التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَيۡبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ} (3)

ثم فصل القرآن بعد ذلك أوصاف المتقين ، ومدحهم بجملة من المناقب الحميدة ، فقال : { الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب } أي : يصدقون بما غاب عن حواسهم ، كالصانع وصفاته ، وكاليوم الآخر وما فيه من بعث وحساب وثواب وعقاب .

والإيمان لغة التصديق والإذعان ، وهو إفعال من الأمن . وشرعاً التصديق بما علم بالضرورة أنه من الدين ، كالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر . . . الخ ، وعدى { يُؤْمِنُونَ } بالباء لتضمينه معنى أقر واعترف .

والغيب : مصدر غاب يغيب ، وكثيراً ما يستعمل بمعنى الغائب ، وهو الظاهر من هذه الآية الكريمة . ومعناه : ما لا تدركه الحواس ، ولا يعلم ببداهة العقل . قال بعض العلماء : وخص بالذكر الإيمان بالغيب دون غيره من متعلقات الإيمان ، لأن الإيمان بالغيب هو الأصل في اعتقاد إمكان ما لا تخبر به الرسل عن وجود الله والعالم العلوى ، فإذا آمن به المرء وتصدى لسماع دعوة الرسول وللنظر فيما يبلغه عن الله - تعالى - فسهل عليه إدراك الأدلة ، وأما من يعتقد أنه ليس من وراء عالم الماديات عالم آخر ، فقد راض نفسه على الإعراض عن الدعوة ، كما هو حال الماديين الذين يقولون : " ما يهلكنا إلا الدهر :

والإيمان بالغيب : يستلزم التصديق به على وجه الجزم ، وهو لا يحصل إلا عن دليل .

ولا شك أن قيام البراهين على صدق من أخبر بالغيب يجعل المؤمن بهذا الغيب مصدقاً عن دليل ، فنحن لا نحتاج في الإيمان بالملائكة والكتب السماوية السابقة ، والرسل الذين أرسلوا من قبل ، والبعث وما فيه من ثواب وعقاب ، لا نحتاج في الإيمان بكل ذلك إلى دليل زائد على الأدلة التي قامت على صدق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .

والإيمان بالغيب دليل على اتساع العقول ، وسلامة القلوب ، إذ أن معنى الإيمان بالغيب هو أن عقولهم قد سلم إدراكها ، وتقشعت عنها غشاواتها ، وامتد نظرها في الكائنات فأدركت أن لها مبدعاً حكيماً وخالقاً قديراً ، جعلها تسير بنظام محكم ، فهذه كواكب تظهر وتغيب ، وسماء مرفوعة بغير عمد ، وأرض راسية لا تميد ولا تضطرب . . . { صُنْعَ الله الذي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ } فكان من ذلك لتلك العقول براهين قاطعة على وجود خالق مدبر ، وحكيم قدير ، ومبدع لا تأخذه سنة ولا نوم .

والإيمان بالغيب الذي أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم يقوى ويعظم كلما قوى الإيمان في القلوب ، واستولى الصفاء على النفوس ، وقد مدح النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين بالغيب في أحاديث متعددة ، منها ما جاء عن خالد بن دريك ، عن ابن محيريز قال : قلت لابن جمعة : حدثنا حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : نعم أحدثك حديثاً . تغدينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا أبو عبيدة بن الجراح فقال : " يا رسول الله ، هل أحد خير منا ؟ أسلمنا معك وجاهدنا معك .

قال : نعم ، قوم من بعدكم يؤمنون بي ولم يروني " . قال ابن كثير : فقد مدحهم على ذلك وذكر أنهم أعظم أجراً من هذه الحيثية لا مطلقاً .

وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني وابن منده وأبو نعيم عن بديلة بنت أسلم قالت : صليت الظهر أو العصر في مسجد بني حارثة ، واستقبلنا مسجد إيلياء فصلينا سجدتين ، ثم جاء من يخبرنا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استقبل البيت ، فتحول الرجال مكان النساء ، والنساء مكان الرجال ، فصلينا السجدتين الباقيتين ونحن مستقبلون البيت الحرام ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " أولئك قوم آمنوا بالغيب " تلك أول صفة نتيجة التقوى وهي الإيمان بالغيب ، أما الصفة الثانية التي مدح الله بها المتقين فهي قوله - تعالى - : { وَيُقِيمُونَ الصلاة } . الصلاة في اللغة الدعاء ، من صلى يصلى إذا دعا ، واستعملها الشارع في العبادة ذات الركوع والسجود لاشتمالها على الدعاء ، والإقامة في الأصل : الدوام والثبات ، من قولك : قام الحق أي : ظهر وثبت . ومعنى { وَيُقِيمُونَ الصلاة } : يؤدونها في أوقاتها المقدرة لها ، مع تعديل أركانها ، وإيقاعها مستوفية لواجباتها وسننها وآدابها وخشوعها ، فإن الصلاة المقامة بحق هي تلك التي يصحبها الإخلاص ، واستحضار جلال الله في الركوع والسجود ، وهي التي تترتب عليها الآثار العظيمة من تزكية النفس ، وعفافها ، وتركها لكل الشرور والآثام ، كما قال - تعالى - { إِنَّ الصلاة تنهى عَنِ الفحشآء والمنكر } وقدم الإيمان بالغيب على إقامة الصلاة تعظيماً لعمل القلب ، واعتداداً بشرطية الإيمان في صحة أعمال الجوارح .

وقدم إقامة الصلاة على الإنفاق ، لأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر ، ولأنها تتكرر في اليوم خمس مرات ، ولأنها صلة بين العبد وربه ، والإنفاق صلته بالناس ، ولأن مشروعيتها كانت سابقة على مشروعية الزكاة . أما الصفة الثالثة التي مدح الله بها المتقين فهي قوله - تعالى - : { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } . أي : ومما أعطيناهم وملكناهم يتصدقون في وجوه الخير ، ويمدون أيديهم بالإحسان إلى الفقير والمسكين .

والرزق عند جمهور العلماء ما صلح للانتفاع به حلالا كان أو حراماً ، خلافاً للمعتزلة الذين يرون أن الحرام ليس برزق . والإنفاق : إخراج المال وإنفاده وصرفه ، يقال : نفق - كفرح ونصر - نفد وفني أو قلّ . وأنفق ماله أنفده ، وأصل المادة يدل على الخروج والذهاب ، ومنه : نافق فلان ، والنافقاء ، والنفق . وقال " ينفقون " ولم يقل أنفقوا ، ليشعر بأن الإنفاق منهم يتجدد بين وقت وآخر . ولم يحدد وجوه الإنفاق بل تركها مطلقة لتشمل الفرض والواجب وغيرهما من وجوه الإحسان .

وإيراد " من " في قوله تعالى - { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ } للإشارة إلى أن مواظبتهم على إنفاق أموالهم بين الحين والحين ، كفيل بتوصيلهم إلى زمرة المهتدين المفلحين ، وللإشعار بأنهم ينفقون بعض أموالهم مبتعدين عن الإسراف والتبذير حتى لا يتركوا ورثتهم عالة يتكففون وجوه الناس .

هذا ، وقد عنى القرآن الكريم عناية فائقة بالحض على الإنفاق في وجوه الخير ، ومدح الذين يفعلون ذلك مدحاً عظيماً في عشرات الآيات ، وذلك لأن الأمة التي يكثر فيها المنفقون لأموالهم في وجوه الخير ، لا بد أن تعز كلمتها ، وتسلم من كوارث شتى ، كالجهل ، والفقر ، والمرض .

فببذل المال تسد حاجات البؤساء ، وتشاد معاهد التعليم ، وتقام وسائل حفظ الصحة ، وتنمو المحبة والمودة بين الأغنياء والفقراء . قال تعالى : { مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ والله يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ }

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{ٱلَّذِينَ يُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَيۡبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَٰهُمۡ يُنفِقُونَ} (3)

قال أبو جعفر الرازي ، عن العلاء بن المسيب بن رافع ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله ، قال : الإيمان التصديق .

وقال علي بن أبي طلحة وغيره ، عن ابن عباس ، { يُؤْمِنُونَ } يصدقون .

وقال مَعْمَر عن الزهري : الإيمان العمل .

وقال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس : { يُؤْمِنُونَ } يخشون .

قال ابن جرير وغيره : والأولى أن يكونوا موصوفين بالإيمان بالغيب قولا واعتقادًا وعملا قال : وقد تدخل الخشية لله في معنى الإيمان ، الذي هو تصديق القول بالعمل ، والإيمان كلمة جامعةٌ للإقرار بالله وكتبه ورسله ، وتصديق الإقرار بالفعل . قلت : أما الإيمان في اللغة فيطلق على التصديق المحض ، وقد يستعمل في القرآن ، والمراد به ذلك ، كما قال تعالى : { يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ } [ التوبة : 61 ] ، وكما قال إخوة يوسف لأبيهم : { وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ } [ يوسف : 17 ] ، وكذلك إذا استعمل مقرونا مع الأعمال ؛ كقوله : { إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ } [ الإنشقاق : 25 ، والتين : 6 ] ، فأما إذا استعمل مطلقًا فالإيمان الشرعي المطلوب لا يكون إلا اعتقادًا وقولا وعملا .

هكذا ذهب إليه أكثر الأئمة ، بل قد حكاه الشافعي وأحمد بن حنبل وأبو عُبَيد وغير واحد إجماعًا : أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص . وقد ورد فيه آثار كثيرة وأحاديث أوردنا{[1175]} الكلام فيها في أول شرح البخاري ، ولله الحمد والمنة .

ومنهم من فسره بالخشية ، لقوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ } [ الملك : 12 ] ، وقوله : { مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ } [ ق : 33 ] ، والخشية خلاصة الإيمان والعلم ، كما قال تعالى : { إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ } [ فاطر : 28 ] .

وأما الغيب المراد هاهنا فقد اختلفت عبارات السلف فيه ، وكلها صحيحة ترجع إلى أن الجميع مراد .

قال أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، في قوله : { يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ } قال : يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وجنته وناره ولقائه ، ويؤمنون بالحياة بعد الموت وبالبعث ، فهذا غيب كله .

وكذا قال قتادة بن دعامة .

وقال السدي ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود ، وعن ناس من أصحاب النبي{[1176]} صلى الله عليه وسلم : أما الغَيب فما غاب عن العباد من أمر الجنة ، وأمر النار ، وما ذكر في القرآن .

وقال محمد بن إسحاق ، عن محمد بن أبي محمد ، عن عِكْرِمة ، أو عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { بِالْغَيْبِ } قال : بما جاء منه ، يعني : مِنَ الله تعالى .

وقال سفيان الثوري ، عن عاصم ، عن زِرّ ، قال : الْغَيْب القرآن .

وقال عطاء بن أبي رباح : من آمن بالله فقد آمن بالغيب .

وقال إسماعيل بن أبي خالد : { يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ } قال : بغيب الإسلام .

وقال زيد بن أسلم : { الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ } قال : بالقدر . فكل هذه متقاربة في معنى واحد ؛ لأن جميع هذه المذكورات من الغيب الذي يجب الإيمان به .

وقال سعيد بن منصور : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن عمارة بن عمير ، عن عبد الرحمن بن يزيد{[1177]} قال : كنا عند عبد الله بن مسعود جلوسًا ، فذكرنا أصحَاب النبي صلى الله عليه وسلم وما سبقوا به ، قال : فقال عبد الله : إن أمر محمد صلى الله عليه وسلم كان بينا لمن رآه ، والذي لا إله غيره ما آمن أحد قط إيمانا أفضل من إيمان بغيب ، ثم قرأ : { الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ } إلى قوله : { الْمُفْلِحُونَ } [ البقرة : 1 - 5 ]{[1178]} .

وهكذا رواه ابن أبي حاتم ، وابن مَرْدُويه ، والحاكم في مستدركه ، من طرق ، عن الأعمش ، به{[1179]} .

وقال الحاكم : صحيح على شرط الشيخين ، ولم يخرجاه .

وفي معنى هذا الحديث الذي رواه [ الإمام ]{[1180]} أحمد ، حدثنا أبو المغيرة ، أخبرنا الأوزاعي ، حدثني أسيد{[1181]} بن عبد الرحمن ، عن خالد بن دُرَيك ، عن ابن مُحَيريز ، قال : قلت لأبي جمعة : حدثنا حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : نعم ، أحدثك حديثًا جيدًا : تغدينا{[1182]} مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا أبو عبيدة بن الجراح ، فقال : يا رسول الله ، هل أحد{[1183]} خير منا ؟ أسلمنا معك وجاهدنا معك . قال : «نعم ، قوم من بعدكم يؤمنون بي ولم يروني »{[1184]} .

طريق أخرى : قال أبو بكر بن مَرْدُويه في تفسيره : حدثنا عبد الله بن جعفر ، حدثنا إسماعيل عن عبد الله بن مسعود ، حدثنا عبد الله بن صالح ، حدثنا معاوية بن صالح ، عن صالح بن جُبَيْر ، قال : قدم علينا أبو جمعة الأنصاري ، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيت المقدس ، ليصلي فيه ، ومعنا يومئذ رجاء بن حيوة ، فلما انصرف{[1185]} خرجنا نشيعه ، فلما أراد الانصراف قال : إن لكم جائزة وحقا ، أحدثكم بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قلنا : هات رحمك الله قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا معاذ بن جبل عاشر عشرة ، فقلنا : يا رسول الله ، هل من قوم أعظم أجرًا منا ؟ آمنا بك واتبعناك ، قال : «ما يمنعكم من ذلك ورسول الله بين أظهركم يأتيكم بالوحي من السماء ، بل قوم من بعدكم يأتيهم كتاب بين لوحين يؤمنون به ويعملون بما فيه ، أولئك أعظم منكم أجرا » مرتين{[1186]} .

ثم رواه من حديث ضَمْرَة بن ربيعة ، عن مرزوق بن نافع ، عن صالح بن جبير ، عن أبي جمعة ، بنحوه{[1187]} .

وهذا الحديث فيه دلالة على العمل بالوِجَادة التي اختلف فيها أهل الحديث ، كما قررته في أول شرح البخاري ؛ لأنه مدحهم على ذلك وذكر أنهم أعظم أجرًا من هذه الحيثية لا مطلقا .

وكذا الحديث الآخر الذي رواه الحسن بن عرفة العبدي : حدثنا إسماعيل بن عياش الحمصي ، عن المغيرة بن قيس التميمي ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أي الخلق أعجب إليكم إيمانا ؟ » . قالوا : الملائكة . قال : «وما لهم لا يؤمنون وهم عند ربهم ؟ » . قالوا : فالنبيون . قال : «وما لهم لا يؤمنون والوحي ينزل عليهم ؟ » . قالوا : فنحن . قال : «وما لكم لا تؤمنون وأنا بين أظهركم ؟ » . قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ألا إن أعجب الخلق إليّ إيمانا لَقَوْمٌ يكونون من بعدكم يَجدونَ صحفا فيها كتاب يؤمنون بما فيها »{[1188]} .

قال أبو حاتم الرازي : المغيرة بن قيس البصري منكر الحديث .

قلت : ولكن قد روى أبو يعلى في مسنده ، وابن مردويه في تفسيره ، والحاكم في مستدركه ، من حديث محمد بن أبي حميد ، وفيه ضعف ، عن زيد بن أسلم ، عن أبيه ، عن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، بمثله أو نحوه . وقال الحاكم : صحيح الإسناد ، ولم يخرجاه{[1189]} وقد روي نحوه عن أنس بن مالك مرفوعًا{[1190]} ، والله أعلم .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا عبد الله بن محمد المسندي ، حدثنا إسحاق بن إدريس ، أخبرني إبراهيم بن جعفر بن محمود بن سلمة الأنصاري ، أخبرني جعفر بن محمود ، عن جدته تويلة{[1191]} بنت أسلم ، قالت : صليت الظهر أو العصر في مسجد بني حارثة ، فاستقبلنا مسجد إيلياء{[1192]} ، فصلينا سجدتين ، ثم جاءنا من يخبرنا : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استقبل البيت{[1193]} الحرام ، فتحول النساء مكان الرجال ، والرجال مكان النساء ، فصلينا السجدتين الباقيتين ، ونحن مستقبلون{[1194]} البيت الحرام .

قال إبراهيم : فحدثني رجال من بني حارثة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بلغه ذلك قال : «أولئك قوم آمنوا بالغيب »{[1195]} .

هذا حديث غريب من هذا الوجه .

{ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ ومما رزقناهم ينفقون }

قال ابن عباس : أي : يقيمون الصلاة بفروضها .

وقال الضحاك ، عن ابن عباس : إقامة{[1196]} الصلاة إتمام{[1197]} الركوع والسجود والتلاوة والخشوع والإقبال عليها فيها .

وقال قتادة : إقامة{[1198]} الصلاة المحافظة على مواقيتها ووضوئها ، وركوعها وسجودها .

وقال مقاتل بن حيان : إقامتها : المحافظة على مواقيتها ، وإسباغ الطهور فيها{[1199]} وتمام ركوعها وسجودها{[1200]} وتلاوة القرآن فيها ، والتشهد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ، فهذا إقامتها .

وقال علي بن أبي طلحة ، وغيره عن ابن عباس : { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } قال : زكاة أموالهم .

وقال السدي ، عن أبي مالك ، وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة عن ابن مسعود ، وعن أناس من أصحاب رسول الله{[1201]} صلى الله عليه وسلم { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } قال : هي نفقة الرجل على أهله ، وهذا قبل أن تنزل الزكاة .

وقال جُوَيْبر ، عن الضحاك : كانت النفقات قربات{[1202]} يتقربون بها إلى الله على قدر ميسرتهم وجهدهم ، حتى نزلت فرائض الصدقات : سبعُ آيات في سورة براءة ، مما يذكر فيهن الصدقات ، هن الناسخات المُثْبَتَات .

وقال قتادة : { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } فأنفقوا مما أعطاكم الله ، هذه الأموال عواري وودائع عندك يا ابن آدم ، يوشك أن تفارقها .

واختار ابن جرير أن الآية عامة في الزكاة والنفقات ، فإنه قال : وأولى التأويلات وأحقها بصفة القوم : أن يكونوا لجميع اللازم لهم في أموالهم مُؤَدّين ، زكاة كان ذلك أو نفقة مَنْ لزمته نفقته ، من أهل أو عيال وغيرهم ، ممن تجب عليهم نفقته بالقرابة والملك وغير ذلك ؛ لأن الله تعالى عم وصفهم ومدحهم بذلك ، وكل من الإنفاق والزكاة ممدوح به محمود عليه .

قلت : كثيرًا ما يقرن الله تعالى بين الصلاة والإنفاق من الأموال ، فإن الصلاة حق الله وعبادته ، وهي مشتملة على توحيده والثناء عليه ، وتمجيده والابتهال إليه ، ودعائه والتوكل عليه ؛ والإنفاق هو الإحسان إلى المخلوقين بالنفع المتعدي إليهم ، وأولى الناس بذلك القرابات والأهلون والمماليك ، ثم الأجانب ، فكل من النفقات الواجبة والزكاة المفروضة داخل في قوله تعالى : { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } ولهذا ثبت في الصحيحين عن ابن عمر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «بُنِيَ الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وصوم رمضان ، وحج البيت »{[1203]} . والأحاديث في هذا كثيرة .

وأصل الصلاة في كلام العرب الدعاء ، قال الأعشى :

لها حارس لا يبرحُ الدهرَ بَيْتَها *** وإن ذُبحَتْ صلى عليها وزَمْزَما{[1204]}

وقال أيضًا{[1205]} وقابلها الريح في دَنّها *** وصلى على دَنّها وارتسم{[1206]}

أنشدهما ابن جرير مستشهدا على ذلك .

وقال الآخر - وهو الأعشى أيضًا - :

تقول بنتي وقد قَرَّبتُ مرتحلا *** يا رب جنب أبي الأوصابَ والوَجَعَا

عليكِ مثلُ الذي صليتِ فاغتمضي *** نوما فإن لِجَنب المرء مُضْطجعا

يقول : عليك من الدعاء مثل الذي دعيته لي . وهذا ظاهر ، ثم استعملت الصلاة في الشرع في ذات الركوع والسجود والأفعال المخصوصة في الأوقات المخصوصة ، بشروطها المعروفة ، وصفاتها ، وأنواعها [ المشروعة ]{[1207]} المشهورة .

وقال ابن جرير : وأرى أن الصلاة المفروضة سميت صلاة ؛ لأن المصلي يتعرض لاستنجاح طلبته من ثواب الله بعمله ، مع ما يسأل ربه من{[1208]} حاجته{[1209]} .

[ وقيل : هي مشتقة من الصلَوَيْن إذا تحركا في الصلاة عند{[1210]} الركوع ، وهما عرقان يمتدان من الظهر حتى يكتنفا{[1211]} عجب الذنب ، ومنه سمي المصلي ؛ وهو الثاني للسابق في حلبة الخيل ، وفيه نظر ، وقيل : هي مشتقة من الصلى ، وهو الملازمة للشيء من قوله : { لا يَصْلاهَا } أي : يلزمها ويدوم فيها { إِلا الأشْقَى } [ الليل : 15 ] وقيل : مشتقة من تصلية الخشبة في النار لتقوّم ، كما أن المصلي يقوّم عوجه بالصلاة : { إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ } [ العنكبوت : 45 ] واشتقاقها من الدعاء أصح وأشهر ، والله أعلم ]{[1212]} .

وأما الزكاة فسيأتي الكلام عليها في موضعه ، إن شاء الله .

/خ20


[1175]:في جـ، ط: "وأفردنا".
[1176]:في جـ، ط: "رسول الله".
[1177]:في أ: "زيد".
[1178]:سنن سعيد بن منصور برقم (180) تحقيق د. الحميد.
[1179]:تفسير ابن أبي حاتم (1/34) والمستدرك (2/260).
[1180]:زيادة من جـ، ط، ب، أ، و.
[1181]:في هـ: "أسد".
[1182]:في جـ: "فعدنا".
[1183]:في جـ: "أأحد".
[1184]:المسند (4/106) قال الحافظ ابن حجر في الإصابة (4/33): "واختلف فيه على الأوزاعي، فقال الأكثر: عن أسيد عن خالد بن دريك عن ابن محيريز. وقال ابن شماسة: عن الأوزاعي عن أسيد عن صالح بن محمد حدثني أبو جمعة به" وقال في فتح الباري (7/6): "إسناده حسن".
[1185]:في جـ: "انصرفنا".
[1186]:ورواه الطبراني في المعجم الكبير (4/23) عن بكر بن سهل عن عبد الله بن صالح به.
[1187]:ورواه الطبراني في المعجم الكبير (4/23) من طريق ضمرة بن ربيعة به.
[1188]:جزء الحسن بن عرفة برقم (19).
[1189]:مسند أبي يعلى (1/147) والمستدرك (4/85) وتعقب الذهبي الحاكم فقال: "بل ضعفوه".
[1190]:رواه البزار في مسنده (2840) "كشف الأستار" من طريق سعيد بن بشير، عن قتادة، عن أنس رضي الله عنه، وقال: "غريب من حديث أنس".
[1191]:في هـ: "نويلة".
[1192]:في جـ: "المسجد الأقصى".
[1193]:في جـ، ط: "بيت الله".
[1194]:في طـ، ب، أ، و: "مستقبلوا".
[1195]:تفسير ابن أبي حاتم (1/36) وفي إسناده إسحاق بن إدريس قال البخاري: "تركه الناس". وقال ابن معين: "يضع الحديث". ورواه الطبراني في المعجم الكبير (24/207) من طريق إبراهيم بن حمزة الزبيري، عن إبراهيم بن جعفر عن أبيه به نحوه.
[1196]:في جـ، ط: "إقام".
[1197]:في جـ، ط، ب: "تمام".
[1198]:في طـ: "إقام".
[1199]:في جـ: "لها".
[1200]:في جـ: "وإتمام الركوع والسجود".
[1201]:في جـ: "وإتمام الركوع والسجود".
[1202]:في جـ، ط، ب: "قربانا".
[1203]:صحيح البخاري برقم (8) وصحيح مسلم برقم (16).
[1204]:البيت في تفسير الطبري (1/242).
[1205]:في ب: "الآخر".
[1206]:البيت في تفسير الطبري (1/242).
[1207]:زيادة من ط.
[1208]:في جـ، ط، ب، أ، و: "فيها".
[1209]:في أ، و: "حاجاته".
[1210]:في أ: "في".
[1211]:في أ: "يكشفا".
[1212]:زيادة من جـ، ط، ب، أ، و