياء ذكر بالملك كداود وسليمان، فقد كانوا ملوكا في سلطانهم الحق، ولكن في عيشهم كانوا يعيشون كالضعفاء، فداود عليه السلام كان يأكل من عمل يده، ولعل ابنه سليمان لم يكن من الملوك الذين يستقلون في معيشتهم عن رعيتهم، ومن المؤكد أنه لم يكن ملكا مستعليا على رعيته، ولا يعيش عيش ضعفائهم...
{وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً} جعل الأقوياء فتنة للضعفاء بإيذائهم، والكافرين فتنة للرسل بعنادهم، والأغنياء فتنة للفقراء باستعلائهم، والضعفاء فتنة للأقوياء بسبقهم إلى الإيمان والحق، وتأخرهم، وهكذا كل من أعطى خيرا دنيويا أو أخرويا يكون فتنة لمن لم يكن مثله، وإن الواجب للمفتون هو الصبر، والواجب على أهل الحق من الأنبياء والصديقين أن يصبروا... {وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} كان دالة على الدوام، وأن الناس تحت رقابة الله دائما، يعلم بحال الصابرين والتمكين منهم علم السميع الذي يسمع، والبصير الذي يبصر..
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
يرد هاهنا استفسار، وهو أن ردّ القرآن على المشركين في الآيات أعلاه قائم على أن جميع الأنبياء، كانوا من البشر. وهذا لا يحلّ المشكلة، بل يزيد من حدّتها، ذلك أن من الممكن أن يعمموا إشكالهم على جميع الأنبياء. و الجواب: أنّ الآيات القرآنية المختلفة تدلّ على أن إشكالهم على شخص النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وكانوا يعتقدون أنه اتخذ لنفسه وضعاً خاصاً به، ولهذا كانوا يقولون: ما لهذا الرّسول...وعلى فرض أنّهم سيعممون هذا الأشكال على جميع الأنبياء، فقد أعطى القرآن جوابهم أيضاً حيث يقول: (ولو جعلناه ملكاً لجعلناه رجلا)... إشارة إلى أن الإنسان فقط يستطيع أن يكون مرشداً للإنسان، فهو الواقف على جميع حاجاته ورغباته ومشكلاته ومسائله.