التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٖ مِّن قَلۡبَيۡنِ فِي جَوۡفِهِۦۚ وَمَا جَعَلَ أَزۡوَٰجَكُمُ ٱلَّـٰٓـِٔي تُظَٰهِرُونَ مِنۡهُنَّ أُمَّهَٰتِكُمۡۚ وَمَا جَعَلَ أَدۡعِيَآءَكُمۡ أَبۡنَآءَكُمۡۚ ذَٰلِكُمۡ قَوۡلُكُم بِأَفۡوَٰهِكُمۡۖ وَٱللَّهُ يَقُولُ ٱلۡحَقَّ وَهُوَ يَهۡدِي ٱلسَّبِيلَ} (4)

ثم أبطل - سبحانه - بعض العادات التى كان متفشية فى المجتمع ، وكانت لا تتناسب مع شريعة الإِسلام وآدابه ، فقال - تعالى - : { مَّا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ . . . . الله غَفُوراً رَّحِيماً } .

قال القرطبى ما ملخصه : قوله - تعالى - { مَّا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ } نزلت فى رجل من قريش اسمه جميل بن معمر الفهرى ، كان حفاظا لما يسمع ، وكان يقول : لى قلبان أعقل بهما أفضل من عقل محمد . فلما هزم المشركون يوم بدر ، ومعهم هذا الرجل ، رآه أبو سفيان وهو معلق إحدى نعليه فى يده والأخرى فى رجله - من شدة الهلع - ، فقال له أبو سفيان هو معلق إحدى نعليك فى يدك والأخرى فى رجلك ؟ قال : ما شعرت إلا أنهما فى رجلى . فعرفوا يومئذ أنه لو كان له قلبان لما نسى نعله فى يده .

وقيل سبب نزولها أن بعض المنافقين قال : إن محمدا صلى الله عليه وسلم له قلبان ، لأنه ربما كان فى شئ فنزع فى غيره نزعه ثم عاد إلى شأنه الأول ، فأكذبهم الله بقوله : { مَّا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ } .

ويرى بعضهم : أن هذه الجملة الكريمة ، مثل ضربه الله - تعالى - للمظاهر من امرأته ، والمتبنى ولد غيره ، تمهيدا لما بعده .

أى : كما أن الله - تعالى - لم يخلق للإِنسان قلبين فى جوفه ، كذلك لم يجعل المرأة الواحدة زوجا للرجل وأما له فى وقت واحد ، وكذلك لم يجعل المرء دعيا لرجل وابنا له فى زمن واحد .

وإلى هذا المعنى أشار صاحب الكشاف بقوله : أى : ما جمع الله قلبين فى جوف ، ولا زوجية وأمومة فى امرأة ، ولا بنوة ودعوة فى رجل . . لأن الأم مخدومة مخفوض لها الجناح ، والزوجة ليست كذلك .

ولأن البنؤة أصالة فى النسب وعراقة فيه ، والدعوة : إلصاق عارض بالتسمية لا غير .

فإن قلت : أى فائدة فى ذكر الجوف ؟ قلت : الفائدة فيه كالفائدة فى قوله - تعالى - : { ولكن تعمى القلوب التي فِي الصدور } وذلك ما يصلح للسامع من زيادة التصور والتجلى للمدلول عليه ، لأنه إذا سمع به ، صور لنفسه جوفا يشتمل على قلبين فكان أسرع إلى الإِنكار .

وقوله - سبحانه - : { وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللائي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ } إبطال لما كان سائدا من أن الرجل كان إذا قال لزوجته أنت على كظهر أمى حرمت عليه .

يقال . ظاهر فلان من امرأته وتظهر وظهر منها ، إذا قال لها : أنت على كظهر أمى ، يريد أنها محرمة عليه كحرمة أمه .

وقد جاء الكلام عن الظهار ، وعن حكمه ، وعن كفارته ، فى سورة المجادلة ، فى قوله - تعالى - : { قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ التي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وتشتكي إِلَى الله والله يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ الذين يُظَاهِرُونَ مِنكُمْ مِّن نِّسَآئِهِمْ مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللائي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ القول وَزُوراً وَإِنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ }

وقوله - سبحانه - : { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ } إبطال لعادة أخرى كانت موجودة ، وهى عادة التبنى .

والأدعياء : جمع دعى . وهو الولد الذى يدعى ابنا لغير أبيه وكان الرجل يتبنى ولد غيره ، ويجرى عليه أحكام البنوة النسبية ، ومنها حرمة زواج الأب بزوجه ابنه بالتبنى بعد طلاقها ، ومنها التوارث فيما بينهما .

قال ابن كثير : وقوله : { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ } هذا هو المقصود بالنفى ، فإنها نزلت فى شأن زيد بن حارثة ، مولى النبى صلى الله عليه وسلم ، فقد كان صلى الله عليه وسلم قد تبناه قبل النبوة ، وكان يقال له زيد بن محمد . فأراد الله - تعالى - أن يقطع هذا الإِلحاق ، وهذه النسبة بقوله : { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ } ، كما قال فى أثناء السورة : { مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ ولكن رَّسُولَ الله وَخَاتَمَ النبيين } واسم الإِشارة فى قوله : { ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ } يعود إلى ما سبق ذكره من التلفظ بالظهار ، ومن إجراء التبنى على ولد الغير ، وهو مبتدأ ، وما بعده خبر .

أى : ذلكم الذى تزعمونه فى تشبيه الزوجة بالأم فى التحريم ، ومن نسبة الأبناء إلى غير آبائهم الشرعيين ، هو مجرد قول باللسان لا يؤيده الواقع ، ولا يسانده الحق .

قال ابن جرير : وقوله : { ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ } يقول - تعالى ذكره - هذا القول ، وهو قول الرجل لأمرأته : أنت على كظهر أمى ، ودعاؤه من ليس بابنه أنه ابنه ، إنما هو قولكم بأفواهكم ، لا حقيقة له ، ولا يثبت بهذه الدعوة نسب الذى ادعيت بنوته ، ولا تصير الزوجة أما بقول الرجل لها : أنت على كظهر أمى .

ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله : { والله يَقُولُ الحق وَهُوَ يَهْدِي السبيل } أى : والله - تعالى - يقول الحق الثابت الذى لا يحوم حوله باطل ، وهو - سبحانه - دونه غير يهدى ويرشد إلى السبيل القويم الذى يوصل إلى الخير والصلاح . وما دام الأمر كذلك فاتركوا عاداتكم وتقاليدكم التى ألفتموها . والتى أبطلها الله - تعالى - بحكمته ، وابتعوا ما يأمركم به - سبحانه - .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٖ مِّن قَلۡبَيۡنِ فِي جَوۡفِهِۦۚ وَمَا جَعَلَ أَزۡوَٰجَكُمُ ٱلَّـٰٓـِٔي تُظَٰهِرُونَ مِنۡهُنَّ أُمَّهَٰتِكُمۡۚ وَمَا جَعَلَ أَدۡعِيَآءَكُمۡ أَبۡنَآءَكُمۡۚ ذَٰلِكُمۡ قَوۡلُكُم بِأَفۡوَٰهِكُمۡۖ وَٱللَّهُ يَقُولُ ٱلۡحَقَّ وَهُوَ يَهۡدِي ٱلسَّبِيلَ} (4)

يقول تعالى موطئا قبل المقصود المعنوي أمرا حسيا معروفا ، وهو أنه كما لا يكون للشخص الواحد قلبان في جوفه ، ولا تصير زوجته التي يظاهر منها بقوله : أنت عَلَيَّ كظهر أمي أمًا له ، كذلك لا يصير الدَّعيّ ولدًا للرجل إذا تبنَّاه فدعاه ابنا له ، فقال : { مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ } ، كقوله : { مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلا اللائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا } . [ المجادلة : 3 ] .

وقوله : { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ } : هذا هو المقصود بالنفي ؛ فإنها نزلت في شأن زيد بن حارثة مولى النبي صلى الله عليه وسلم ، كان النبي صلى الله عليه وسلم قد تبناه قبل النبوة ، وكان يقال له : " زيد بن محمد " فأراد الله تعالى أن يقطع هذا الإلحاق وهذه النسبة بقوله : { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ } كما قال في أثناء السورة : { مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا } [ الأحزاب : 40 ] وقال هاهنا : { ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ } يعني : تبنيكم لهم قول لا يقتضي أن يكون ابنا حقيقيا ، فإنه مخلوق من صلب رجل آخر ، فما يمكن أن يكون له أبوان ، كما لا يمكن أن يكون للبشر الواحد قلبان .

{ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ } : قال سعيد بن جبير { يَقُولُ الْحَقَّ } أي : العدل . وقال قتادة : { وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ } أي : الصراط المستقيم .

وقد ذكر غير واحد : أن هذه الآية نزلت في رجل من قريش ، كان يقال له : " ذو القلبين " ، وأنه كان يزعم أن له قلبين ، كل منهما بعقل وافر . فأنزل الله هذه الآية ردا عليه . هكذا روى العَوْفي عن ابن عباس . قاله مجاهد ، وعكرمة ، والحسن ، وقتادة ، واختاره ابن جرير .

وقال الإمام أحمد : حدثنا حسن ، حدثنا زهير ، عن قابوس - يعني ابن أبي ظِبْيَان - أن أباه حدثه قال : قلت لابن عباس : أرأيت قول الله تعالى{[23174]} : { مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ } ، ما عنى بذلك ؟ قال : قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما يصلي ، فخَطَر خَطْرَة ، فقال المنافقون الذين يصلون معه : ألا ترون له قلبين ، قلبا معكم وقلبا معهم ؟ فأنزل الله ، عز وجل : { مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ }{[23175]} .

وهكذا رواه الترمذي عن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي ، عن صاعد الحراني - وعن عبد بن حميد ، عن أحمد بن يونس - كلاهما عن زهير ، وهو ابن معاوية ، به . ثم قال : وهذا حديث حسن . وكذا رواه ابن جرير ، وابن أبي حاتم من حديث زهير ، به . {[23176]}

وقال عبد الرزاق : أخبرنا مَعْمَر ، عن الزهري ، في قوله : { مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ } قال : بلغنا أن ذلك كان في زيد بن حارثة ، ضُرب له مثل ، يقول : ليس ابن رجل آخر ابنك{[23177]} .

وكذا قال مجاهد ، وقتادة ، وابن زيد : أنها نزلت في زيد بن حارثة . وهذا يوافق ما قدَّمناه من التفسير ، والله أعلم .


[23174]:- في ف: "عز وجل".
[23175]:- المسند (1/267).
[23176]:- سنن الترمذي برقم (3199) وتفسير الطبري (21/74).
[23177]:- تفسير عبد الرزاق (2/92).
 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٖ مِّن قَلۡبَيۡنِ فِي جَوۡفِهِۦۚ وَمَا جَعَلَ أَزۡوَٰجَكُمُ ٱلَّـٰٓـِٔي تُظَٰهِرُونَ مِنۡهُنَّ أُمَّهَٰتِكُمۡۚ وَمَا جَعَلَ أَدۡعِيَآءَكُمۡ أَبۡنَآءَكُمۡۚ ذَٰلِكُمۡ قَوۡلُكُم بِأَفۡوَٰهِكُمۡۖ وَٱللَّهُ يَقُولُ ٱلۡحَقَّ وَهُوَ يَهۡدِي ٱلسَّبِيلَ} (4)

القول في تأويل قوله تعالى : { مّا جَعَلَ اللّهُ لِرَجُلٍ مّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللاّئِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنّ أُمّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللّهُ يَقُولُ الْحَقّ وَهُوَ يَهْدِي السّبِيلَ } .

اختلف أهل التأويل في المراد من قول الله ما جَعَلَ اللّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ فقال بعضهم : عنى بذلك تكذيب قوم من أهل النفاق ، وصفوا نبيّ الله صلى الله عليه وسلم بأنه ذو قلبين ، فنفى الله ذلك عن نبيه ، وكذّبهم . ذكر من قال ذلك :

حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا حفص بن نفيل ، قال : حدثنا زهير بن معاوية ، عن قابوس بن أبي ظبيان أن أباه حدثه ، قال : قلنا لابن عباس : أرأيت قول الله ما جَعَلَ اللّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْن فِي جَوْفِه ما عنى بذلك ؟ قال : قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فصلى ، فخطر خطرة فقال المنافقون الذين يصلون معه : إن له قلبين ، قلبا معكم ، وقلبا معهم ، فأنزل الله : ما جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَين في جَوْفِهِ .

وقال آخرون : بل عنى بذلك : رجل من قريش كان يُدعى ذا القلبين من دِهْيه . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : ما جَعَلَ اللّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ قال : كان رجل من قريش يسمى من دهيه ذا القلبين ، فأنزل الله هذا في شأنه .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ما جَعَلَ اللّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَين فِي جَوْفِهِ قال : إن رجلاً من بني فهر ، قال : إن في جوفي قلبين ، أعقل بكل واحد منهما أفضل من عقل محمد «وكذب » .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله ما جَعَلَ اللّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ قال قتادة : كان رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمى ذا القلبين ، فأنزل الله فيه ما تسمعون .

قال قتادة : وكان الحسن يقول : كان رجل يقول لي : نفس تأمرني ، ونفس تنهاني ، فأنزل الله فيه ما تسمعون .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن خصيف ، عن عكرمة ، قال : كان رجل يسمى ذا القلبين ، فنزلت ما جَعَلَ اللّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِه .

وقال آخرون : بل عنى بذلك زيد بن حارثة من أجل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان تبنّاه ، فضرب الله بذلك مثلاً . ذكر من قال ذلك :

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، في قوله : ما جَعَلَ اللّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ قال : بلغنا أن ذلك كان في زيد بن حارثة ، ضرب له مثلاً يقول : ليس ابن رجل آخر ابنك .

وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : ذلك تكذيب من الله تعالى قول من قال لرجل في جوفه قلبان يعقل بهما ، على النحو الذي رُوي عن ابن عباس وجائز أن يكون ذلك تكذيبا من الله لمن وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك ، وأن يكون تكذيبا لمن سمى القرشيّ الذي ذُكر أنه سمي ذا القلبين من دهيه ، وأيّ الأمرين كان فهو نفي من الله عن خلقه من الرجال أن يكونوا بتلك الصفة .

وقوله : وَما جَعَلَ أزْوَاجَكُمُ اللاّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنّ أمّهاتِكُمْ يقول تعالى ذكره : ولم يجعل الله أيها الرجال نساءكم اللائي تقولون لهنّ : أنتن علينا كظهور أمهاتنا أمهاتكم ، بل جعل ذلك من قيلكم كذبا ، وألزمكم عقوبة لكم كفّارة . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله وَما جَعَلَ أزْوَاجَكُمُ اللاّئي تُظاهِرُونَ مِنْهُنّ أُمّهاتِكُمْ : أي ما جعلها أمك فإذا ظاهر الرجل من امرأته ، فإن الله لم يجعلها أمه ، ولكن جعل فيها الكفّارة .

وقوله : وَما جَعَلَ أدعِياءَكُمْ أبْناءَكُمْ يقول : ولم يجعل الله من ادّعيت أنه ابنك ، وهو ابن غيرك ابنك بدعواك . وذُكر أن ذلك نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل تبنيه زيد بن حارثة . ذكر الرواية بذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : أدْعِياءَكُمْ أبْناءَكُمْ قال : نزلت هذه الاَية في زيد بن حارثة .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَما جَعَلَ أدْعِياءَكُمْ أبْناءَكُمْ قال : كان زيد بن حارثة حين منّ الله ورسوله عليه ، يقال له : زيد بن محمد ، كان تبنّاه ، فقال الله : ما كانَ مُحَمّدٌ أبا أحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ قال : وهو يذكر الأزواج والأخت ، فأخبره أن الأزواج لم تكن بالأمهات أمهاتكم ، ولا أدعياءكم أبناءكم .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَما جَعَلَ أدْعِياءَكُمْ أبْناءَكُمْ وما جعل دعّيك ابنك ، يقول : إذا ادّعى رجل رجلاً وليس بابنه ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بأفْوَاهِكُمْ . . . الاَية . وذُكر لنا أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقول : «من ادّعى إلى غَير أبِيهِ مُتَعَمّدا حَرّمَ اللّهُ عَلَيْهِ الجَنّةَ » .

حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا ابن أبي زائدة ، عن أشعث ، عن عامر ، قال : ليس في الأدعياء زيد .

وقوله ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بأفْوَاهِكُمْ يقول تعالى ذكره هذا القول وهو قول الرجل لامرأته : أنت عليّ كظهر أمي ، ودعاؤه من ليس بابنه أنه ابنه ، إنما هو قولكم بأفواهكم لا حقيقة له ، لا يثبت بهذه الدعوى نسب الذي ادّعيت بنوّته ، ولا تصير الزوجة أمّا بقول الرجل لها : أنت عليّ كظهر أمي وَاللّهُ يقُولُ الحَقّ يقول : والله هو الصادق الذي يقول الحقّ ، وبقوله يثبت نسب من أثبت نسبه ، وبه تكون المرأة للمولود ، أمّا إذا حكم بذلك وَهُوَ يَهْدِي السّبِيلَ يقول تعالى ذكره : والله يبين لعباده سبيل الحقّ ، ويرشدهم لطريق الرشاد .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٖ مِّن قَلۡبَيۡنِ فِي جَوۡفِهِۦۚ وَمَا جَعَلَ أَزۡوَٰجَكُمُ ٱلَّـٰٓـِٔي تُظَٰهِرُونَ مِنۡهُنَّ أُمَّهَٰتِكُمۡۚ وَمَا جَعَلَ أَدۡعِيَآءَكُمۡ أَبۡنَآءَكُمۡۚ ذَٰلِكُمۡ قَوۡلُكُم بِأَفۡوَٰهِكُمۡۖ وَٱللَّهُ يَقُولُ ٱلۡحَقَّ وَهُوَ يَهۡدِي ٱلسَّبِيلَ} (4)

{ ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه } أي ما جمع قلبين في جوف لأن القلب معدن الروح الحيواني المتعلق بالنفس الإنساني أولا ومنع القوى بأسرها وذلك يمنع التعدد . { وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم وما جعل أدعياءكم أبناءكم } وما جمع الزوجية والأمومة في امرأة ولا الدعوة والبنوة في رجل ، والمراد بذلك رد ما كانت العرب تزعم من أن اللبيب الأريب له قلبان ولذلك قيل لأبي معمر أو جميل بن أسد الفهري ذو القلبين ، والزوجة المظاهر عنها كالأم ودعي الرجل ابنه ولذلك كانوا يقولون لزيد بن حارثة الكلبي عتيق رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن محمد ، أو المراد نفي الأمومة والبنوة عن المظاهر عنها والمتبني ونفي القلبين لتمهيد أصل يحملان عليه . والمعنى كما لم يجعل الله قلبين في جوف لأدائه إلى التناقض وهو أن يكون كل منهما أصلا لكل القوى وغير أصل لم يجعل الزوجة والدعي اللذين لا ولادة بينهما وبينه أمه وابنه اللذين بينهما وبينه ولادة ، وقرأ أبو عمرو " اللاي " بالياء وحده على أن أصله اللاء بهمزة فخففت وعن الحجازيين مثله ، وعنهما وعن يعقوب بالهمز وحده ، وأصل { تظاهرون } تتظاهرون فأدغمت التاء الثانية في الظاء . وقرأ ابن عامر { تظاهرون } بالإدغام وحمزة والكسائي بالحذف وعاصم { تظاهرون } من ظاهر ، وقرئ " تظهرون " من ظهر بمعنى ظاهر كعقد بمعنى عاقد وتظهرون من الظهور . ومعنى الظهار : أن يقول للزوجة أنت علي كظهر أمي ، مأخوذ من الظهر باعتبار اللفظ كالتلبية من لبيك وتعديته بمن لتضمنه معنى التجنب لأنه كان طلاقا في الجاهلية وهو في الإسلام يقتضي الطلاق أو الحرمة إلى أداء الكفارة كما عدي آلى بها ، وهو بمعنى حلف وذكر الظهر للكناية عن البطن الذي هو عموده فإن ذكره يقارب ذكر الفرج ، أو للتغليظ في التحريم فإنهم كانوا يحرمون إتيان المرأة وظهرها إلى السماء ، وأدعياء جمع دعي على الشذوذ وكأنه شبه بفعيل بمعنى فاعل فجمع جمعه . { ذلكم } إشارة إلى ما ذكر أو إلى الأخير . { قولكم بأفواهكم } لا حقيقة له في الأعيان كقول الهاذي . { والله يقول الحق } ما له حقيقة عينية مطابقة له . { وهو يهدي السبيل } سبيل الحق .